لقد ختمت الآيات السابقة من سورة (يس) والتي درسناها وحللناها في الحلقات السابقة، بقوله تعالى( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون *فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء وإليه ترجعون)، وقد اشتمل هذا المقطع على دليلين اثنين: الدليل الأول هو عموم الإرادة وشموليتها، والدليل الثاني هو مالك كل شيء ورب كل شيء. وهذان الدليلان يدعمان الدليلين السابقين الزاردين في قوله تعالى:(وهو الخلاق العليم)، فكونه خلاقا يقتضي أن يخلق ما يشاء وقت ما يشاء، ولا يعجزه ما أراده من الخلق والإبداع والإبجاد، وقد دعم هذا المعنى بدليل آخر وهو قوله تعالى:( إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون) وهو الدليل المتمثل في عموم الإرادة وشموليتها، فلا يتعذر عليه شيىء، ولا يعجزه شيء، وقد اجتمه هنا القدرة العظيمة الباهرة على الخلق والإيجاد، وعموم الإرادة وشموليتها، وانضاف إلى هذا دليل آخر وهو كونه مالك كل شيء، وبيده ملكوت السموات والأرض، فهو يتصرف في ملكه و ملكوته كما يشاء، ويتصرف في كل شيء. ومسألة البعث والمعاد، كما لاحظنا، وردت في آيات عديدة، وفي أماكن كثيرة من القرآن الكريم، لعظم أهميتها وخطورتها. ولهذا جادل القرآن الكريم المنكرين لها، والجاحدين لإمكان وقوعها، وناقشهم وحاجهم محاجة قوية، وقدم لهم الدليل تلو الدليل، والحجة بعد الحجة. فهناك آيات عديدة تطرقت لمسألة البعث هذه؛ ومنها قوله تعالى:( ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد* والنخل باساقات لها طلع نضيد* رزقا للعباد وأحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج) [سورة ق ، الآية 9/11] وقوله أياضا: (يوم نطو السماء كطي السجل للكتاب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين) [سوؤة الأنبياء، الآية 103]، ومنها أيضا قوله عز وجل في سورة الروم : (يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ويحيي الأرض بعد موتها وكذلك تخرجون) [الآية:18] ففي الآيات السابقة وغيرها نجد أمثلة من القياس الأصولي، وبالضبط قياس الدلالة الذي هو الجمع بين الأصل والفرع بدليل العلة وملزومها (وهو قياس عقلي منطقي): – قياس بعث الإنسان على طي السموات. – قياس بعث الإنسان على خلقه من عدم. – قياس النشأة الثانية على النشأة الأولى. – قياس خلق الإنسان من جديد (أي البعث) على خلق السموات والأرض. وإلى جانب هذه القياسات الأصولية العقلية، نجد أنماط الحجج اللغوية والأدلة العقلية المنطقية (قياس الأولى، قياس العلة، قياس الدلالة، القياس المضمر، الحجاج اللغوي…). وهذه يعضد بعضها البعض الآخر، فكل دليل يدعم الدليل الآخر، وكل حجة تؤكد الحجة السابقة، في تناغم بديع، وانسجام عجيب، وهذا من أجل إقناع الجاحد المنكر لمسألة البعث ورده عن غيه وضلاله، فالحقيقة واضحة وضوح الشمس، والحق بين وجلي. والشيء نفسه نجده في الآية (63) من سورة (مريم) إذ يوقا الحق سبحانه:(أولا يذكر الإنسان أنّا خلقناه من قبل ولم يك شيئا)، وقد فسر فخر الدين الرازي هذه الآية وبين الغاية منها بقوله:" الغرض التفكر والنظر في أنه إذا خلق من قبل من قبل لا من شيء، فجائز أن يعاد ثانية، وقال بعض العلماء: لو اجتمع كل الخلائق على إيراد حجة في البعث على هذا الاختصار لما قدروا عليها إذ لا شك أ، الإعادة ثانيا أهون من الإيجاد أولا." (التفسير الكبير) ونجد هذا في قوله عز وجل: (قل يحييها الذي أنشأها أول مرة) وقوله تعالى: (وهو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده * وهو أهون عليه). وقد اشتملت هذه الآيات وغيرها على حجج وأدلة عديدة، وقد أورد الفخر الرازي كثيرا منها في تفسيره، وفي مقدمتها أن خلق السموات والأرض أعظم من خلق الإنسان، وأعظم من إعادة إحيائه.