يعيش الروائي بين أطياف مخلوقاته الروائية مثل رب أسرة مع أفراد أسرته.هم أبناؤه الذين لا يعرف كيف أتى بهم إلى الوجود أو اختاروا هم اقتحام عالمه الواقعي والانتماء إلى حياته اليومية من موقع المتخيل. زبيدة في «المؤتفكة» امرأة باسم آخر عشقتها حد الجنون، ولكنه كان عشقا مسكونا بالخوف من الفقدان، محاصرا بمنطق المستحيل، مما يجعل منها حالة من اللوعة أكثر منها إنسانا حقيقيا. وفاء، قناع لأختي الراحلة مليكة التي لا أعرف إلى اليوم؛هل قتلت أو انتحرت؟.. جرح دائم يتأجج بين الفينة والأخرى، وقد حاولت بالكلمات القبض على بعض أطيافه،لكن أعترف لم تخفف الكتابة من لوعتي في هذا الفقد؛وإنما زادتني ألما ومكابدة. امجنينا؛من لا يعرفه اليوم؟ مجرم واقعي أقرب في خرافيته إلى الأسطورة. تحتفظ له الذاكرة الشعبية في ثناياها إلى اليوم برنين خاص، وقد فوجئت بإعجاب الكثير ممن قرأوا الرواية بشخصيته داخل النص. أنا لم أكن أرغب في مجرد التوثيق،فقد كانت مكناس بداية التسعينيات تعج بالجرائم، وكان مغرب ادريس البصري يتنفس رائحة الدم في كل مكان،فجعلت من امجنينا عنوانا لمرحلة بأكملها،لذلك كانت الشخصية الوحيدة في الرواية التي احتفظت لها باسمها كما هو. عاشور، قناع لجارنا الذي كان مديرا لسوق بيع الخضر بمكناس،فارتكب جريمة قتل في حق غريمه (أحد الجندرمة ) من أجل امرأة مومس كان يعشقها وينفق عليها الأموال في إحدى حانات مكناس. حكم عليه بالسجن 20 سنة نافذة،ولكي لا أقع في العلاقة المرآوية بالواقع تصرفت في بورتريه زوجته التي أطلقت عليها اسم يامنة الزيانية، وقد ركزت على بناتها الأربع محاولا استغوار مستقبلهن في العشرين سنة القادمة.والشخوص الروائية هنا تنطلق بالفعل من الواقع،لكنها تنمو من المتوقع فلا يكون لها وجود إلا في نطاق المحتمل الذي يغذيه تخييل مصير أسرة بعد فقدان عائلها جراء تصرف أهوج في لحظة غضب عابرة. أما عبد الرحمان،ففيه مني الشيء الكثير،ولكنه ليس أنا،لأنني لم أكن أسكن في سيدي بابا ولا اشتغلت في الجنوب،وإن كان عمله في سوس لا يخرج عن نطاق الاستيهام..أنا عشت العطالة في مكناس كسائر أبناء جيلي قبل أن يتيسر لي العمل،ولعلها ألهمتني شخصية عبد الرحمان كحالة روائية تتغذى من وضع اجتماعي ووجودي ملتبس. أما السؤال الذي ظل يسكنني وأنا أنحت تلك المخلوقات في تنوعها؛فهو: إلى أي حد أكون قد نجحت أو أخفقت في خلق عالم روائي يملك انسجامه الداخلي بمنطق الرواية لا بمنطق الواقع التاريخي؟ في»دموع باخوس»، لا أعرف حقا كيف خرجت مني شخصية روزالي؟، وهي عندي اليوم بمثابة لاشعور جمعي لكل مخلوقاتي الروائية.من قرر كيف تكون؟ وكيف صارت ما هي عليه اليوم؟ ومن أين تنزلت علي؟ لا أعرف..أو أعرف دون أن أعرف؟؟؟؟.فهذه الشخصية الروائية تولدت من تجربة الكتابة والاشتغال على نص معذب طيلة عقد من الزمن،حتى ليمكنني القول إن روزالي هي انتصاري على نفسي وأنا أتحول إلى نحات روماني ينحت تمثالا من دون محاكاة نموذج سابق.لقد أخرجتها من قاع خابية مكبوتي الروحي المليء بالأسرار التي لا أعرف حلا لألغازها. وروزالي اليوم تتبوأ مكان بلقيس في عالمي الروائي،المتواضع طبعا.وإذا كنت على مستوى الكتابة قد انتصرت نوعا ما على زبيدة في»المؤتفكة»، فروزالي في « دموع باخوس»هي من انتصر علي، وتحكمت في قدرها منذ اللحظة التي خرجت مني دون تخطيط أو توقع واضح.لقد خرجت من بين أضلعي في اللحظة التي لم أعد فيها أنا الذي أقود الرواية.نعم؛روزالي هي من قادني أثناء عملية تخلق شخصيتها، وهي وحدها من قررت كيف تكون. و أما أنور وعلاء،فيعكسان انشطار الذات بعيدا عن ينابيع السيرة الذاتية.. الذات ونقيضها..المرآة المنشطرة بأوسع معاني الانشطار،ولا مرجع سير ذاتي في كل الإيهام الواقعي المصاحب لجدليتهما إلا ما كان من تناقضات و فنطزمات الفردي في كل واحد منا.هذا المولد للانهائية الحالات والرؤى. ثم؛هناك شخصيات أخرى في «دموع باخوس» يمكن اعتبارها»مرجعية»بمعنى ما.. أسماء بالأحرى لسياسيين ورموز مثل المهدي بنبركة، وادريس بنزكري... أسماء لشخصيات تاريخية أسطورية مثل كيلوباترا..نيرون..بترونيوس... بل أسماء لآلهة مثل..باخوس..ديونيزوس..زيوس..بروميوس..سابازيوس..أورانوس.. وعموما؛بالنسبة لشخصياتي الروائية (رجال ونساء/آلهة وجن = سمهاروش في المؤتفكة)..أعرف بعضها حق المعرفة أو شبه معرفة، وأجهل بعضها الآخر كل الجهل..ففيها مني الشيء الكثير،وفيها ما أتفاجأ به أنا نفسي ولا أعرف من أين يتسلل إلى عوالمي الروائية؛وهي اليوم تعيش معي كل الوقت مثل أسرة في الظل بموازاة أسرتي الحقيقية. ومع أني لا أنفي بأن الشخصيات الروائية التي يخلقها الروائي تعيش معه في حياته اليومية مثل ظله،فإني أؤكد في المقابل بأنه ما من شخصية روائية منها جميعا هي أنا. من كل ما سبق، يتضح أن مخلوقات الروائي في أي رواية تظل مثل أنصاف الآلهة في الأساطير الإغريقية..نصف منها مرجعي والنصف الآخر متخيل.أما كيف يتسلط الكاتب على شخصيات موجودة في الواقع التاريخي ويعجنها ليعيد اختراعها في كلمات؟أو كيف تتسلط الشخصيات الروائية عديمة الوجود خارج النص لتصير حية في الرواية من لحم ودم؟.. فكل هذه الأسئلة وغيرها تبقى، عندي على الأقل، من دون جواب. نص/شهادة من كتاب«الشخصية بين الأدب والفن:رؤى متقاطعة» الذي سيصدر قريبا ضمن منشورات»جماعة الكوليزيوم القصصي».