ونحن على مشارف الذكرى المئوية الرابعة من طرد المورسكيين آخر المسلمين في الأندلس، نتساءل عن مدى أهمية هذا الحدث وتأثيره على الأمة العربية الإسلامية والإسبانية، لما رافقه من جدال دام أربعمائة سنة، ويبدو أنه سيذهب أبعد من ذلك خصوصا وأن العالم في هذه السنين قد تبنى نقاش صراع/ حوار الحضارات أو نهاية التاريخ و ما جاورهما من بحث ودراسة. فهل ينبغي والحال هذه، تخليد الذكرى أم نسيانها؟كلما طرح أمامي هذا الإشكال العويص والمعقد في التاريخ والتاريخانية، استحضرت صورة المفكر المغربي محمد عبد الواحد العسري: الذي لطالما قال لي في مناسبات عدة: "يجب أن نتذكر جيدا لكي ننسى ". قد يبدو للوهلة الأولى أن هذه الجملة فلسفية جدا، إلا أنها تحمل في طياتها الكثير من المعاني والحكم. فلمن يهمه الأمر، وكان يريد إجابة لهذا الطرد العنصري والمأساوي، الذي لطالما عزف ألحانا؛ عُنونت بتراجيديا التاريخ، نقول: إنه لم يكن من الممكن على إسبانيا أن تحترم بنود المعاهدة التي أبرمها الملك فرناندو والملكة إيزابيلا مع مملكة غرناطة الناصرية الإسلامية عند استسلامها لهم، والتي تلزم على الملوك الكاثوليك أن يتقيدوا أبد الدهر دون الرجوع في ذلك هم ومن سيليهم من الملوك بالحفاظ على دين وعادات وأملاك وكل ما له صلة بالثقافة العربية الإسلامية لمملكة غرناطة. ولا غرو في ذلك، ففي أحد حواراتي مع عبد الواحد العسري أحد المتخصصين في الاستشراق الإسباني وصاحب كتاب "الإسلام في تصورات الاستشراق الإسباني من ريموندس لولوس إلي أسين بلاثيوس " الذي حاز على جائزة الكتاب للمغرب في صنف العلوم الإنسانية سنة 2003 سألته عن سبب طرد المورسكيين فأجابني قائلا: "الطرد كان ضرورة تاريخية : فقيام الدولة الإسبانية على مبدأ جمع تعددها الترابي في مملكة واحدة، وحمل شعوبها المختلفة على معتقد ديني واحد، ومحاولة تعميم الثقافة القشتالية ولغتها عليهم جميعا، حال بينها وبين إمكانية التزامها بجميع مقتضيات هذه المعاهدة"؛ ومن هنا نشير إلى ضرورة فهم معطيات تلك الفترة الانتقالية في تاريخ إسبانيا. فمنذ 1492 شرعت إسبانيا في تصفية كل تعدد أو تنوع عرقي وديني؛ بدء بطرد اليهود السفرديم رغم كل محاولاتهم للبقاء، كما أنها تابعت البروتستانت في كل شبر من المملكة، لتدور الدائرة بعد ذلك على المسلمين الأندلسيين. فبعد مرور ست سنوات من التسامح في عهد الكاردينال طلڤيرا الذي كان يفضل استمالة المسلمين لتنصيرهم بالحسنى، جاء الكاردينال ثيثنيروس الذي أقنع الملوك الكاثوليك أنه لا جدوى من هذا المنهج العقيم العديم الفائدة، وأن المسلمين لن يتخلوا عن دينهم إلا بمنهج الترهيب والقوة، فجاءت محاكم التفتيش لتقود أبشع عملية متابعة وتصفية عرفها التاريخ آنذاك.وقد كانت الخطوة الأولى عملت على تنصير مسلمي غرناطة قصرا وقهرا. في حين شكلت الخطوات التالية مرحلة لمتابعتهم والتنكيل بهم، وذلك نتيجة لأبسط الشكوك التي كانت تذهب ضحيتها أُسر بأكملها، بعدما تم منع تداول اللغة العربية واللباس والعادات والطقوس...حتى المساجد لم تسلم من البطش والجبروت، لتُهدم في كثير من المناسبات فوق رؤوس المصلين. ليتذوق المورسكيون مرارة الكأس وأشد أنواع العذاب والحسرة؛ الشيء الذي دفع هؤلاء الأندلسيين إلى إعلان راية التمرد و العصيان، لتراق فيها الدماء للرُّكب وتتطاير فيها الرقاب. ولعل تشبث المورسكيين بدينهم وثقافتهم، كلفهم غاليا، مما دفع الكثير منهم إلى أن يختار مناطق نائية كجبال البوشرات التي عرفت أعظم ثورة في القرن XVI ما بين 1568 و 1571 في عهد فيليب الثاني، بالرغم من إصرار الموريسكيين طيلة ما ينيف عن قرن على انتمائهم الثقافي، وتشبثهم بدينهم من خلال وقوفهم البطولي في وجه هذا الاجتثاث والتفافهم عليه، عمدت اسبانيا فيما بين 1609و 1614 في عهد فيليب الثالث إلى اغتصاب أرضهم، وإجلائهم عنها بصفة نهائية. لتعلن بعد ذلك اسبانيا عن فشلها الذريع؛ في ما يخص السياسة التي اعتمدتها سُلطاتها الدينية والمدنية بهدف استيعاب أحد مكونات شعبها ضمن مملكتها التيوقراطية، وكذا إرادتها في حذف ماضيها العربي الإسلامي من تاريخها ونسيانه بل ومحوه من ذاكرتها. إن اسبانيا لم تضع نصب عينيها أية مصوغات أخلاقية لهذه الأقلية، التي لا طالما تميزت بجديتها وإتقانها لعملها في شتى المجالات. فاسبانيا عانت الأمرين بعد هذا الطرد: الأول يتجلى في التخلي عن مئات الآلاف من المواطنين والرعايا الذين شكلوا القوة الضاربة للاقتصاد الإسباني؛ بمعنى أن اسبانيا كانت تعرف أن هذا الطرد سيكلفها ضريبة باهضة، ومع ذلك لم تتردد في طرد نسبة كبيرة جدا من اليد العاملة النشيطة والمؤثرة في ديمغرافية المملكة. أما الأمر الثاني فيتمحور حول غياب بل واندثار بعض الحرف والصنائع التي كان المورسكيون يختصون بها: كالفلاحة التي كانت عصب الحياة ومصدر رزق الإسبان، هذه الأخيرة عرفت كسادا وجفافا منقطع النظير مما جعل بعض كبار الملاكين يطالبون بإعادة النظر في هذا الطرد الذي أقل ما يمكن وصفه هو بالفاجعة والكارثة. تدخلات رجال الكنيسة لم تترك للملك فيليب الثالث أية حلول للتراجع عن هذا القرار المصيري، وذلك بعد إلصاق كل مشاكل اسبانيا بالمورسكين؛ فتارة ما نعتوا بالتجسس (طابور خامس) لحساب العثمانيين، وتارة أخرى للفرنسيين والمغاربة، كما أنهم وصفوا بالكفار والمنافقين، وقد زاد الطين بله الإنتاج الأدبي الغزير لكبار الكتاب وشعراء القرن الذهبي الإسباني كأمثال: لوپي دي ڤيگا وكالديرون دي لا باركا وگونگورا وكيڤيدو...الذين عملوا أقسى ما لديهم من تقنيات وأساليب للسخرية والتقليل من شأن المورسكيين، باستثناء سيرفانطيس الذي "تعاطف" مع المورسكيين، بل وقد صرح في مقدمة رائعته (دون كيشوط) أن مورسكيا اسمه سيدي حاميطي بننجلي هو من كتب الرواية، وأن موريسكيا آخر، هو من ترجمها له، بالإضافة إلى سيل من الإحالات التي تصف عالم الموريسكيين، لعل أبرزها قصة ريكوطي جار ثانشو بانثا الذي هجر إلى ألمانيا ورجع لأنه لم يصبر على فراق أرض أجداده باسبانيا.كنتيجة لكل ما سبق أصدر الملك فيليب الثالث قراره الأخير والنهائي بطرد الموريسكيين (1609-1614). ليتشتتوا بين كثير من جهات عالم القرن السابع عشر، التي سيحملون إليها ثقافتهم نحو تحولات أخرى ومصائر جديدة، فمثلا في المغرب استطاعوا أن يستقلوا بمدينة سلا، وهناك من وصفها بجمهورية سلا الموريسكية، إذ لا تزال هناك رسائل بعثت من رؤسائها إلى انجلترا ودول أخرى. أما من اختار العيش تحت جناح السلاطين السعديين أو العلويين بعد ذاك، فقد كانت لهم مكانة مرموقة، وذلك لثقافتهم ودرايتهم بشؤون الزراعة و الطب والعلوم والحروب... ما جعلهم يتقلدون مناصب مهمة، إذ منهم من قاد حملات كبرى لا يزال يذكرها التاريخ، كما هو الشأن بالنسبة لجودر باشا الذي فتح مملكة تانبوكتو. الموريسكيون شكلوا قوة ضاربة، إلا أنهم في أحيان كثيرة وقعوا في شرك الخيانات والمؤامرات، مما دفع بالسلاطين إلى إعدامهم لعدم ولائهم. لقد حاولنا إعطاء نظرة موجزة عن أهم أسباب الطرد المأساوي ومحنة المورسكيين، لكن يبقى السؤال: ألم يكن بالإمكان أفضل مما كان؟، ألم يكن بوسع العالم العربي أن يساعد الموريسكيين؟ ألا تشبه تراجيديا المورسكيين مأساة فلسطين؟ الإجابة عن هذه الأسئلة ، ستستدعي منا وقفات تأملية عميقة، إلا أننا يمكن أن نجزم أن الدول العربية آنذاك كانت هي الأخرى تعرف تشرذما وضعفا إبان سيطرة العثمانيين على كل العالم العربي. وحتى المغرب الذي كان مستقل أنذاك، ولم تطله أيادي العثمانيين، كان يحافظ على استقلاله بالتحالف مع اسبانيا ضد العثمانيين والعكس صحيح، و الضحية هنا هم المورسكيون الذين واجهوا مصيرهم وقاتلوا إلى الرمق الأخير. اليوم نتساءل عن مستقبل فلسطين وشعبه الأعزل، الذي يتعرض يوميا إلى الانتهاكات والممارسات العدوانية من طرف الكيان الصهيوني الغاشم، نتساءل عن ملايين اللاجئين، عن ملايين المهاجرين في كل بقاع الدنيا، عن جرائم الحرب التي ترتكب ضده كل يوم، ما هو مآل هذا الشعب المقاوم الذي طعن من الأخوة قبل الأعداء ؟ من سينجده و يغيثه وهو يلامس الضعف وقلة الحيلة في أثخنهم؟ أنا شخصيا أتعجب كيف أن العالم يتحدث عن حوار الحضارات والثقافات والأديان، وأرض السلام مهد الأديان السماوية والحضارات (مع احترامي لبقية الأديان والحضارات الأخرى)، تُنتهك كل يوم أمام منأى ومرأى من الجميع. قد نتذكر جيدا لكي ننسى تراجيديا الموريسكين، لكن سرعان ما سنستيقظ على صراخ مأساة فلسطين.