منذ قدوم طفلي إلى الدنيا تبدلت معالم أشياء عدة .. لونت حياتي بالفرح ، دبيب الحياة ينبض في أحشائي ، دونت تاريخ ميلادي لحظة تلك الابتسامة التي ارتسمت على وجه الطبيبة الألمانية سوزانا : سيدة حسيني أنت حامل . حملتني ابتسامتها بين سحابات الفرح ثم قذفت بي وهي تلمح لسنواتي الأربعين ، والخطر المحتمل لي ولجنيني ، خرجت من العيادة الطبية بصحبة زوجي ممسكاً بيدي بحنو وعاطفة تبث في روحي السكينة ، دلفت الى أول كابينة هاتف عمومي صادفتني ، أدرت مفتاح قلبي ثم أرقامه تباعاً لأول صوت يسمعني ، زغردت أمي فرحاً لكني خنقت فرحتها بمخاوفي ، هدأت من رعبي و قلقي ، حملتني بالدعوات والأدعية ، وتأملنا رحمة الله الواسعة . شهور حملي تمر بتواتر هادئ كافحنا بضراوة ، لموعد لقائنا ، حددناه بعد العملية القيصرية بساعتين ، نور سماوي يشع من وجهه الوردي الناعم وعينيه الصغيرتين ، يتعالى صراخه ، يتلقف حلمة ثدي المحتقن بالحليب بشهية وشراهة أثارت استغراب الأطباء والممرضات. بقدومه صار لبيتنا نبض ، لون وإشعاعات من وهج ، كركرات الحياة تطفح من كل زاوية فيه موسيقى بكائه تطربنا ، لم نألف أدوارنا بعد ، كان أبوه يحمله بين ذراعيه ويدور لساعات بين غرف الشقة ، رافضاً كل اعتراضاتي ، وعندما بدأ ينطق حروفه الأولى ، كان ينا ديني بابا وينادي والده ( ماما ) ، بعد شهرين صار ينادينا ( باما ) لكلينا ، تتفتح طفولته الغضة عن ذكاء مبكر لطفل في مثل عمره ، يتفتق عن مواهب في الغناء والحساب ، وتعلم الألمانية من متابعة الأفلام الكارتونية ، لم أحدثكم عن كل هذا ، ستقولون ، كلام أمهات مهووسات بتصوير أبنائهن بالتميز والذكاء الخارق ، مبالغات سمعناها كثيراً ، عذراً ليس ما تقولونه حقيقة ، ما رأيكم أنه صار يمشي ويتكلم قبل أن يبلغ عامه الأول ، ثم دخل عالم الكومبيوتر وصار يعد إلى المئة قبل أن يتم الثالثة من عمره ، ماذا تقولون ترهات امرأة مجنونة ترقد في مصح نفسي ، حسناً اقلبوا الصفحة واستسلموا للنوم ... اليوم بالذات ليس لدي متسع من الوقت لهذيانكم ، تحضيرات كثيرة في انتظاري ، رحلة التسوق كانت ممتعة حقاً , اشتريت كل مستلزمات حفلة عيد ميلاده الثالث ، الزينة والبالونات الملونة والأقنعة وقوالب الحلوى المزينة بالكريمة والشوكلاتة والكرز الأحمر الذي يحبه ، وهديته التي اختارها سيارة إسعاف تسير بالريموت كنترول ، انهمك زوجي في تعليق الزينة والنشرة الضوئية بمصابيحها ذات الألوان الكريستالية ، دعوت بعض جاراتي في بنايتنا المتكونة من عشرة طوابق ، نقيم نحن في الطابق التاسع منها ، كانت حفلة رائعة امتدت لساعات ، رقص الأطفال وغنوا وأتوا على قوالب الحلوى تماماً ، وفي نهاية المطاف تشاجروا وتنافسوا فيما بينهم على الانفراد باللعب بسيارة صغيري الكبيرة الحجم الجذابة بسرعتها وضوئها الأحمر الدوار ، وصوت بوقها المرتفع كبوق سيارة إسعاف حقيقية . دلفت إلى فراشي متعبة ، تاركة فوضى الشقة إلى اليوم التالي ، الذي ما أن أشرق صباحه حتى انصرفت إلى إزالة عبث الأطفال وفوضاهم ، وأبقيت على الزينة معلقة لأحافظ على الجو الاحتفالي في شقتنا أيام أخرى ، فتحت النوافذ على مصراعيها ليدخل الهواء إلى شقتنا الصغيرة المختنقة بقطع الأثاث ، كان صغيري في غرفته يلعب باندماج كبير وهدوء لم نألفه مبتهجاً بسيارته وبذلك الصوت الذي تحدثه كلما تحركت ، جاءني أكثر من مرة مقترح أن ننزل إلى حديقة المجمع السكني التي تضم أرجوحة وبعض الألعاب ، اعتدت عصر كل يوم أن ألتقي بجاراتي من مختلف الجنسيات على مصطبات الحديقة الخضراء ، نتحاذب أطراف الحديث ، وأخبار الجارات ، والعالم حيث يكون ما يجري في العراق طاغياً على كل المواضيع ، تجري نقاشاتنا بلغة ألمانية ركيكة ، وإن تعسرت علينا الكلمات نوضحها بالإشارات ، وعدته بالنزول إلى الحديقة بعد أن نتناول طعام الغداء ، تناولنا غداءنا نحن الثلاثة ، لم يأكل بشهيته المعهودة ،لإنصرافه عن الأكل باللعب بسيارته الجديدة ، دخلنا المصعد هابطين إلى الطابق الأرضي في البناية متوجهين إلى الحديقة الخلفية ، ودعنا زوجي ذاهباً إلى عمله المسائي في مطعم للبيتزا يستهلك معظم لياليه ، واقفاً أمام الفرن الكهربائي ، ورائحة البصل والتونة تفوح من كل مسامات جسده ، أشعر بوخزات الخجل الآن عندما أتذكر صرخاتي التي أستقبله بها كل ليلة محذرة إياه من الدخول إلى غرفة النوم قبل استحمامه ، مكثنا في الحديقة ساعات ثلاث ، بدأت قرصات البرد التشرينية تدب في جسدي مخترقة كنزتي القطنية قاومت البرودة التي تسربت إلى عظامي لأدعه مستمتعاً دقائق أخرى في لعبه وابتهاجه مع الصغار ، ثم سحبته من يده الصغيرة ، اعترض ممانعاً ، طامعاً بدقائق أخرى . ناديته مرات ، دخلت غرفته باحثة عنه ، أدخل الغرف الأخرى ، ورعدة خفية تنهش أعماقي ،لحظات وسيل الاحتمالات تتقافز في ذهني ، أين اختفى ؟ تحت السرير ، أو داخل دولاب الملابس ، رغم تحذيراتي من تكرار مقالبه التي يفاجئني بها دوما ، وعندما تأكدت من عدم وجوده داخل الشقة ، رجحت أن يكون قد فتح الباب وعاد مجدداً للعب مع الصغار رميت سترتي على كتفي وشرعت بفتح الباب الذي رن جرسه في تلك الأثناء ،كانت جارتي السورية ، واقفة مذهولة تسألني باتهام : ليش تاركة الصغير نايم تحت ؟ ارتعدت صارخة : حمودي ينام تحت ؟ تغيرت سحنة جارتي وشحب لونها ، حينها أدركت أني أواجه مصيبتي ، دخلنا المصعد ، كان بطوابقه التسعة يهبط بي إلى غياهب المجهول ، هاربة إلى العدم ولا شيء سواه ، دهر طاف عبر التلاشي أعادني الى زمن عمري الذي عشته بلا معنى قبل أن يحل وجوده في دنياي ، كنت ألمح وجهي مرسوماً رعباً في عين جارتي من بياض بشرتي وجفاف فمي وازرقاق أطرافي ، مستندة الى جدار المصعد ، وما أن فتح بابه تهاويت وسقطت أرضاً ، لم تعد قدماي تقويان على حمل جسدي ، أرى أشباحا بشرية تتراكض من أمامي إلى الجهة الخلفية من البناية ، فقدت الرؤية دقائق ، والنسوة يسحبنني سحباً إلى حتفي ، قدماي متصلبتان كعصاتين خشبيتين ، سحباً يسحبونني إليه ، وأنا أتقهقر ، كان منكفئاً على وجهه لا أحد يجرؤ على قلبه ، كانت مهمتي قلبه لأرى أحب وجه إلى قلبي مهشماً تتدفق دماؤه الدافئة ، من أنفه وأذنيه ، يداه الصغيرتان تشققتا من قوة التشبث بحافات النافذة الأسمنتية الخارجية ،جاهد كثيراً عندما أدركه الخطر المحدق بجسده الصغير ، حاول التسلق ثانية إلى حافة النافذة الداخلية لغرفة الجلوس التي وضع عليها سيارته ، وعندما ضغط على الريموت كنترول ، اندفعت بسرعة خارجاً إلى الحافة الأسمنتية ، ثم توقفت ، حاول استعادتها مستعيناً بالوسائد في محاولة لالتقاط سيارته التي يراها عن قرب ولا يقوى على الإمساك بها حين اختل توازنه هابطاً على رأسه من الطابق التاسع إلى الأرض وبجانبه سيارة إسعاف أخرى حملته وسط وجوم مميت لف المكان ، زمان لا أعيه وأنا هنا وحيدة أعيش في غربة داخل غربتي في مصح نفسي في مدينة جبلية معزولة ، فقدت قدرتي على الكلام منذ أن عشت وسط الغرباء ، لا تربطني بهم صلات ولا أفهم لغتهم ، تباعدت زيارات زوجي ،الباردة المفعمة بالصمت ونظرات الاشفاق طلبت منه في الزيارة الاخيرة أن أعود إلى وطني ، تحجج برفض إدارة المستشفى لعدم أهليتي النفسية والعقلية ، رفضت زياراته ، تقطعت كل خيوط الوصل بيننا ، منذ أن تركني أواجه احتضاري اليومي في منفى فوق قمة جبلية ،إن شئتم افتحوا الصفحة الآن وأعيدوا قراءتي .