نبذة عن حياة الأديب هرمان هيسه، كاتب ألماني، حاز على جائزة نوبل سنة 1946. ولقد اقترن اسمه عالميا بروايته الشهيرة (ذئب الفلوات). واقترنت أعماله الروائية، بالبحث عن معنى "التوازن والسعادة" في عالم مضطرب. لقد كان العثور على "مفتاح السعادة"، في كتابات (هيسة)، جوابا لأزمة الطفولة والشباب، التي عاشها الكاتب. لقد عاش أزمة نفسية عميقة كانت نتيجتها، الاستشفاء بسحر الكتابة. ولا نقصد بأن الكتابة أو القراءة، هما بشكل عام، بلسما لكل العقد والأزمات النفسية الفردية. وإنما مثلما يقول الكاتب وبشكل واضح وعميق في آن، يكمن سر هذه الطمأنينة النفسية، في التصالح مع الطبيعة الذاتية والشخصية للأنا. فتصالح الإنسان مع غريزته ومجراه الطبيعي، هو في الوقت نفسه شهادة وقوف ملتزم، في وجه كل التيارات الحداثية اللا أخلاقية. ولقد مر الكاتب في صباه بمحاولة انتحار، وهو في الخامسة عشرة من عمره. لكنه استطاع أن يتجاوز أزمته النفسية هذه، حين أدرك معنى التصالح مع الذات. ولن نستغرب هذا التصريح للكاتب، من سيرته الذاتية، حيث يقول، بأنه كان قد قرر، وهو لم يتجاوز سن الثالثة عشرة من عمره، بأنه قد قرر أن يصبح شاعرا ولا شيء سواه. وهكذا مارا عبر صيرورته، من فشل لآخر، لغاية ما قادته الأقدار أخيرا، إلى العمل كمكتبي في إحدى المكتبات. ومن دأبه على الكتابة والمواظبة عليها وصل (هيسه) إلى مرفأ الأمان، مدفوعا بريح الكتابة وأشرعتها. الكتابة التي أصبحت لديه، الوسيلة المادية والروحية، التي من خلالها أوجد لنفسه، مكانا مبشرا بالأمان والسكينة، من هذا العالم. وهكذا من روايته ("بيتر كامنزيد" إلى "ذئب الفلوات" مرورا ب"سيداترا" )، جاءت أعماله الروائية، أو كتاباته بالأحرى، كتعبير تمثيلي ورمزي لعالمه الروحاني الداخلي. ولقد ارتأى النقاد المتتبعون لكتابات الكاتب، بأنه رجل فكر في ثياب كاتب روائي. وتكاد تكون نصوصه الروائية نصوصا فلسفية. بينما ظل الكاتب من جهته، يتكلم عن نفسه بتواضع كبير، قائلا بأنه ليس سوى رجل طموح. وكان هدفه العميق من وراء كل كتاباته، دفع القارئ الأوربي، إلى التفكير في هذا المجتمع الصناعي المعقد بمتطلباته الحداثية، ومواجهته بالتأكيد على دور الفرد، بقواه الروحية في داخل مجتمعه، بل داخل المجتمع الإنساني ككل. ونختم أخيرا هذه النبذة، بمقولة من مقولات الكاتب، حيث يقول: " إن مفتاح السعادة يتواجد لدى كل واحد منا، في داخله وليس للإنسان من مخرج، إلا حين يتمكن من تحقيق توازنه الطبيعي، داخل كل هذه المتناقضات".
رسالة إلى فنان شاب 5 يناير 1949 عزيزي ج.ك. شكرا لك على رسالتك، بمناسبة حلول السنة الميلادية الجديدة. إنها رسالة حزينة، وتعبر عن خيبة نفسك، في آن، ولكني أتفهم الوضع جيّدا. وفي رسالتك أيضا، هذه الجملة، حيث تقول، بأنك مسكون بهاجس تلك الفكرة، التي توحي إليك، بأنه ثمة "معنى"، و"مهمة" قد وكلت لشخصك، وحياتك. وكونك في هذه الأثناء تتألم، لأنك لحد الآن، لم تعلن عن معناك، ولم تحقق تلك المهمة، التي وكلت إليك. وهذا ما يمكن أن أعتبره، شيئا إيجابيا، ومشجعا، لأنه حقيقي، بالمعنى الحرفي للكلمة. لذا أذكرك، بأن تتأمل بين الحين والآخر، في هذه الملاحظات البسيطة، التي سأوجهها لَكَ، بخصوص هذا الموضوع. وهذه الملاحظات، المتمثلة في ردود فعلي، ليست مني، وإنما هي قديمة، قدم الزمان، وتنتمي لأولئك الرجال، الذين عبروا بها، وبشكل إيجابي، عن أنفسهم، وعن المهام، التي أسندت إليهم. ما تعمله في حياتك، وأعني ليس فقط كفنان، ولكن كإنسان، وزوج، وأب، وصديق، وجار، إلخ ... كل هذا يستحسن، من حيث ارتباطه بوظيفة "المعنى" الخالد للعالم، ومعايير العدالة الخالدة، لكن ليس بالاستناد، إلى مقياس مرجعي محدد، ولكن بتطبيقك لأفعالك، حسب معاييرك الخاصة بك. وأعني، الفريدة والشخصية. والمولى حين سيسألك، فإنه لن يسألك:" هل كنت (هودلر أو بيكاسو أو بستالوزّي أو كوتيلف؟) ". بل سيسألك في المقابل:" هل كنت فعلا وما تزال هذا ج.ك. هذا الذي بموجبه ورثت عنه مستلزمات معينة؟ ". مسئولا بهذه الطريقة، فليس ثمة أي رجل، بقادر على إثارة خِصَله، وخشيته، ووجوده، ومتاهاته. بل كل ما في استطاعته، على الأقل، أن يقول مجيبا:" كلا لم أكن ذاك الرجل، ولكني حاولت جهد إمكاني أن أكونه حسب إمكانياتي، وطاقت قواي". وإذا كان في استطاعته أن يقول ذاك بكل صراحة، فإنه سيكون لا محالة مبررا له، ولسوف يخرج منتصرا من اختباره. و إذا كنت متضايقا من صور تمثيلية، مثل "المولى" أو "الحاكم الأبدي"، فبإمكانك أن تتركها جانبا، لأن هذه التصورات التمثيلية، ليست على قدر كبير من الأهمية. فالشيء الأكثر أهمية، أن نعلم بان كل واحد منا، هو مستودع تراث، وحامل لمهمة. فكل واحد منا قد ورث عن أمه، وأبيه، وعن أجداده، وعن شعبه ولغته، بعض الخواص الحميدة والقبيحة، في آن، قد تكون مشرفة أو وضيعة. وكل هذه الخصال مجتمعة، تجعل منا ما نحن عليه. أي بما معناه، هذه الحقيقة الفريدة، التي تجعل منك أنت المسمى (ج.ك.)، ما أنت عليه. هذه الحقيقة الفريدة، التي من واجب كل منا، أن يمنحها قيمتها، أن يعيشها لمنتهاها، وان يصل بها إلى سن النضج، وان يعيدها أخيرا في حالة إتقان متقدم نوعا ما. وبإمكاننا أن نسوق بهذه الخصوص، بعضا من تلك الأمثلة التي تخلف فينا انطباعات لا تمحى، والتي نجدها بكثرة في التاريخ البشري الكوني وفي تاريخ الفن. وهكذا مثلما يحصل لنا ان نراه، في الخرافات العجيبة، فإنه ثمة هنالك دائما شخص، نسميه ببليد العائلة، أو مغفلها، ذاك الذي لا يصلح لشيء. ويحصل في هذه الأثناء، أن تسقط على عاتقه، مهمة القيام بالدور الأساسي. ووفاء هذا المغفل لشخصه بالذات، هو الذي يبرزه في مظهره الخارجي كإنسان بليد، إذا ما قارناه بباقي الأشخاص الذين يتميزون بقدرات، ومواهب أكثر منه، والذين يبدون مؤهلين، من أول لحظة، بالتفوق والنجاح. وقياسا على هذا المثال، كانت عائلة (بريتانو)، تعيش في مستهل القرن المنصرم، ب(فرانكفورت). عائلة غنية بأفرادها، على مستوى راق من الذكاء. ومن بين عشرين طفل الذين كانت تتألف منهم الأسرة، اثنان منهما ما زالا يتمتعان بشهرة نادرة، ليومنا هذا وهما الشاعران:( كليمونس وبتينا بريتانو). إذن، فإن هؤلاء الأولاد والبنات المتعددين، كانوا كلهم موهوبين، أذكياء، ذوي عقول مستنيرة، بالدرجة الأولى، باستثناء الابن الأكبر الذي كان وظل ذا عقل بسيط، والذي قد قضى مجمل حياته في البيت العائلي، قضاها كعبقرية بَيْتِيّة هادئة، لا تزعج أحدا، ولا يزعجها احد. وكرجل متدين، كان يرعى كل واجبات الرحمة والرأفة. وكابن وأخ، فإنه كان يتصف بكل مظاهر الصبر والحلم، في وسط هذه الكتلة الروحانية البهيجة، التي يمثلها إخوته وأخواته. نعم، في وسط كانت مظاهر العجرفة الخارجية فيه، على أشدها. وفي هذا المناخ، كان صاحبنا، يتحول يوما بعد يوم، إلى مركز هدوء، وسكينة هذه الأسرة. أي بما معناه، إلى جوهرة يتيمة، وغريبة، تشع منها كل أنوار الرحمة والسلام. لقد كان الإخوة والأخوات، يتحدثون عن هذا المزاج البسيط، عن هذا المخلوق الصبياني، باحترام وحنان، لم يكنوه، ولم يعبروا به عنه، لأي مخلوق بشري آخر. فقد شاءت المقادير إذن، أن تمنح هذا المخلوق "المغفل"، "معنى" و"مهمة"، حمل مهامها، بصفة كاملة، أكثر من كل عبقري، من عباقرة إخوته، وأخواته. وباختصار، حين يبدي أحد ما رغبته في تبرير حياته، فليس المستوى العام لفعله، ذاك المنظور إليه من وجهة نظر موضوعية، هو الذي يهم، بل أن يعبر عن معطيات طبيعته الخاصة، تلك التي مُنِحت له، بكل ما أوتيت من صراحة، في وجوده وفي أعماله. ثمة إغراءات لا تعد ولا تحصى، تنحرف بنا وباستمرار عن هذه الطريق. والإغراءات الأكثر قوة، هي تلك التي توهمنا في الأعماق، بأنه بإمكاننا أن نكون إنسانا آخر، مخالفا تماما، لما نحن عليه في الحقيقة. وهكذا نبدأ بتقليد بعض النماذج، و ملاحقة تلك المثل، التي ليس في استطاعتنا مساواتها، أو بلوغها. ولهذا فإن الإغراءات تظل جد قوية، خصوصا، عند أولئك الأشخاص، الذين يتمتعون بمواهب متميزة. وهي تكون عند هؤلاء أكثر خطورة، من مجرد مجازفة أنانية بسيطة، مع كل ما تحمل من مخاطر عامية، لأن لها في الظاهر، نبالة الروح، والخلق. وكل شاب، في لحظة ما من حياته، قد حلم بقيادة عربة أو قاطرة، أن يكون صيادا أو جنرالا، وفيما بعد، أن يصبح كاتبا، مثل (غوته)، أو (دون جوان)، إنها سنة طبيعية، ملازمة للتطور الطبيعي لكل شخص، وهي أيضا، طريقة لإتمام تربيته الخاصة به: لأن الخيال، إذا صح التعبير، عبر هذا التلمّس، يربط اتصالاته بإمكانيات المستقبل. ولكن الحياة لا تلبي طلب هذه الرغبات، ومن هنا، فإن مثل الطفولة والشباب، تموت من تلقاء نفسها. ومع ذلك، نظل نتمنى، القيام بأعمال، لم نُجعل من أجلها، فيحصل لنا أن نصاب بالارتباك، لأننا نحاول أن نُحَمّل طبيعتنا، متطلبات تغتصبها. هكذا نتصرف جميعا، ولكن في الوقت نفسه، في أوقات صفائنا الداخلي، فإننا نشعر دائما، وإضافة، بأنه ليس ثمة طريق في الوجود، يقودنا خارج أنفسنا، نحو شيء آخر. وبأنه علينا أن نعبر الحياة بالمعطيات الإيجابية والسلبية الخاصة بنا، والمتعلقة بنا بشكل فردي. وهكذا يحصل لنا أحيانا، أن نقوم ببعض المجهودات، فنحقق نجاحا، نحو شيء كنا لغاية الآن، عاجزين على إنجازه. و للحظة، وبدون تردد، نرد الاعتبار لنفسنا، فنشعر بالرضا على أنفسنا. بطبيعة الحال، إن هذا السرور لا يكون دائما، ولكنه يمنح حرمتنا الداخلية، الشعور بالنضج، والتطور الطبيعي. بهذا الشرط فقط، يمكننا أن نربط علاقة منسجمة مع العالم. وإذا كان من النادر، أو من المتعذر علينا نحن، معرفة حالة كهذه، فإن التجربة التي يمكننا أن نخوضها بشأنها،لا يمكنها إلا أن تكون أكثر عمقا. وبتذكيرنا للمهمة التي وكلت لكل شخص، والتي تختلف من شخص لآخر، فإنه علي أن لا أنسى، بأنني لا أخمن بتاتا بأن أولائك المولعين بالفن، شبانا كانوا أو كبارا، ينادون دائما، بالدفاع وبالتأكيد عن شخصيتهم الفردية، وعن خصوصيتهم. و مما يفهم من تلقاء نفسه، أن الفنان، حين يجعل من الفن مهنته، وغاية وجوده، عليه أن يبدأ، أولا وقبل كل شيء، بتعلم كل ما يتعلق بمهنته. وعليه أن لا يعتقد بأن لا ضرورة من تلقن هذا الجانب المهني، بسبب خصوصيته، وشخصيته النفيسة. إن الفنان، الذي خلال ممارسته لفنه، يتهرب من ضرورة التعلم، والمعاناة القاسية، سوف تكون له المواقف نفسها في حياته، ولن يكون عادلا، لا اتجاه أصدقائه، ولا النساء، ولا حتى اتجاه أبنائه ومجتمعه. وما قد يحصل له، أنه سينحى جانبا، بالرغم من خصوصيته، وهكذا سيترك نفسه تسقط إلى الحضيض، دونما أن يعود بالفضل على أحد، والأمثلة بهذا الخصوص متوفرة بكثرة. إن المجهود الشخصي لتمثل واقتناء، ما يستوجب أن يقتنى، يعتبر واجبا مبدئيا في ميدان الفن، كما في ميدان الحياة اليومية. على الطفل أن يتعلم كيف يأكل، كيف يكون نظيفا، وكذلك تعليمه القراءة والكتابة. إن تعلم كل ما بإمكانه أن يُدرَس، لن يكون قط عقبة في تطورنا، بل بالعكس، مساهمة في تكوين شخصنا وإغنائه. إنني أخجل من نفسي، أن أكتب بصيغة مباشرة، مسائل عادية وبادية للكل كهذه. ولكني توصلت إلى هذه النقطة، حيث يبدو لنا، بأن لا أحد له غريزة ردة الفعل، بأن يتصرف حسب القواعد الفطرية الطبيعية. وكأن الأمر يتعلق، بتعويض هذه الغريزة، بعبادة بدائية لما هو رائع وسخيف وشاذ. في ميدان الفن، إنني لست أبدا، من المعادين للحداثة، بل بالعكس، وهذا الشيء تعرفه تماما. لكن فيما يتعلق بالميدان الأخلاقي، إي بما معناه، حين يتعلق الأمر بتصرف الإنسان، في مقابل المهمة التي وكلت إليه، وتستوجب عليه، فإن الموضات والإبتكرات الحداثية، تصبح مشبوهة عندي، لأني جد حذر، حين أسمع رجالا عاقلين، وهم يتحدثون عن الأخلاق الحديثة، وعن علم الخلاق، مثلما نتحدث عن الموضة، وعن الأساليب في الفن. بل ثمة شيء آخر، يتطلب من الإنسان، في عالمنا الحالي، وهذه المتطلبات نلاقيها، لدى كل من الأحزاب السياسة، والأساتذة الجامعيين وحملة دعوة الأخلاق الكونية. أصبح كل هؤلاء، يتطلبون من الناس، أن يتخلوا، هكذا ودفعة واحدة، عن نفسه وعن الفكرة التي تجعل منه خصوصيته، وبالمقابل أن ينصهر في نمط الإنسانية العادي او المثالي الذي أصبح يرمز إلى إنسان المستقبل. أي أن يتحول إلى إنسان آلي، إلى مجرد زنبرك في هذه الآلية الضخمة. آلية الأزمنة الحديثة، التي حولت الملايين من البشر مثله، إلى عبارة عن وحدات آلية داخل آلة هائلة. ليست بي رغبة، في التعليق على أخلاقيات هذه المتطلبات، نعم، إن لها جانبها البطولي والفخم، ولكني لا أومن بها. إن وضع الناس في مصاف واحد، بالرغم من كل النوايا العالمية الطيبة، تعتبر خطوة مضادة لطبيعة البشر، ولن تقود هؤلاء الناس قط، إلى الصفاء والسلم، بل إلى التعصب والحرب. في الأعماق، يتعلق الأمر بمتطلبات رهبانية، وليست لها من مشروعية، إلا حين يتعلق الأمر بالرهبان، وبأناس دخلوا في هذه الصفوف الرهبانية، برغبتهم ومشيئتهم. وفي هذه الأثناء، فأنا لا أومن بأن مثل هذه المتطلبات، المرتبطة بالموضة، بإمكانها أن تشكل خطرا علي. لقد لاحظت، بأن رسالتي قد كادت أن تتحول إلى مبحث. ولقد ارتأيت أن أطبع منها بضعة نسخات، كيما أوزعها على أشخاص أخر لقراءتها. وأتمنى أن ليس لديك أي مانع في هذا القرار. -انتهت-