1 عوّدنا الأستاذ عبد الإله بلقزيز إمتاعنا بنصوصه الأدبية, نصان مفتوحان على الشعري والسحري والجواني، ونصان روائيان «صيف جليدي» و»الحركة»، وها هو الآن يقدم لقرائه نصا روائيا ثالثا عنونه ب «سراديب النهايات». هذا النص الأخير لا يرمينا لمتابعة شخوصه وحيواتها المتعددة، ولا لقول المعنى الذي يرغب إيصاله لنا، بل في مساءلة موقع هذه الرواية من الروايتين السابقتين. هذا السؤال ما انفك يغيب ويحضر حين توغل في سراديبه، دون الوصول إلى النهايات. بمعنى أن حضور السؤال وغيابه هو ما جعلني أتحرر منه بقولي إن الكاتب قدم لنا ثلاثية روائية متتالية، دون اعتبار لزمن الكتابة والنشر. كأن رواية (صيف جليدي) هي أولى هذه الثلاثية و(نهايات السراديب) هي الثانية أما رواية (الحركة) فهي التي تتوج العملين معا. قد يكون هذا الجواب مشروعا في تدقيق الثلاثية، والفراغات التي تفصل النص الروائي بنص آخر، لكن إذا حاولنا إضاءة هذه الثلاتية في نشأتها الزمنية سنحصل على ما قلناه. صحيح أن دلالة ثلاثية في التقليد الأدبي تتم من خلال متابعة شخوص الرواية والتحكم في سردها منذ البداية حتى النهاية، بمعنى أن ثمة شخص بالمفرد أو شخوص متعددة تحضر في كل هذه الروايات لكن إذا حاولنا غض الطرف عن دلالة هذا التقليد الأدبي، فإننا سنتحصل على ثلاث شخصيات رئيسة في هذه النصوص/الثلاثية أولها علي وثانيها عبد الرحمان وآخرها حسن. بين الشخصيات الثلاث مسافة زمنية، هذه المسافة التي تنبض بمفارقاتها وفضاءاتها المختلفة فالشخصية الأولى تحكي زمنا محددا من انتفاضة الدارالبيضاء يونيو 1981 وما تلتهمه من حكايا جيل السبعينات إلى حدود موت الفقيد الاشتراكي عبد الرحيم بوعبيد وما قاله السارد عن هذا الموت حين وقوفه على جنازته، إن موت الزعيم الاشتراكي يعلن انتهاء مرحلة، بينما يشكل الشخصية الرئيسة في روايته الأخيرة «سراديب النهايات» إنسانا من المغرب العميق، شخصية تفيض طيبة وحنانا طبيعيين. انه الرجل المسؤول عن أسرته وبالضبط على أخويه اللذيْن انحرفا، واحد اتجه نحو تعاطي المخدرات في الحرم الجامعي والثاني شدته كماشة التطرف الديني في فرنسا. إن هذه الشخصية تحكي التجربة في مرحلة معينة من تاريخ المغرب المعاصر، وهي مرحلة التسعينات منه لما عرفته هذه المرحلة من صعود قوي للتطرف الديني والمضاعفات التي تركها ويتركها في الفضاء العمومي؛ لكن شخصية حسن في الرواية الثانية «الحركة» فإنها تعلن عن طموح جيل جديد من شبيبة المغرب. جيل الفايسبوك والتواصل الالكتروني، وهذا ما مثلته حركة 20 فبراير التي عرفها المغرب في بدايات الألفية الثالثة كإعلان عن ربط هذه الحركة بما يسمى الربيع العربي. قد تكون هذه الفرضية المبنية على المرجع الزمني التاريخي هي ما تفيد حضور وغياب الثلاثي حين قراءته للرواية الأخيرة. وقد يصدقني بعض قراء الكاتب. ليس لان هذه الفرضية انبنت من فراغ بقدر ما هي مؤسسة على المرجع الزمني كما قلت، وكذلك على المرجع النظري الذي يهتم به الكاتب. بمعنى إذا اعتبرنا أن عبد الإله بلقزيز، كما قلنا سابقا، باحث ومفكر لا يغمض له جفن إلا بالتنقيب والحفر والبحث في أمور الفكر والسياسة عندنا؛ ولأنه كذلك فقد نستطيع ربط هذه الروايات بكتب فكرية أخرى نشرها من قبل. هنا أضع هذه الفرضية على مكتبي، جنب أوراق وملاحظات للابتعاد عنها حين أكون بالقرب منها. فرضية أهديها لباحث آخر كي يكتب عنها أو يضعها هو الآخر فكرة موضوعة في الطرق البعيدة والقريبة. لندع هذه الفرضية جانبا ونحاول الآن بيان هذه الرواية، سواء على مستوى معمارها الواقعي والتخيلي، أو على مستوى شخوصها المتعددين أو الجانب السيكولوجي والاجتماعي الذي يؤثث ذلك الفضاء. أو فيما يربط الزمن والمكان الروائيين بالإضافة إلى قضايا سنطرقها حين الوصول إليها. سراديب النهايات عنوان يحيل على التحتي والهامشي والمستور والمخبوء، إنه تحت أرضي لكن كيف لهذه السراديب نهايات؟ هل نهايتها تروم قبرها والانتهاء منها، أو تعني هكذا وصول إلى اللاعودة. كأن الزمن الذي نعيشه اليوم هو زمن النهايات. هذه الأخيرة تشكل موضوعة Thème في الأعمال الروائية لعبد الإله بلقزيز (سنحاول النظر إليها بكثير من التفكير والتأمل في المستقبل). إنها صرخة النهايات كما هو متداول في الفكر والإعلام العالميين. بين السراديب والنهايات مسافة من القرب والبعد، في المكان والزمان. فراغ نود إعلانه بيانا لا لفضحه وتعريته وإنما لإعادة حجبه حتى يكون بيانه مقودا لنا. وان العنوان كما نعتقد هو البداية والخاتمة كأن الكاتب يبدأ منه في الأول أو في الأخير، بمعنى أنه يضع عنوانا قبل كتابته لنصه الروائي. أو حين ينتهي من عمله يسميه ليعلن الولادة والفرح. ولأنه كذلك يكون هذا الاسم اعتباطيا. إلا أن اعتباطيته هي السحر الذي يراودنا، ويغرينا، ويشاكس أعضاءنا مثلما يتابعنا بين صفحة وأخرى. العنوان إذا دلالة البحث في جغرافيا مهمشة. أمكنة يلفها النسيان وشخصيات تعيش طبيعتها وعراكات وصراعات بدوية تفيد الغلبة والتسلط وما إلى ذلك. جغرافيا تظهر وتختفي في الاستعارة والمجاز. هكذا ندخل إذا إلى السراديب حاملين قنديل المعرفة والتأويل حتى نستطيع إضاءة المخفي والمعتم من هذه السراديب الموحشة، تستقبلنا شخصية رئيسة في هذا العمل الروائي، وهي شخصية عبد الرحمان الذي يقدم لنا قنديلا سرده، ويأمرنا أن نتبعه في أكثر لحظاته زمنيا ومكانيا. وان كنا نعتقد أننا نسرق هذا القنديل منه ونحاول رسم طريقه، وطرق الرواية في سراديبها المعتمة والموحشة لا لكي نصل إلى النهايات وإنما لنفتحها كي تكون بدايات لمرحلة جديدة /نص جديد نعتقد أن عبد الإله بلقزيز يفكر فينا. 2 يهندس الكاتب نصه الجديد بشكل يفيد واقعيته، فهو لا يستورد آلياته من الغرب أو الشرق، وإنما يبني عمله بالمتاح، انه يبنيه حجرا حجرا، ذلك أن قارئ الرواية لا يمكنه أن يبدأ من نهايتها أو وسطها ولا أن يقرأها قراءة برقية عبر القفز على الصفحات. انه يفرض علينا شكل قراءتها ليس من حيث مرجع كل واحد منا ولا النظارات التي يقرأ بها كل واحد، بل في الطريق الذي رسمه في هندسته الأولى، سواء على مستوى الشخوص وأمكنتها وأزمنتها انه يفتح لنا باب روايته كي ندخلها غرفة غرفة، درجا درجا، في الشرفة والحمام، في المطبخ وروائحه المتعددة. معمار محكم البنيان تحضر الشخوص لتغيب، لتبقى الشخصية الرئيسة في النص رفقة أخويها المهدي وعبد الرحيم. لا يعني غياب الشخوص غيابا كليا بل إنها تحضر بين الحين والآخر. إننا في هذا المعمار الروائي المتين يمثل شبكة من العلاقات المتعددة. حتى أن تعددها في الأول يفيد تسجيل كل واحد في علاقته بالآخرين، كأننا نرسم شبكة من العلاقات ذات السهوم التي تربط هذا بذاك. إن الرواية تضع الأرض منطلقها، بكل ما تحمله من دلالة المرأة، والخصوبة، والزرع، والفلاحة، والماء، والإيمان، وغير ذلك... الأرض هي معترك هذا العمل الروائي، فيها يتمسرح الجميع ليقدم لنا عملا كبيرا للقراءة. شخوص متعددة كشخصية العياشي وابنه، شخصية الحريزي حارس ضيعة العياشي، وشخصية بديعة وأسرتها المتعلمة المالكة للأرض وشخصية عبد الرحمان الرحماني وأخويه المهدي وعبد الرحيم وأخواته، وشخصية السي محمد المدرس الثائر وبعض تلامذته وشخصية أبي عبيدة، بالإضافة إلى آخرين ككرستين الفرنسية، وفاطمة البوسنية، وحليمة الحريزي، وغيرها من الشخوص التي تظهر حسب إيقاع السارد. إذا حاولنا النظر إلى هذه الشخوص المشكلة للرواية فإننا نجد أنها قريبة منا، نراها ونتواصل معها بشكل يومي، إنها شخوص واقعية ليس فقط الملاك الكبار وجشعهم لزيادة ما عندهم، ولا العلاقة الملتبسة بينهم وبين المخزن، ولا في الاستغلال البشع لصغار الفلاحين عبر استخدامهم أو طردهم من القبيلة بعد بيع أراضيهم لمزارعين فاسدين مثل العياشي؛ وإنما في الصراع المبطن بين هؤلاء وعبد الرحمان الشخصية العنيدة التي لا تريد بيع أرضها. إن الكاتب يضيء هذا المنسي في مجتمعنا بين مالكي الأرض ووسائل الإنتاج وآخرين لا يمتلكون هذه الوسائل. هنا تتشعب الرواية وتنفلت من هذه الأرض المعطاء في منطقة الرحامنة جنوب المغرب، ومن مراكش إلى حدود السفر بنا إلى الدارالبيضاء، وبوردو، وكندهار، وإسلام أباد، والبوسنة، والهرسك، والمدينة، ومكة، وفيينا، وصوفيا، وغيرها من الأمكنة... وهي بالجملة أمكنة تهندس حيواة شخوص وتضيء مفارقاتها. مفارقات تنعش الرواية وتشد قارئها الفضولي كي يعرف ما انتهت إليه إذا حاولنا تفصيل علاقة عبد الرحمان بالعياشي الذي يريد الاستيلاء على أرضه بدعوى فض الشراكة الموجودة بينهما، وهي علامة على إركاع عبد الرحمان وبيعه للأرض التي لم تعد لها قيمة بدون الماء الذي يقدمه العياشي له. إن هذه العلاقة تتعدد برقيا في العلاقة التي شدته (أي عبد الرحمان) لابنة الحريزي (حارس ضيعة العياشي) علاقة تفيد الظاهر أنه سيكشف علاقتها المتلبسة مع ابن العياشي. هكذا تُظهر لنا هذه العلاقة غلبة عائلة العياشي ورغبتهم في الاستحواذ على كل شيء الأب يريد زيادة أراضيه والابن يرغب في الاستيلاء على أرض أخرى، ستكون حليمة هي مرتع تفريغ لذة ومتعة ابن العياشي. بين الشخصية الرئيسة في الرواية عبد الرحمان وشخصية العياشي وأشباهه مفارقة تشي بالتصدع إلى حدود العجب. علاقة تفيد طيبوبة ورقة وفطرة الأول باعتباره حامل لرمزية البدوي الأصيل بينما تفيد شخصية العياشي صفة الذي لا يشبع, والذي يطلب المزيد دون اعتبار للعرف القبلي ولا الدم، والأخلاق، والدين، والقانون، إنها الشخصية التي أضحت معروفة في المغرب الراهن. فهو من لا شيء أضحى متسلطا ومتحكما في أعناق وأرزاق العباد. وبالمقابل نجد أسرة عتيقة التي كان يحبها عبد الرحمان حين كان صبيا في المدرسة، أسرة بورجوازية، ذات طموح متمدن، عتيقة طبيبة مختصة وأخوها خريج جامعي متفوق. بين الأسرتين مسافة كبيرة يرصد تفاصيلها الكاتب بكثير من التدقيق كما لو كان يحاورها، أو بالأحرى كأنما يعيش بالقرب منها. شخصية ثالثة تحمل رأيا آخر, مقاما آخر مغايرا انه المدرس السي محمد الذي يجد فيه عبد الرحمان الحضن الذي يسكت أوجاع أسئلته. إن له مواقف سياسية من الدستور والوضع العام في البلد. يتابع الأخبار مثلما يتابع تلامذته الذين راهن عليهم ليخسر بعضهم أو جلهم. هذا الشخص هو منارة عبد الرحمان انه يشاركه في أوجاعه ومشاكله. وأكثر من ذلك انه يستشيره في أموره الخاصة لكراء ضيعته واعتقال أخيه، والتحول الذي طرأ على أخيه عبد الرحيم، وبالجملة السي محمد هو الكتاب الذي يقرأ فيه عبد الرحمان أموره الخاصة. تمة شخصية أخرى وجب الوقوف عليها، وان كانت غير حاضرة بقوة في هذا النص كما الآخرين. انه المصطفى الذي اكترى ارض عبد الرحمان لمدة 10 سنوات بتعاقد حضره السي محمد، هذه الشخصية التي اعتقلت وحكمت ب 20 سنة سجنا لمتاجرتها في المخدرات وهي شخصية يقدمها الكاتب كنوع من إثارة الاهتمام بالذين يمتلكون المغرب في سبعينات القرن الماضي. إنها إشارة ذكية تندغم في إشارات أخرى، بين الفسيفساء الاجتماعية والطبقية في راهن اليوم. كل هذه الشخصيات تحضر في الثلث الأول من الرواية ليبقى الثلثين الأخيرين لشخصية عبد الرحمان وأخويه المهدي وعبد الرحيم. كما لو كان عبد الإله بلقزيز لا يهمه سوى متابعة المهدي وعبد الرحيم باعتبارهما الظاهرتين الجديدتين في المغرب الحالي. فالمهدي طالب جامعي لم يتمم دراسته، ضاع في متطلباته الخاصة، بين بيعه لمحاضرات أساتذته، وبيع الحشيش للطلبة وإدمانه عليها. هذا الشاب المتهور الذي يريد منه عبد الرحمان ان يحقق فيه مستقبله، يحقق له طلباته حين كان طالبا أو حتى حين كان في السجن. شخصية نزقة، يريد أن يكون له شيء ما أو ذا قيمة مادية ومالية انه يتقنع بأقنعة متعددة أمام أقرانه. لذا يريد أن يصل إلى مكانة اجتماعية كشباب اليوم تماما، انه لا يرغب فقط في فض القرابة الدموية مع إخوته لبيع الأراضي بالكذب على أخيه الطيب لشراء الكتب وإعادة بيعها لأحد زملائه الطلبة في المعتقل، والذي يُحضِّر إجازته في الآداب العربي. إذا كانت هذه الشخصية تروم العبث والانحراف وعدم المسؤولية فان الأخ الأكبر منه عبد الرحيم الذي يبحث عن مصلحته الخاصة دون اعتبار للضائقة المالية لأسرته ولمعينها عبد الرحمان. هذه العلاقة المتوترة التي يظهرها الكاتب في الصفحة 40 «لم يفكر يوما في مصلحة ينظرها من عبد الرحيم والمهدي سوى أن يفلح في حياتهما، فما بين يديه من أرض صغيرة يكفيه هو ونساءه الأربع، ويكفي أخويه إن قنعا بالقليل الذي اعتادت عليه الأسرة في معيشها». هكذا يقدم لنا الكاتب شخصية عبد الرحمان والمسؤولية التي تحملها بعد موت أبيه، لا يفكر في حاجاته الخاصة (الزواج مثلا) بقدر ما يلهث نحو خدمة أسرته، إلا أن الأمر يسير عكس رغبته، خاصة في ما وقع لأخيه الأصغر المهدي ولا حتى في التحولات التي وقعت لأخيه عبد الرحيم الذي سافر إلى مدينة بوردو للعمل في ضيعاتها الزراعية، وزواجه من كريستين العاملة هي الأخرى في تلك الضيعات (ص 194-195) وكلها علامات على تدينه إلى حد وضع أسئلة حول ذلك، عبد الرحيم إذن سيسقط في هوة المتطرفين في فرنسا وليس في المغرب. لماذا اختار الكاتب تطرف عبد الرحيم من بوردو وليس من بن جرير؟ المسألة لا تفيد الاختيار ولا تفيد متابعة هذه الشخصية سيكولوجيا وثقافيا واجتماعيا وإنما في البوابة التي رسم معالمها الكاتب بشخصيته الروائية وخصوصا، ما عرفه العالم في هذه الحقبة من تنامي التطرف الديني في أوربا. فهذه الشخصية تعيش هشاشة بنيوية، ليس فقط مع الآخر الذي تشكله كريستين ومحيطها العام وإنما في التوتر الداخلي الذي يعيشه؛ من هذا التوتر الذي يبنيه الكاتب في أكثر من مرة (في صراعه مع حماته والكنيسة وما إلى ذلك) أو في إذعانه المطلق لأبي عبيدة الجزائري. هذا البطل الأسطوري الذي يرى من خلاله عبد الرحيم العالم. إن العلاقة بين الشيخ والمريد في التنظيم الاسلاموي، الأصولي المتطرف هي ما تبرز المعالم الرئيسة لشبكات التنظيمات السرية لهذا التنظيم، فالمريد لا يحق له السؤال وإنما الخضوع والطاعة العمياء لشيخه. من هذه العلاقة يكشف لنا الكاتب أشكال التمويه والتقنع والإخبار والرسائل وضوابط التعامل والأسماء الحركية والمدن التي ينتعش فيها هذا التنظيم، من كندهار، وإسلام أباد، والبوسنة، والهرسك، وغيرها من المدن التي زارها عبد الرحيم لقضاء حاجات تنظيمه. هكذا يكون الاستقطاب للجهاد في سبيل الله مخططا بشكل دقيق، وليس على المريد إلا الانضباط اليقظ لتلك الأوامر في صفحات (199-208-209-234-235-236-237-248-249) تتبدى صورة أبي عبيدة الجزائري بالألوان إلى حدود سقوطه معتقلا في فرنسا. إن هذا المعمار التخيلي للآلية التنظيمية لما يسمى بالجهاد الإسلامي هو جدة هذا العمل الروائي. ذلك أننا - حسب مقروئنا للسرد المغربي والعربي- نعتقد أن عبد الإله بلقزيز تفنن في تقديم هذا الوجه الأسود للسلفية في عالمنا العربي روائيا. صحيح أنه تم الاهتمام به في السينما العربية كأفلام عادل إمام والمسلسلات المصرية الأخيرة والمسلسل السوري الرائع لنجدة إسماعيل أنزور. إن الاهتمام بهذه الظاهرة تتم على معرفة دقيقة بتضاعيفها وترابطها ومفارقتها وأصولها وكيفية استقطاب المجاهدين. وكل ذلك أعطى للرواية مذاقها الخاص. كأن صاحبها لا يرغب إلا تبيان تلك العلائق المتوفرة والمندمجة لهذه الظاهرة. سواء في وصف اللحى، واللباس، والتحية، والعلاقة التي تجمع بين الرجل والمرأة، وأمور أخرى... 3 إن حديثنا- الذي لم نستطع إتمامه - حول الشخوص المؤثثة لعوالم الرواية. ذلك أن كل شخصية قريبة منا، تعيش وسطنا، نراها وترانا، نجالسها مرة ونخاصمها أخرى، ولأنها كذلك فان فضول متتبعها لا يستطيع الوقوف على الصفحة الأخيرة من الرواية وإنما تتعداه لمتابعتها في الواقع عبر شحذ الخيال لإتمامها في البعد الأخير منها، كما لو كان نوعا من إسكات توتر متتبعها. صحيح أن السارد يفاجئنا في آخر صفحة، وفي آخر فقرة باعتقال عبد الرحيم. وهي مسألة تقلق قارئها، وتضعه ملتهبا بشوق عارم لإتمام ذلك. فان الكاتب أصر على التشويق والإثارة. أليس في الأمر إحالة للعب السينما. مادامت السينما تغذي فضول المشاهد كي يتابع تخييليا ما لم يره في الشريط. هل الرواية ستبدأ من هذه الإثارة؟ أم أننا ننتظر من كاتبها متابعة شخصيته في السجن، وما عرفه المغرب من هجمات إرهابية في بداية التسعينات من القرن الماضي وفي بداية الألفية الثالثة (16 ماي 2008 ). بإمكاننا الآن أن نتخيل ارتباطات عبد الرحيم بالجهاد العالمي في الدارالبيضاء، والرياض، ومدريد، والقاهرة، وبيروت، وواشنطن، ونيويورك، ولندن، وباريس، وغيرها من المدن التي أشعلت الاهتمام بما يسمى «الإسلام السياسي». لنتوقف قليلا على هذه النقطة، حتى لا نستبق الكاتب وحتى لا نشوش عليه في قضايا أخرى قدمتها لنا هذه الرواية. 4 إن الأمكنة التي تؤثث الفضاء الروائي لعبد الإله بلقزيز أمكنة واضحة. كأن وضوحها نابع من معرفة جيدة لها. كما لو كان الكاتب قد عاشها أو قد زارها لهذا الغرض. كأنه يريد رسم تفاصيل دقيقة لبعض المدن, سواء بالتوثيق لها مثل ما تشير إليه ص 281 «الفنادق حرام في هذا البلد» (كندهار) لأنها أوكار للفسق. هكذا تظهر لنا رؤية المجاهد الإسلامي للمكان. وبالمقابل يكشف على جمال فيينا وصوفيا...مثلما يصف الطرق الخفية بين إسلام أباد وكندهار.إن تقديم هذه المدن لنحيى فيها نحن أيضا. نتمثلها، ونتخيلها، ونعيش داخلها لحظة بلحظة كما لو كنا نساعد في إخراج شريط سينمائي. إذا كانت مدينة بن جرير المدينة التي تنطلق منها الرواية، ومدينة مراكش التي تعتبرها ساكنة المدينة الأولى مكانا للمستشفى، والسجن، والمحكمة، والجامعة. والدارالبيضاء فضاءً للتجارة، والتلف، والتيه. بينما أوربا فرنسا مكاناً لجمع المال، هكذا يحيل المكان في مرجع شخوص الرواية مرجعا لشيء ما. لقد برع السارد بتفصيل شديد لها ولأمكنة أخرى كالمدينة ومكة مثلا، وبالجملة فان الأمكنة لا ينظر إليها في بعدها المادي، وإنما في البعد الرمزي الذي تحتله في المتخيل الجماعي والفردي لشخوص الرواية. إن رواية «سراديب النهايات» تكشف لنا تصدعات وتوترات شخوصها فيما بينهم، وفي علاقاتهم بالأمكنة. بل أكثر من ذلك في التضاعيف الثقافية والسيكولوجية التي تسترها وتبينها، ولأنها تسير في هذا المنحى فان كاتبها- بدقة رؤيته- استطاع أن يكون متزنا مع شخوصه يلعب معها ويلاعبها داخل ملعب مخطط له سلفا، انه خطط لهذه الرواية بشكل صارم، حتى أننا لا نستطيع مغالبته، عبر القبض على هفوة في سرده الخطي. كما لو كان أمام شاشة حاسوبه يكتب ويعود إلى خطاطته الأولى. انه لا يكتب هكذا بحرية، وإنما بصرامة الباحث الذي يعرف ما يريد الوصول إليه. إن الثلث الأول من الرواية التي يقدم فيه عوالم القرية المغربية/ ضواحي بن جرير. كأنها الأساس والمرتكز الذي بنى فضاءه الروائي، كأن الذي يهمه هو كتابة الراهن المغربي في التوتر الأسري، والنفسي، والاجتماعي لعبد الرحمان الرحماني وأخويه المهدي وعبد الرحيم. ان دلالة هذا التوتر والتصدع الذي ينكشف، اعتقال الأخوين معا هو الذي يهمه كأن الكتابة الروائية هي لفت انتباه رجل السوسيولوجيا لتلك الظواهر. من هنا يمكن النظر إلى هذه الرواية من خلال مرجع لوسيان غولدمان، ليس فقط كمرجع نقدي يؤسس القراءة بقدر ما أن الرواية تفترض ذلك في البحث عن العلائق الموجودة بين التخييل والواقع, بين الكتابة والمجتمع, بين الرواية والايديولوجية، وكلها أمور أشرنا إلى بعضها ونترك البعض الأخر لقراءة أخرى. هل اتمم القراءة أم أترك المرأة بوصفها أرضا، انزرع عليها تأويلات أخرى. أي في علاقة عبد الرحمان ببديعة وحليمة وأمه وأخواته، وعلاقة صفية بابنة أخيها. وعلاقة هذا الأخير بكريستين وأمها وفاطمة البوسنية وعلاقة فاطمة البوسنية بمولودها الجديد ونقاشها مع زوجها على تسميته علي (اسم أبيها الشهيد) بدل اسم أسامة الذي يرغب فيه عبد الرحيم... وغير ذلك من العلاقلات التي تفترض منا إعادة فلاحتها بشكل آخر. الرواية تهيئنا لضيافة باذخة، عبد الإله بلقزيز يدعونا لتذوق روائحها. انه يستضيفنا في مطبخه دون كلفة لغوية أو استعارية. انه يقدم لنا الراهن المغربي بالأبيض والأسود ويطالبنا تلوينه بالطريقة التي تثيرنا وتعجبنا. أليست هذه الرواية هي الجزء الثاني من ثلاثيته؟ أليست هذه الثلاثية كشف وانكشاف لحقبة زمنية من تاريخنا الراهن؟ ألا يفيد موت عبد الرحيم بوعبيد في الرواية الأولى نهاية مرحلة نضالية وبداية أخرى يكون فيها التدين علامة على انكساراتنا. وإذا كانت الرواية الثانية «سراديب النهايات» تحيل إلى نهايات التطرف الديني المنكشف في السراديب والدهاليز والخرافة، فان الرواية الأخيرة «الحركة» ? في الترتيب الذي افترضناه- نهاية ليتوبيا كما أعلن عنها الشخصية الرئيسة في الرواية. تلك هي بعض الإشارات التي حاولنا القبض عليها باقتصاد شديد كي نقدم هذه الرواية لقراء آخرين عساهم يكشفون القريب منهم. تلك هي المهمة وذلك هو السؤال. *عبد الإله بلقزيز، سراديب النهايات. منشورات منتدى المعارف، بيروت 2014.