في الصباح الباكر، تقدم الزبون من المحل، سلم على البقال كعادته، سأله عن أحواله وأحوال تجارته... ثم قال بصوت خافت واضعا أصابعه على شفتيه بحركة تثير الضحك: الشيء المعلوم. كان قد تعود أن يشتري من البقال قرصي خبز وقطعتي جبن منذ أن استقر في هذا الحي مع زوجته، كان قد قرر أن ألا تنجب زوجته حتى تستقر أحوالهما وتتحسن ظروفهما. وكعادته وضع قطعا نقدية معلومة على الصندوق الخشبي أمامه، انتظر أن يأخذها البقال ويقول عبارته المعهودة: "الله يخلف عليك"، لكن البقال صمت لحظة متأملا تلك القطع النقدية... ضحك ضحكة خفيفة... قال: يا سبحان الله، ما أسرع ما تتغير الأمور وما أغرب تقلبات الدنيا... نظر إليه الزبون... حذق فيه ... قال بلهجة تحمل سخرية: ما تعودت منك أن تتفلسف... لقد كنا نعدك بسيطا، فها أنت تبدي حذلقة وتنتج معرفة... مهلا مهلا... قال البقال... ما هذا الذي أسمع منك، أنا ما أنتجت لحد الآن إلا فشلا... فهل ما قلته الآن تعدونه أنتم معرفة... فإن كان ما قلته قبل هذا فلسفة فإني أحمد الله تعالى على هذه النعمة التي أسبغ علي وإن كنت أتمنى لو يبدلها أموالا أو سلعة أروجها وأكسب منها قوت يومي... وأتخذ منها رأس مال أستقل به عن صاحب المحل الذي يستغلني كما ترى... فضلا عن أن الفلسفة من السلع التي لا يبحث عنها أمثالي... وأنا إنما قصدت أن أقول بأن المبلغ الذي كنت تدفعه ثمنا لهذه السلعة لم يعد يكفي، فقد زاد ثمن الخبز عشر سنتيمات... وزاد ثمن الزيت والسكر... وما كان بالأمس كذا لم يعد اليوم كذا... عقب الزبون بلهجة فيها مزيج من السخرية والتهكم: أنتم معاشر التجار... لا يملأ بطونكم إلا التراب... من حين إلى حين تزيدون ولا تنقصون... يبدأ أحدكم بالمتجر الصغير ويتلوه بالمتجر الكبير إن لم يختمه بالمتاجر الكبرى والعمارات... كل ذلك على حساب الزبون المغلوب على أمره... واستمر في الحديث يفرغ ما في صدره من هم وكمد ظلا جاثمين هناك لسنين طويلة، زادتهما بؤسا وسوادا، تلك الأزمة القاتمة التي نزلت مؤخرا، من السماء أو من موضع آخر، على كل البسطاء... الأزمة التي خلقت ضغطا نفسيا ما فتئ يزداد ويتأجج حتى انفجر على شكل سيل من العبارات اللاذعة، عبر عنها بصورة من الصور... التجار فجار... التجار كائنات مجهرية تمتص دم البسطاء أمثالي... يقبعون في المتاجر... لا يزرعون ولا يحصدون... الحقيقة أنهم يحصدون لكنهم لا يحصدون إلا أموال البسطاء و"المزاليط" أمثالي... استمر مطر الكلمات غزيرا هادرا مزمجرا... بحيث لم يملك التاجر إلا أن ينتظر هذا السيل لعله يتوقف... كانت نظراته هادئة... فجأة رافقتها ابتسامة جعلت الزبون يدرك فجأة انسيابه وحماقته، فتوقف عن الهدير: معذرة... لقد قسوت عليك، أنت لست مسؤولا عن أي شيء، طمأنه البقال بأنه لم يأخذ الأمور أي مأخذ... أكد له مرة تلو أخرى أن الأمر مسألة عادية وأن صاحبنا يعذره... لأنه ببساطة سبق له أن عانى نفس المعاناة وما زال يعانيها ويقاسي آلامها إلى الآن... لقد شاءت الصدف أن تضع البقال في وجه الزبون... يحمله تبعة ما يقاسي وما يعاني، وإن كان لا يد له في الأمر كله... قال الزبون متظاهرا بأنه مبتسم: طيب، وأين الدليل على ما ادعيته من زيادة في ثمن هذه السلع التي سردت أسماءها واحدة تلو أخرى؟ أجابه البقال بصوت هادئ مطمئن: يا أخي لو هدأت من روعك لرأيت الإعلان على الزجاج أمامك ... حملق صاحبنا في الورقة... بعد لحظات أدرك أنها نسخة باهتة لورقة عليها طابع لم يتمكن من قراءة مصدره... الكتابة كانت واضحة: ثمن البيع للبقال... ثمن البيع للعموم... أعلاها عبارة: إعلان للعموم... وأرقام لم يكلف نفسه عناء قراءتها... تساءل في قرارة نفسه: متى تصدر هذه الإعلانات؟ أقبل أن تحدث الأمور أم بعد حدوثها؟ من يصدرها؟ وكيف يحدث الأمر؟ لم يفهم شيئا... أردف قائلا: لقد مضى زمن طويل لم أشاهد فيه إذاعة هذا البلد الأمين... على الأقل كنت جنبت نفسي هذا الموقف الحرج الغريب، الموقف الذي يؤكد أنني لا أساير الأحداث... طمأنه البقال أن مسالة النقود هينة... فما عليه إلا أن يأخذ السلعة وليأت بالنقود متى تيسرت أو حتى ما شاء ذلك، متأسفا له ومؤكدا أنه لو علم أن الأمر سيؤول إلى هذه الحال لما أخبره خبر هذه الزيادة، ولتحمل تلك السنتيمات العشرة، فهي في نهاية المطاف ربح لا يمس رأس المال في شيء... أن يتنازل عن الربح، عن سنتيمات معدودة أهون عليه من أن يسمع هذا السيل من الشكوى... ولو أن زبونا واحدا من كل عشرة ألقى عليه هذا الكم الهائل من العبارات اللاذعة لانتهى به الأمر في مستشفى الأمراض العصبية، وربما العقلية... وتمنى لو أنه لم يكن بقالا وهو الحاصل على شهادة الإجازة في الحقوق، والظروف، الظروف النتنة كما يسميها والزمن الوغد هما اللذان أوقعاه في هذا الفخ العقيم، ولولا ذلك لكان هو الآخر موظفا يتقاضى راتبا، ولو كان هزيلا، فهو على الأقل سيسمح له بأن يعيش حياة عادية هادئة إلى حد ما، عوض أن يعمل ليلا ونهارا، صباحا ومساء، والنقود تتراكم في جيب صاحب المحل اللعين... عاد من سهوه الحزين، ثم قال: يا أخي حتى لو شاهدت الإذاعة المعلومة وكل إذاعات الدنيا لما وجدت فيها هذا النوع من الأخبار، هذا النوع من الإعلام لا تجده إلا عند البقال، لأن المشرفين على هذا الأمر قرروا من تلقاء أنفسهم، ودون أن يستشيروا أحدا أن يكون البقال وسيطا بينهم وبين الزبون، في نقل خبر الزيادة التي قد تكون، وخبر النقصان الذي لن يكون... أما أن يخبروا المشتري مباشرة، فهذا أمر لا يحبونه ولا يستسيغونه، فهم يتبعون سنة حميدة، على وزن خبر الموت، فأن يموت المرء فجأة أرحم من أن يخبر بموته وبتاريخ ذلك... إذ أنه لو أخبر أحد ما بتاريخ رحيله، أكان ألمه سيتوقف عند الموت فقط، أم أنه سيتألم نفسيا على الأقل قبل ذلك؟ وهو كما تعلم ألم لا معنى له، ألم من شيء لم يحدث بعد، وهم حين يفعلون ذلك إنما يفعلونه حبا في المشتري الذي يكنون له المحبة الغامرة، حيث ارتأوا ألا يجعلوه يحزن بسبب خبر الزيادة وهو بالكاد يتحمل ألما واحدا... عوض أن يتحمل ألمين: ألم الخبر وألم الزيادة... استغل البقال فرصة غياب الزبناء ليسترسل في الحديث، ولم يملك الزبون إلا أن يقف منصتا: لقد قال لي أحد الموزعين للسلع: والله إني لأستغرب من هؤلاء الموظفين، كيف لا يأخذون الأمور مأخذا بسيطا... ويقللوا من الشكوى والصراخ ... ويكتفوا بإنجاز أعمالهم... فكثرة الكلام تمتص طاقة الإنسان... توقف الزبون وعلامات الدهشة تملأ وجهه... صمت برهة وبشكل أثار البقال ليسأله: أهذا الذي قلته أثار دهشتك؟ حرك الزبون رأسه نافيا... أنت من أثار دهشتي واستغرابي... أنت... كيف تأتى لك أيها البقال الماكر أن تحلل الأمور بهذه الدقة؟ لقد جعلتني أشك في أنك بقال أمي، ابتسم البقال دافعا يده في ملف... أخرج منه صفحة تحمل... شهادة الإجازة في الحقوق... كلية الآداب والعلوم الإنسانية... صاح الزبون بلسان عربي فصيح: أيها البقال المثقف... أن أنصرف وعقلي في دماغي خير لي من أن ينصرف عقلي ويترك لي جسدا يتيما... الله يعاونك... وانصرف ويده تحك رأسه... إبراهيم ياسين