حين أطل علينا عبد الإله بلقزيز منذ قرابة ستِّ سنوات برائعته (رائحة المكان)اكتشفنا فيه مبدعا مفتونا بالسرد مسكونا بالإحساس الجمالي باللغة والأشياء . اكتشفنا فيه خامة قصصية و روائية من طراز رفيع . و كأن المبدع فيه كان راقدا في بيَات شتوي طويل، حتى استوفى بيَاته و اسْتكمل عُدّته فآذن صُبْحه بالافْترار. و ها هي ذي روايته الباذخة الأنيقة ( صيف جليدي) آية على هذا الحراك الإبداعي – الروائي الجميل الذي جاءه على ريْث و مهَل، وجاءنا كالطبق الشهي الناضج فوق نار هادئة. عبد الإله بلقزيز و للإشارة الأولية الجديرة بالذكر، فقد أصبحت الرواية بشكل خاص ، قِبْلة لأنظار المبدعين و الكتّاب المغاربة و مهْوى أقلامهم و نفوسهم، حتى الباحثين والمفكرين منهم. وعبد الإله بلقزيز واحد من هؤلاء. إنه إذن سحر الرواية الذي يسمح بنفْض المكنون و المخزون و الغوْص في أصقاع المسكوت عنه و اللاّمفكر فيه. و رواية ( صيف جليدي) على وجه التحديد، تعْزف بحرارة و مهارة على هذه الأوتار الساخنة الحساسة . إنها بعبارة، رواية ساخنة بأحداثها و شخوصها وأزْمنتها وأمكنتها و لغتها وأسلوبها . طافحة ، كما نقرأ في مستهلّها، ( بالكمّ الهائل من الخواطر و الخيالات والأحلام و الكوابيس و الكلام الافتراضي الداخلي الذي لا ينتهي ) ص 9. و لعل هذه الحَشْدية الروائية الساخنة، هي التي حدَتْ بالكاتب إلى أن يصدّر روايته بذلك التنبيه الشهير ( جميع الشخصيات الواردة في هذه الرواية هي من نسج الخيال و لا تمتّ للواقع بصلة، و أي تشابه في الأسماء أو الأحداث هو صدفة ليس إلا …) لكن هذا التنبيه الذي صار من المسكوكات Les clichées أصبح في كثير من الحالات الروائية، مؤشّرا و دليلا على انْغراس الرواية في حمْأة الواقع، ونُزوعها عن قوس الواقعية. و رواية ( صيف جليدي ) مُوغلة في الواقع، نازعة عن الواقعية . مع احْتساب البهارات الخيالية الجميلة التي يتقن بلقزيز طبيخها. و لا بد لكلّ واقع من لمسة خيال، حتى تستوي الرواية. كما هو الشأن في (صيف جليدي) . فما حكاية هذا الطّباق المثير في العنوان، صيف و جليد ؟! إنه عنوان يريده الكاتب جامعا مانعا لأحداث و فواجع الصيف الساخن الذي اعتُقل فيه بطل الرواية على الزهراوي، و الذي صار جرّاء هذه الأحداث والفواجع صيفا جليديا، عانى فيه المرائر. إنه الصيف الذي شهد أحداث انتفاضة الدارالبيضاء في 21 يونيه 1981، وما تخلّلها و أعقبها من حملة اعتقالات شرسة طالت عديدا من مناضلي الاتحاد الاشتراكي والكونفدرالية الديمقراطية للشغل . و كان علي الزهراوي المراكشي الجامعي و الموظف حديثا في أحد فروع البنك الشعبي بالقنيطرة، أحد هؤلاء الذي شملهم الاعتقال و حُوكم لسنتين . عن هذا الصيف الجليدي و ما تلاه …نقرأ على لسان سميرة الأخت الصغرى لعلي / – [ .. غير أن حزني في تلك الأيام من صيف العام 1981 كان مضاعفا وشديدا، يتعصّى على المقاومة، و كان مزدوجا في الآن عينه، عنوانه رحيل أب و اختفاء أخ في الوقت نفسه. وثقل الحدثين مؤلم كما لم أعرف لمثل وطأته سابقة في حياتي] ص 157 و نقرأ على لسان السارد عن علي / – [ يقرّ في نفسه أن وفاء هي المكافأة الوحيدة التي تلقّاها من السماء طيلة هذه السنوات الأربع القاسية العجفاء التي مرت عليه و فقد فيها كل شيء: حريته، و عمله، ووالده، و ليلى، و براءة سميرة، و صورة إبراهيم، وثقته بالحزب والأصدقاء ..] ص 228. تختصر الفقرة ، أهم الفواجع النازلة بساحة علي الزهراوي و المحوّلة صيفه أو صُيوفه جليدا / – اعتقاله و سجنه – فقدانه لعمله – موت والده – و هو في غيّابة السجن – فقْدانه ليلى –تحجّب أخته الصغرى والأثيرة سميرة و تزمّتها الديني – اكتشاف السلوك المهني الشائن لأخيه المحامي إبراهيم – و أسَاه و عدم رضاه عن المآل الذي آل إليه حزبه .. كما تختصر الفقرة أهم الشخوص المؤثثة لبرنامج الرواية و الناسجة لخيوط حبْكتها وسردها. الوالد – ليلى – سميرة – إبراهيم – وفاء … تُضاف إلى نظائرها الأخرى / الوالدة – الأخت الكبرى كريمة – عائشة – و زوجها عبد الله .. هذه الشخوص الرئيسة هي العمود الفقري للرواية و هي لُحمة وسَدا سردها وحبكتها. و في فلكها تتحرك و تدور الشخصية الرئيسة ، علي الزهراوي . وقد نعكس الآية اقترابا من الحقيقة فنقول، في فلك الشخصية الرئيسة علي الزهراوي، تتحرّك وتدور الشخصيات الآنفة مجتمعة. إن لشخصيته في الرواية سلطة كارزمية واضحة، إنه شخصية نرجسية بامتياز . ذكّرتني و أنا أتابع الرواية برواية أوسكار وايلد ( صورة دوريان جراي ) . تبدأ الرواية إذن، من نقطة سياسية و اجتماعية ساخنة، انتفاضة الدارالبيضاء في يونيه 1981. بما يرشّح الرواية، على هذا النحو أو ذاك لشؤون السياسة و شجونها. و هل يمكن تُرى لعبد الإله بلقزيز أن يتنفّس و يكتب بدون سياسة ؟! ما أظن ذلك متأتيا له. لكن في نهاية الرواية، كما سنرى، يبدو كأنه ضاق ذرعا بالسياسة وهُمومها ومدّها و جزْرها، بعد أن اهتزت من حوله كثير من اليقينيات. لكن الرواية مع ذلك ، مع هذا الزّخم السياسي الساري بين فصولها وسطورها، محفل رحيب و خصيب للسرد و الكتابة، أو لنقل تحديدا، لمُتْعة السرد و متعة الكتابة. محفل تتجاور و تتضافر فيه السياسة و الثقافة و الحب و الجنس و الكتابة والكآبة .. كما تخترق الرواية بدقة سردية و وصفية عالية الحياة العائلية لآل الزهراوي، و تجْلو الحياة الدراسية و الجامعية التي جمعت بين شخوصها في الرباط و مراكش .. و في مقدّمتها المسار العلمي الجامعي لعلي الزهري، قُطْب الرواية و محورها… تجُوب بنا الرواية فضائيا شوارع الرباط و مراكش .. كما تجوب بنا سيكولوجيا الشوارع الجوّانية و السرية لشُخوصها. و الحق أن الكاتب لا يترك صغيرة أو كبيرة لها علاقة بالمتن الحكائي وصيْرورة أحداثه، إلاّ أحْصَاها. لا تندّ عنه شاردة أو واردة. و هو في ذلك شبيه بشارلوك هولمز، أو كتاّب الرواية البوليسية الذين يتلصّصون على دقائق الأشياء و الأسرار. ولعلّ هذا هو سبب بعض " التمطيط " السردي الذي نلحظه في الرواية، من وجهة نظر نقدية لا معْدى عنها، و الذي كان وراء هذا الحجم الهائل من الصفحات الذي يناهز 374 صفحة . ذلك أن بعض الوقائع السردية يعاد حكيها أحيانا بأصوات أخرى، لملْء بعض البياضات وإضاءة بعض العتمات. علما بان الرواية تتراوح في سردها نحويا بين الضميرين، الغائب و المتكلّم. ففي فصل ( صدى الأصوات البعيدة )، تُعاد الوقائع على لسان الأخت الصغرى سميرة. و في فصل ( عائشة ) تُعاد الوقائع على لسان عائشة زوجة عبد الله و صديقة علي… و الرواية بالمناسبة، موزّعة برنامجا، إلى أحد عشر فصلا مُعنْونا، يتناوب على سردها كما سلف الضمير الغائب والضمير المتكلم . و كما عوّدنا بلقزيز دائما، تحضر متعة و بهجة الكتابة في أدبه و إبداعه.. تحضر متعة الكتابة هذه المرة مضروبة في متعة السرد. إنه صائد و صائغ جيد للآليء و فُصوص اللغة و التعبير، و ناسج ماهر لحرير الكتابة… و يهمني أن أشرككم هنا في الاستماع إلى بعض إشراقاته و لوامعه /. نقرأ في ص 42، و علي في الزنزانة / – [ تسلل إلى سمعه الداخلي صوت محمود درويش و مرسيل خليفة " أحن إلى خبز أمي ، و قهوة أمي، و لمسة أمي ". كان يرغب أن يصدّ عنه غارات العواطف، لكنه لم يقْو على أن يمنع عينيه من الكلام السائل . ] – و في ص 43/ – [ كانا أشبه بالزوجين، تعوّد ان يقول لها مازحا " لا نختلف عن سائر المتزوجين سوى في أننا لم نسمح للإمام مالك بأن يتدخل طرفا بيننا ] – و في صفحة 128، نقرأ هذه العبارة الساتيريكية / – [ ما إن حصل الإعلان المعجب في ما وقع في بلاد المغرب، من تواطؤ السرفاتي و الخميني و " الموساد" على سيناريو مرعب، حتى انطلقت غريزة الافتراس، من كل عِقال و احتباس، فسيق المئات من الناس إلى مراكز الشرطة في جنح الليل و في وضح النهار .. ] هذه شواهد و لُمَع من لغة الكاتب، تُغني عن البيان.. و الرواية، كما هو معلوم، أفق بوليفوني مفتوح على اللغات و الأصوات وأصداء الذاكرة و المجتمع، حسب باحتين. بعد خروج علي الزهراوي من السجن مباشرة، لاحظ بوادر التغيّر الذي اعترى الحياة حواليه بإيقاع سريع . لاحظ بوادر مغرب جديد و ملغوم. يقول السارد في ص 195 / – [ لم يكن مضى وقت طويل على خروجه من السجن حتى بدأ يشعر بتغير الأشياء من حوله. استغرب لإيقاع التغير السريع على الرغم من أنه لم يحتجب عن العالم في المعتقل السري ثم في السجن سوى ثلاثين شهرا. هل تكفي هذه الفترة القصيرة كي تبدّل في الناس و الأفكار والأمزجة و القيم ؟! ]. و سياسيا [ لاحظ، مثلا ، كيف أن كثيرين من اصدقائه و رفاقه، في الحزب و من خارج الحزب، ممن عُرف عنهم سلامة الالتزام و صدق الموقف و نكران الذات والتفاني في خدمة قضايا الناس ، انصرفوا عن العمل النضالي إلى شؤونهم الخاصة ] ص 196. بل دخل هذا التغيّر المفاجئ و الملتبس إلى عرين العائلة، و مسّ أقرب الناس إليه، أخته الصغرى سميرة التي ارتدت الحجاب و غادرت براءتها و فرحها إلى نُسكية صارمة، ، وأخاه الأكبر إبراهيم الذي انقلب إلى محام محتال من أجل المال. و تتالتْ بعدئذ سلسلة الانهيارات و الإحباطات ، تتْرَى.. حينئذ، وصل السيلُ الزّبى. بعلي ، كما يقال . و انسحبت يقينياته و أحلامه إلى الظل، حتى الحب الذي ظنه في سوْرة يأسه وقنوطه، هو ( الحقيقة المطلقة ) ص 297، أو هو الملاذ و المعاذ، آل بدوره إلى السقوط و الانهيار، حيث كانت آخر كلمة – قُفْل في الرواية، بعد موعد طال فيه الانتظار، ( لم تات ) ص 372. كلمة كانت بمثابة قطعة الثلج التي توّجت صيف الرواية الجليدي. * * * * في الصفحة 354، و على ظهر الغلاف أيضا، نقرأ هذه الفقرة الأخيرة و الدالة، على لسان علي الزهراوي وهومنْحشر في جنازة عبد الرحيم بو عبيد / – [ أشعر و أنا أسير وسط الحُشود وراء نعش الفقيد، و كأننا جميعا نشيّع أنفسنا إلى دار البقاء . نشيّع يقينيات ذوَتْ و وهَن عظْمها .. لا يقين اليوم يجذبني . حتى المشاعر اختلطت الحدود بينها و امّحتْ الفروق لا أتكرّه شيئا و لا أستحبّ شيئا. أعيش على أمل غامض في أن تقع معجزة مفاجئة، تعيد إلى الأشياء أوضاعها التي انقلبت، و إلى الأسماء معانيها التي اضطربت، و إلى المشاعر صفاءها الأول. لست على يقين من ان ذلك قد يحدث قريبا. بل أنا لست على مطلق يقين، يقيني الوحيد أن المحمول على هذا النعش لن نراه ثانية بيننا، و إن سكنتْنا ذكراه ] ذلك هو اللّحن الجنائزي الأخير، في الرواية. و كأنّي بالرواية، مرثية شجيّة لمرحلة تاريخية ساخنة ملغومة بالأشواق والأشواك والصّبوات والكَبوات . إحالة/ – عبد الإله بلقزيز / صيف جليدي . ط. 1 . 2012 .منتدى المعارف .بيروت .