(صوتان): - إذن أنتَ تخاف..أو تستعد لتخاف! - سأجيبكَ لاحقاً.. - متى؟ - .. ربما حينما أستردُّ شموخي الذابل.. **** (صوتُ الخائفِ مِنْ وعَلَى نفسه): - دب الحزن في عروقي وجاء الشرود ليحمل ما أكله الحزن على أجنحة الكآبة، هل فعلاً دب الحزن في عروقي وجاء الشرود ليحمل ما أكله الحزن على أجنحة الكآآآآآبة..؟ انتهى كل شيء.لا أقوى على الوقوف، أنا خائف، أؤكد لكِ ذلك، أنا خائف، يفتكني الحزن والرماد الذي يتساقط مني الآن ليتراكمَ على حافة الطريق التي تشهد فراقنا.. - إذن تْفُووووو..! **** (صوتُ الخائفِ معها/ مِنْها/ فِيهَا/ وعليها): ابتلع الأسى آخر عهد لي بالبِشْرِ، هل أقف بعدها يا ترى ..؟ أُغمغمُ .. أبكي كطفل لم يرَ أمه قط، ثم أنزلقُ في صمت رهيب، أحدق في الغروب بعينين دامعتين ووجه غارق في الألم، وألوّح في الفراغ ذات اليمين وذات الشمال بيد مرتعشة وبصري تائه شاخص في عرض الأفق، وبهدوء بالغٍ أُهمهمُ شاردا وباكيا بحرارة: - ودا .. وداعا أيها الغروب حتى غروب آخر. يُداهم نسيم المساء رغبة جديدة في البكاء فَيَئِدُ بعضها، غروب الشمس يتغلغل ليس في الأفق فحسب بل في داخلي أيضا، إحساس غريب يستبد بي، يأخذ بتلابيب الفناء ليلطم قطرة خجولة من الأمل ظلتْ تتردد في القلب ونحن على حافة الفراق، قلتُ بصوت مُتْعَبٍ لا يخلو من انهيار حقيقي: - لا أدري لماذا يقتحمني الاكتئاب وأنا أودعك اللحظة ! - كأني بك تودع الوجود، ما بك ؟ - لا شيء .. أحس فقط وكأنني فهد محبوس في قفص قاسٍ .. أرسلتُ عينين غاصّتين في الألم إلى ألق عينيها، وقلتُ متخطيا انتظارها لجوابي: - آه .. هل تذكرين اليوم الأول يوم التقينا، كنتُ أبدو واقفا بعض الشيء أليس كذلك ..؟ - وستظل كذلك إن شاء الله. ابتسم داخلي بسخرية بالغة لم تطل فأخفيتها بسرعة حالما لاح لها الشتات في ثغري الجاف، فقلت لها وأنا ألحظ دهشة مفاجئة تتردد في تقاسيم وجهها الجميل: - كنتُ واقفا لما كنتِ تساعدينني على الوقوف وتعلمينني ذلك لكن .. أمسكتْ عن الكلام، والدموع تداهمني وتبلل رجولتي، وتجتاحها من حيث لا أدري، نفسي تتعرى وتنكشف بلا مساحيق، تفضح نفسها بنفسها. امتد صمت ثقيل بيننا، حلّق نورس فوق هامتينا، حدقتْ فيه طويلا ثم أدارتْ بصرها نحوي، أشارت إلى النورس فوْقنا وقالت باهتمام: - أَتَرَى هذا النورس؟ هل يسقط الآن وهو يخترق بجناحيه شموخ السماء؟ - هو خُلق للسماء فكيف سيسقط منها؟ - ..هل تراه؟ إنه عظيم! - عظيم فقط لأنه في السماء يطير. - لماذا لا تكون عظيما مثله ؟ - العظماء لا يصلون إلى السماء ولا يعيشون فيها ! - تستطيع أن تصل يوما. ندّت عني ابتسامة فاترة، أرخيتُ بصري إلى الأرض وأنا أسخر من كل شيء: من نفسي، وسقوطي، وترددي في الوقوف، ونهايتي.قلتُ وصدري كأن صحراء لهيبة تنزل على ضيقه لتشعل فيه المزيد من الكآبات: - أستطيع أن أصل يوما ؟؟ ربما ومن يدري ..؟ - ممّ تخاف؟ - ألاّ أقف بعدكِ. - لا تخف، أنا حاضرة معك دائما في وجدانك. - وجداني هاجت فيه عقارب الأسى والضجر .. - هَيّءْ رئتيك لهواءٍ جديد، وانسَ ما كنتَ تتنفسه في واقع الناس وواقعك دفعة واحدة. - أنا أتنفس هواءً كأن فيه حجارة من سجّيل ! - اِجْعَلْهُ عبقاً من ورود الربيع. - سأحاول .. لكنني أخاف ألا أقف بعدكِ .. كل رغبة في الوقوف تنفر مني وتتلاشى، لستُ أدري لماذا؟ لماذا ..؟ ابتسمتْ، وقالت بدعابة: - إذن نحن نراهن في حلبة الحياة على فرسٍ ضعيفة واهنة ..ما هذا الذي تقول؟ لا تشد الرحال طويلا إلى الماضي واحشرْ نفسكَ في الحاضر وامتدّ فيه، سأدعو الله أن يجعلك واقفا إلى الأبد .. ابتسمتُ، أو بكيتُ/ لا أعرف.. نظرتُ إلى هيبتها وقدّها الوديع، أمعنتُ النظر فيها طويلا، لم أشأ أن أخرج عيني من عذوبتها طرفة عين، أردتُ أن أملأ نفسي بشيء منها حتى لا يتلاشى - إطلاقا- شيء منها في داخلي، كان ذلك وداعنا، قلت والدموع تملأ صفحة وجهي الشاحب: - شكرا لك على كل شيء. - لا تشكرني واشكر الله. صمتتْ هنيهة ثم أفاضتْ حنانها وجماله على انهياري، وقالت وقد مسّها بعض الذي مسني من العبرات الخانقة: - إإإإ..نك واقف دائما ، فلا تخف، وارحل من وهمٍ اسمه الخوف .. راحت.آه .. ! ذهبتْ مع آخر شعاع لشمس الأصيل، غابتا معاً لكنها وحدها ساطعة في أعماقي مهما غربت أختها، ومن يدري ربما أستغني عن هذه ما دامت هي تنير باطني لأقف بلا خوف! **** (صوت الخائف مِنْ وعَلَى نفسه): ..مسحتُ المرآة، تهيأتُ لأضعها في رفوف الذكرى، سخرتُ من دموعي المتدفقة كَالبَوْلِ الْمَزْرُومِ/كَمَخَاطٍ مُتدفقٍ في أنفِ طفلٍ يتيمٍ/ في طقوسٍ لاَزَوَرْدِيّةٍ على صفحة المرآة، وسخرتُ من الأيام التي سحقتْ كل شيء، ثم قرأتُ قصيدتي القديمة: (في حضرة المرآة) كَسّري المرآة ألا ترينني فيكِ؟ لماذا تنظرين إلى المرآة كالغريب؟ انظُري إليَّ كيْ تَرَيْنَكِ فِيَّ واجعليني فيكِ أغيب.. ضحكتُ مني، خفتُ مني، فخلدتُ إلى النوم لعلي أتخففُ مني ومن خوفي ..