لقد ساهمت الترجمة بشكل كبير في تقدم البشرية وتطور الشعوب، وكذا في حوار الحضارات وتشكيل ملامح التاريخ الذي ما يزال يشهد على أن لها من الخصائص ما يضعها في خانة العلوم. إذا كانت الترجمة علما وإبداعا، فمن أين تستمد أهميتها؟ وكيف يتسنى لنا الاستفادة منها لتحقيق الثورة الثقافية؟ لا مراء في أن الترجمة ترسم نوافذ لتطل الأمم على بعضها البعض، وتفسح المجال بتوارث وتناول التجارب التي مهدت للعظمة التي يعيشها العالم اليوم. كثيرة هي فوائد الترجمة، ولعل الحلول التي قدمتها عبر التاريخ تكفي لأن نستحضر أنه في يوم من الأيام حيث يروي أن العالم كله – لن نناقش إن كان الأمر أسطورة أو حقيقة – كان يتحدث لغة واحدة مع شعب بابل، وبعد أن حلت عليهم لعنة الله وسخطه عليهم لتحديهم له– لما يعرف بقصة برج بابل– كانت عاقبتهم بأن فرق ألسنتهم وشتتهم في مغارب الأرض ومشارقها لتصبح الترجمة بعد ذلك ضرورة تاريخية. الفرنسي جورج ستوينر George STEINER (1929 ) الذي يعتبر من الفلاسفة واللسانيين الأوربيين البارزين وظف هذه الأسطورة في كتابه الشهير "ما بعد بابل" ليصل إلى الفكرة التي مفادها أن ما حدث في بابل بتفريق الألسن كانت نعمة وهبة من الله ولم تكن بالمطلق لعنة إلاهية لأن الاختلاف رحمة. ونقرأ في مقال بجريدة البائيس الإسبانية بتاريخ 28/01/1985 في نفس السياق يقول فالنتين جارسيا ييبرا YEBRA (1917) V. García -لذي هو بالمناسبة- أحد أهم المترجمين والأكاديميين الإسبان ما يلي: "إن كل لغة تزداد غنا بالعناصر الجديدة التي تنضاف إليها عن طريق الترجمة ... لأن اللغات كالشعوب تحتاج إلى ضخ دماء جديدة". وإذا كانت الترجمة قادرة على زرع الروح في اللغة والثقافة، فبالأحرى علينا أن نتساءل عن الأرضية التي ستنطلق منها، وتكون بذلك قادرة على تحقيق الأهداف التي سطرت لها سلفا. فبداية يجب أن تتوفر مراكز و مؤسسات تختص بالترجمة شبيهة بتلك التي تعمل في نفس المجال منذ قرون خلت. ويكفينا هنا استحضار تجربة مدرسة المترجمين في طليطلة التي شيدها ألفونصو العاشر في القرن الثالث عشر لكي نستفيد منها. كما يجب أن تكون هناك معاهد متخصصة تهتم بشتى أنواع الترجمة التي يمكن لها أن توفر مؤلفات ذات قيمة عالية من شأنها أن ترفع من مستوى الطالب والباحث المغربي وتساهم بالارتقاء بالبحث العلمي والثقافي والوعي العربي بصفة عامة. وصولا عند هذه النقطة لابد من التذكير أن المترجم هو المعني بقانون اللعبة وهو الربان القادر على قيادة السفينة إلى بر الأمان، لذلك يجب عليه أن يكون دقيقا ومتخصصا وأن يعالج النص والموضوع الذي هو بصدده، وطرح إشكاليته العامة، وردها إلى أصولها التاريخية والمعرفية، وتفكيك اشتغالها على موضوعها وتحليل ما يتحصل لديه تبعا لذلك من مضامين وطروحات في النص الذي يترجمه. وأن يتوفر لديه دعم مادي ومعنوي من المؤسسات المعنية بالأمر الذي يتوجب عليها تنظيم مسابقات وتظاهرات منتظمة يستفيد منها المترجمون الشباب حتى يتسنى لهم الرفع من قدراتهم وبالتالي من جودة الترجمة. يبيد أن السؤال الأكثر حيرة كيف يمكن للمترجم أن يزاوج بين الذات المترجمة والاختلاف الشاسع الذي يبعده عن الثقافات الأخرى في ظل الواقع المُعَوْلَم الذي يفرض نفسه بقوة؟ إن الترجمة بهذا المعنى تساهم في التلاقح الحضاري، واكتشاف ما يميز شعوب العالم عن بعضها البعض وكل هذا يستدعي من المترجم نوع من الدراية والحنكة بخصوص الثقافات الأخرى حتى يتمم تقريب الصورة الأخرى " الآخر" قدر المستطاع وبأكبر قدر ممكن من الأمانة. فإذا ما قمنا بنظرة بسيطة على جارتنا الشمالية إسبانيا سنجد أن وزارة الثقافة تولي الترجمة أهمية بالغة. يكفينا أن نطلع على الموقع الرسمي للوزارة لنعلم أنها خصصت ما بين سنة 2004-2008 ميزانية قدرها 277.774.2 أورو للترجمة التي تهتم بلغاتها المحلية فيما بينها وهي أربع لغات (القشتالية والباسكية والكطلانية والكاليسية) أما الميزانية المخصصة للرفع من قيمة المؤلفات المترجمة من الإسبانية إلى اللغات الأخرى فقد وصل المبلغ ب 3.772.610 مليون أورو ويكفينا علما أن المؤلفات المترجمة تحتل نسبة مهمة من مجموع إنتاج الكتب والمنشورات تصل إلى 25 % أي ربع الإنتاج وهذا وحده يعطي فكرة عن أهمية الترجمة في هذا البلد والقفزة التي جعلت منه رائدا في هذا المجال الحيوي. وفي نفس السياق لن ننفك عن التذكير أن كل ثورة ثقافية تنطلق من ذاتها، أي مما عندها ويميزها كثقافة والتي تزداد توهجا وقوة بانفتاحها على الثقافات الأخرى والتي كذلك لا يمكن أن تتحقق دون الرجوع إلى الترجمة. فالثورة الثقافية لا نقصد بها ما فعله ماوتسي تونغ منذ 42 سنة، بل نقصد الانقلاب على الوضع المتردي الذي نعيشه اليوم في بلداننا العربية على المستوى المعرفي ومدى ارتباطنا بتراثنا وماهيتنا. وعليه فإن المشهد الثقافي يحتاج إلى نهضة قوية وفعالة. وذلك يجب الاستعانة بالترجمة كأحد الأدوات والآليات الضرورية. لكن قبل كل شيء يجب علينا أن نعود إلى ذواتنا أولا أي أن نترجم تاريخنا وفكرنا وفلسفتنا وفهمهم جيدا. وإلا فالقاعدة تقول: "فاقد الشيء لا يعطيه". وإذا كانت الترجمة خيانة كما يقال، فإن التاريخ يقول أنها فعل إنساني يساهم في التواصل الحضاري بين الشعوب والثقافات وهي ضرورة أنطولوجية للتعبير عن الكائن ووجوده في هذا الزمن كما أنها خير وسيلة للخروج من العزلة التي تعيشها الأمم.