أن يهدد الفتى بقتل أبيه إن لم يتركه يفعل ما يريد، ويهدم حياته التي تفانى في بنائها وتكوينها. فذاك ما لا يقبله عقل ولا قلب. وأن يقتل الأب ابنه، فلذة كبده، فذاك أمر خطير ولا يحتمل القبول به في عرف بني البشر فوق الأرض. ولا يتركه يمر سليما إلى السماء، ثم يجد نفسه فجأة قد ارتكب أكبر خطيئة في حياته لا يستطيع أن يحتملها أو أن يتحملها قلبه، فيهب نفسه لشيطان الانتحار الذي يضع حدا لحياة اثنين من بني البشر في لحظة غضب وبعد عن السوية والتعقل. فما أتعس الباقين على قيد الحياة الذين استفاقوا من سباتهم ليجدوا عنوان الرجولة يقتل ويموت في رمشة عين. فيعرف البيت ظلاما يغمره طوال الحياة، ويكنس معنى الاستقرار والسعادة منه، ويغربل جزيئات التعاسة والحقارة في فنائه، ولكنهم لا يستطيعون أن يلمسوا الحقيقة الآن لشدة غموضها المحتجبة عن الأعين، فيصمتون صمتا غريبا ويبكون ما للبكاء من حدود. دخل إبراهيم الرجل العامل البسيط في شركة صناعية بمدينة الدارالبيضاء غرفة ابنه البكر الذي ولد بعد ابنته أسماء، ووجد عبدالإله الابن العاق الذي تغيرت تصرفاته وأحاديثه مؤخرا مع الكل في البيت. وهو تلميذ بسلك الثانوي. جميل المحيا وكثير الشعر، ذو بدانة كأنه يفرط في الأكل والشرب، وبدت عليه ملامح الغضب تغمر صفحة وجهه سمات الجريمة احتجبت بسرعة وراء ابتسامة النفاق التي واجه بها والده لما دخل عليه. كان الولد يضع أمامه على مكتبه – عوض الكتب والأقلام وينهمك في المطالعة والبحث- قنينة خمر رخيصة وكأسا نصف فارغ وعيناه قد احمرتا من كثرة الشرب. لم يصدق إبراهيم ما ألفى عليه ابنه البكر الذي كان يتمنى في نفسه أن يصبح عظيم الشأن في حياته وينقذه وينقذ عائلته الصغيرة من براثن الفقر والضياع. ماذا يمكن لرجل مثله يجد ابنه في حالة الضياع تلك أن يفعله؟ بماذا سيتصرف أب مثله عندما يجد فلذة كبده التي يعول عليها في إنقاذه يسقط في بحر الملذات والشهوات القاتلة؟. لم يفكر الأب طويلا قبل أن يبدأ في إرسال اللكمات والركلات إلى ابنه الضائع. فما كان من عبدالإله ، وكان ثملا، إلا أن يقاوم مقاومة عنيفة ركلات وصفعات أبيه المؤلمة التي كان يرسلها إليه بدون تحفظ مقدما أغلى ما لديه من شتائم إلى أبيه المكلوم، مكثرا في حقد بالغ لعناته وبصقاته. فاستل الأب الغاضب خنجرا من تحت معطفه كان يحتفظ به ليعينه في صد هجمات قطاع الطرق وهو في طريقه إلى العمل، وبينما الولد السكران منشغل بتحسس أوجاعه وآلامه طعنه أبوه طعنة حاقدة أتبعها الابن المطعون بأنةٍ قوية ارتجت لها جدران البيت بأسى ولوعة، أما عرش الله فلا تسل.... !!