- هل تعرفون السبب الذي أوحى لعبّاس الطيران في الجو؟ انتبهَ الضيوفُ الأربعةُ إليه، وهم يترقبون ما سيقولهُ مع عِلمهم المُسبق بأنهُ سوف يكذب. - وما هي؟ ردَّ عليه أكبرُ أولادِ عمّهِ الذي كان يجلسُ في صدرِ الغرفة. - حسناً، قبل أن يحاولَ عباسٌ الطيران بأيامٍ قليلةٍ ويموت، تراهنَ هو وأحدُ أصدقائهِ المقرّبين فيمن سيستطيعُ منهما أكلَ أكبرَ كميةٍ من الحُمَّص المطبوخ، لكن عبّاس وفي سِرِّهِ لم يكن ليأكلَ أكثرَ ممّا تتحمّلُهُ معدته، لأنه كان ذكياً ويعلمُ بأن الأكلَ زيادةً عن طاقتهِ سيضُرّهُ كثيراً وسيتألمُ جرّائهُ لأيّام، أمّا صاحبهُ المسكين فقد أكلَ حوالي عشرة كيلوغرامات من الحُمّصْ (وهنا بدأ الضيوفُ ينظرُ بعضُهم إلى بعضٍ وفي عيونهم دموعُ الضّحكِ المكبوت) ووقعَ على الأرضِ لا يستطيعُ حراكاً، وبعدها بلحظاتٍ انتفختْ بطنهُ بشكلٍ غريب، ثم طارْ. مع الكلمةِ الأخيرة التي تفوّهَ بها، لم يتحمل أحدُ أبناءِ عمّهِ هذا الكلام، وأمسكَ ببطنهِ واستلقى على الأرضِ وهو يضحكُ بصوتٍ عالٍ، استغلَّ البقيّةُ الفرصةَ والتفّوا حولهُ محاولين إسكاته، وقد كانت فرصةً جيدةً لهم ليُخرجوا ما بداخلهم من ضَحك، ثم صاحَ أكبرهم سِنّاً والذي أشرنا إليه قبلَ قليل، وهو الوحيدُ الذي كان مسيطراً على نفسهِ ولم تبدُ على وجههِ أيُّ علامةٍ تدلُّ على إنه لا يُصدِّقُ حديثَ ابن عمّه، وطَرَدَ الضّاحكَ من الغرفة، ثم اعتذرَ من المُضيفِ ورجاهُ أن يُكمِلَ قصّتهُ المشوِّقة التي لم يَسمع بها من قبل. قبل الراوي اعتذارَ الكبير وأكملَ قائلاً: - طارَ صديقُ عبّاس في الجو، وشيئاً فشيئاً بدأ يختفي، ثم اختفى كُلِّياً في السّماء، نَدِمَ عبّاسٌ على فعلتهِ كثيراً ومع إنهُ لم يكن يَعلمُ ما سيحدثُ لصديقه، عادَ إلى بيتهِ حزيناً ولم يُخبر أحداً بما جرى بينهُ وبين صديقه، وبقِيَ عدّة أيامٍ لا يَخرُجُ من بيته، وكان يتَتَبّعُ أخبارَ صديقهِ الذي أصبحَ شُغلَ النّاسِ الشّاغلِ في المدينة وكيف اختفى فجأة، لذلك قرّرَ أن يَجِدهُ ويُنقِذَهُ ممّا كان سبباً في حدوثهِ له، فخطرتْ في بالهِ فكرةُ الطيران، ولكنهُ لن يطيرَ باستخدامِ الحُمّصِ كما فعل صديقه، لأنهُ لا يعرفُ الطريقةَ التي يمكنهُ بها النزول، فقرّرَ أن يصنعَ أجنحةً من ريشٍ صناعي وسيُحاولُ الطيران، وأنتم تعرِفون تتمّة القصة. عدّل من جلستهِ, ونظرَ في وجوهِ ضيوفهِ الثلاثةِ المتبقين واحداً تلوَ الآخر, كان إثنان منهم تبدو الدموعُ واضحةً في عيونهم، أمّا الكبيرُ فلم تبدُ عليهِ سوى علاماتِ التعجّب، فقال في سرِّه بأنهُ استطاعَ أن يؤثّرَ في الاثنين، أمّا الثالثُ فلابدّ أنهُ سيصرعهُ ويجعلهُ يصدّقُ كلَّ حرف في حكايتهِ القادمة. سألهُ أحدُ الإثنين: - ما الذي جعلكَ تحكي لنا هذه الحكاية؟ - لقد تذكرت مثلاً يقول((الحاجةُ هي أمُّ الإختراع))، فرويتُ لكم هذهِ القصة. فانفجرَ ضاحكاً هو الآخرُ وبصوتٍ أعلى من سابقهِ الذي طُرِدَ قبلَ قليل، وطُرِدَ هو أيضاً، غضبَ المُضيفُ من استهتارِ ضيفيهِ، لكن الكبيرَ اعتذرَ منهُ مرّةً ثانية: - ابن عمي العزيز، أرجوك أن تعذرَ هذين الأحمقين، فهما لا يفهمان بهذهِ الأمورِ شيئاً، وعليك أن لا تتحدّثَ بهذهِ القِصَصِ أمامَ الجهلةِ وغير المثقفين. - أنا أقبلُ اعتذاركَ ولكني لا استطيعُ تفسيرَ ضحكهما إلاّ بأنه استهزاءٌ بي، فهل يعتقدانِ بأنني كنت أكذِبُ مثلاً؟ - كلاّ يا عزيزي، إنهما لا يتجرءان على ذلك، لابدّ وأن الحُمّصَ هو الذي أثارَ ضحكهما. اقتنع المضيفُ بكلامِ ابن عمّه، وهزّ رأسهُ موافقاً ثم ضحِكَ ضحكةً صغيرة. وأكملَ الكبيرُ كلامه: - لقد ذكّرتني بقصّةٍ مُشابهةٍ لقصتكِ هذه، وهي أيضاً لا يعلمها إلاّ القليلُ من الناس، وذلك أن إسحاق في يومٍ من الأيام كان يسيرُ متبختراً وهو يهزُّ برأسهِ ويُغنّي في أحدِ شوراعِ قريته، وكما تعلم فإن إسحاقاً هذا كان شاباً حالماً وذكيّاً جداً، وفجأةً رأى حبيبته بينما كان على مقربةٍ من بيتها، مُخرجةً رأسها من نافذة البيت الخلفية، وهي تُشيرُ بإحدى يديها إلى شخصٍ ما كان إلاّ صديقهُ بينجامين صاحب الفكرةِ الأولى عن صناعةِ الحذواتِ لأقدامِ الخيول، وهو يُحرّكُ يديهِ في الهواءِ راسماً قلباً بحركتها، ثم أرسلتْ لهُ بدورها قُبلةً عَبرَ الهواءِ وأدخلتْ رأسها، تَضايقَ إسحاقٌ من هذا المشهدِ المؤلم الذي رآهُ توّاً وواصلَ سيرهُ على غيرِهدىً حتى وصلَ قربَ شجرةِ تفاحٍ كبيرة، فأعيتهُ قدماه، وجلسَ تحتَ ظِلِّها وهو يتأمّلُ بعينينِ غائرتينِ مغيبَ الشّمس، لم يَشعُر بنفسهِ إلاّ وهو يستيقظَ من نومٍ عميق، وقد شقّتِ الشّمسُ طريقها في كبدِ السماء، ولم يعُدْ ظِلُّ الشّجرةِ يُغطّي سوى رأسهِ وجزءٍ صغيرٍ من صدره، وتذكّرَ أولَ استيقاظهِ حادثةَ الأمس، اعترفَ لنفسهِ وهو المغرورُ ذو الكبرياءِ العالية، بأنه أغبى من تلك البقرةِ التي تسرحُ وتأكلُ من حشائش الأرض قريباً منه لأنهُ أحبَّ فتاةً لعوباً، وبينما هو كذلك ذكّرتهُ البقرةُ الأكولةُ بأنهُ جائعٌ وبأنه لم يأكلْ شيئاً منذُ عصرِ أمس، ولكن ما الذي يستطيعُ أكلهُ في هذا المكان، وهو ليس بقرةً حتى يأكلَ من حشائشِ الأرض؟ فنهضَ على قدميهِ وارتطمَ رأسهُ بتفاحةٍ كبيرة، سقطت التفاحةُ أرضاً، فأخذَ يُحدّثُ نفسهُ بأن المشهدَ اللّعين الذي رآهُ بالأمسِ قد جعلَ عقلهُ يتوقفُ عن التفكير، لدرجةِ أنه نسِيَ حين جاعَ بأنهُ يجلسُ تحتَ أكبرِ شجرةِ تفاحٍ في القرية، انحنى وأمسكَ التفاحةَ بيدهِ وتهاوى على الأرض في مكانه تحتِ الظّلِّ المُتبقّي من الشجرة، وبينما هو يمسَحُها بيده، اقتربَ صاحبُ الشجرةِ منه، وكان فلاحاً ضخماً معروفاً في القريةِ بِبُخلهِ الشديد، وقال لإسحاقٍ بصوتٍ ملؤهُ غضبٌ وغيض: - من سمحَ لك بأن تَقطُفَ التفاحَ من شجرتي أيها الشابُ الوقح، يا قبيحَ الوجه؟ ارتعدتْ فرائصُ إسحاقٍ خوفاً، فهذا الفلاحُ البخيلُ سيفضحهُ في القرية، بل ربما يشتكيهِ إلى زعيمِ القبيلة، وحين يعاقبوهُ وبالتأكيد سيكون النفيُ عقابه، ستكون الفرصةُ سانحةً لبنجامين في أخذِ حبيبتهِ بصورةٍ شرعية، ولن يلومهُ أحدٌ وقتئذٍ، فوقفَ وطرأتْ في رأسهِ فكرةٌ جنونية، وهو المعروفُ بسرعةِ بديهته: - أوه، أيها العم، أنا لم أقطف شيئاً من شجرتك، التفاحةُ سقطتْ من تلقاءِ نفسها، وأنا كنتُ أمسَحُها فقط، هاكَ إياها وانظرْ، أنا لم ألمسها حتى بأسناني. ضَحِكَ الفلاّح بصوتٍ عالٍ، وضَحِكَ معهُ إسحاق، لكن الفلاحَ سكتَ فجاة، وقال مخاطباً إيّاه بكلماتٍ غاضبةٍ تدلُّ على شعورٍ بالاستهزاء: - هيه، أيها الشاب، لا تُثِرْ غضبي أكثر، هل تعتقِدُ بأني فلاحٌ بسيطٌ لا أفهم شيئاً من الحياة؟ وكيف تسقطُ التّفاحةُ من تلقاءِ نفسها، حتى إن السّماءَ اليوم صافيةٌ ولا توجدُ رياحٌ قوية. صمتَ إسحاق برهةً، مُطرِقاً رأسه، مُفكّراً كيف سيُقنِعُ هذا الفلاحَ العنيد، وكعادتهِ وَجَدَ الحلَّ سريعاً: - أنا لم أقصِدْ إهانتك، ولكن التي أسقَطَت التفاحة، جاذبيةُ الأرض. سكتَ الإثنان معاً، لأنهما لم يفهما جيداً بعدُ معنى الكلامِ الذي قيل، حاولَ إسحاق إقناعه، ونجحَ أخيراً بعدَ جُهدٍ طويلٍ في إقناعِ الفلاّح، وإقناعِ نفسهِ أيضاً بالفكرة، ثم حَدَثَ بعدها ما حَدَثْ، وأنتم بالتأكيد تعرفون تتمّة القصّة. فسألَ المُضيف ابن عمّهِ الكبير: - ولكن ما وجهُ التشابُهِ بين قصّتي وقصّتك؟ - لقد تذكّرتَ مثلاً وقصَصْتَ لنا قِصّتك، وأنا أيضاً تذكّرتُ مثلاً فقصَصْتُ قصّتي. - وما هو المثلُ الذي تذكرتّه؟ - حتى إسحاق كان يكذبُ حين تستوجبُ الضرورة فإذاً ((الغايةُ تُبرِّرُ الوسيلة)). نظرَ الكبيرُ في عيونِ أخيه وابن عمه، فانفجرَ الأخيرُ ضاحكاً، فضحِكَ هو أيضاً، ولكنهما فوجئا بالشابِ الصغير، فاغراً فاهُ ينظرُ إلى هذا تارةً وإلى ذاكَ تارةً أخرى، ثم سأل سريعاً موجهاً سؤالهُ لأخيهِ الكبير: - ومن يكون إسحاقٌ هذا؟؟؟