روسيا تحذر أميركا من "صب الزيت على النار" في أوكرانيا    دوري أبطال أفريقيا للسيدات.. الجيش الملكي يلاقي المسار المصري وعينه على العبور للنهائي    من حزب إداري إلى حزب متغول    أسعار اللحوم تتراجع في الأسواق مع وصول أولى الشحنات المستوردة    مقاييس الأمطار المسجلة بالمملكة خلال ال 24 ساعة الماضية    ولي العهد السعودي يهنئ الملك بمناسبة عيد الاستقلال    الصيادلة يدعون لتوحيد الجهود ومواجهة التحديات الراهنة        الركراكي: الصبر والمثابرة أعطيا ثمارهما وتسجيل 26 هدفا لم يكن بالأمر السهل    أسعار صرف أهم العملات الأجنبية مقابل الدرهم    محطة جديدة متنقلة لتعزيز تزويد ساكنة برشيد بالماء الشروب السلطات المحلية لبرشيد و الشركة الجهوية متعددة الخدمات الدار البيضاء-سطات تدشن مشروع مهم في ظل تحديات الإجهاد المائي    يوعابد ل"برلمان.كوم": منخفض جوي متمركز بالمحيط الأطلسي غرب جزر الكناري وراء الأمطار التي تشهدها بلادنا    وزارة الداخلية تخصص 104 مليارات سنتيم لإحداث 130 مكتبًا لحفظ الصحة    جهة طنجة تشارك في منتدى للتعاون المتوسطي في مجال الطاقة والمناخ بمرسيليا    حاتم عمور يصدر كليب «بسيكولوغ»    أربع جهات مغربية تفوز بجائزة "سانوفي" للبحث الطبي 2024    اتهمتهم بمعاداة السامية.. عمدة أمستردام تعتذر عن تصريحات تمييزية بحق مسلمي هولندا    المقاو-مة الفلسطينية: تصحيح المعادلات وكسر المستحيلات    عودة يوسف المريني لتدريب هلال الناظور بعد 20 عاما من الغياب    الشرطة توقف ناقل "حبوب مهلوسة"    نزاع حول أرض ينتهي بجريمة قتل    موسكو: كييف تفقد 900 ألف عسكري    اليونسكو تدرس ملف "تسجيل الحناء"    في تأبين السينوغرافيا    الشاعرة الروائية الكندية آن مايكلز تظفر بجائزة "جيلر"    تراجع أسعار النفط بعد استئناف العمل في حقل ضخم بالنرويج    ما هي الطريقة الصحيحة لاستعمال "بخاخ الأنف" بنجاعة؟    فريق بحث علمي يربط "اضطراب التوحد" بتلوث الهواء    افتراءات ‬وزير سابق ‬على ‬المغرب ‬وفرنسا ‬وإسبانيا ‬وأمريكا ‬في ‬قضية ‬الصحراء    شيتاشن يفوز بنصف ماراثون ازيلال للمرة الثانية تواليا    ماذا سيتفيد المغرب من مليوني ونصف وثيقة تاريخية؟    مقتل 5 أشخاص في غارة إسرائيلية على بيروت وحزب الله ولبنان يقبلان اقتراحا أمريكيا لوقف إطلاق النار    صحتك ناقشوها.. إضطراب النوم / الميلاتونين (فيديو)    ارتفاع حصيلة ضحايا فيضانات فالنسيا بإسبانيا إلى 227 قتيلاً ومفقودين في عداد الغائبين    إندرايف تغير مشهد النقل الذكي في المغرب: 30% من سائقيها كانوا يعملون بسيارات الأجرة    ميناء الداخلة الأطلسي: مشروع استراتيجي يحقق تقدمًا بنسبة 27%    مجموعة صناعية دنماركية كبرى تفتح مكتباً في الداخلة لتطوير مشاريع الطاقات المتجددة في الصحراء المغربية    توقيع اتفاقية شراكة بين جمعية جهات المغرب وICLEI Africa    مجموعة ال20 تعلن وقوفها خلف قرار وقف إطلاق النار في غزة    يحدث هذا في فرنسا … !    حادثة سير مميتة بتارودانت تخلف أربعة قتلى    الصناعة الرياضية: من الملاعب إلى التنمية    نشرة إنذارية: زخات رعدية ورياح عاصفية في عدد من أقاليم المملكة    عرض الفليم المغربي "راضية" لمخرجته خولة بنعمر في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي    جبهة مناهضة التطبيع تتضامن مع ناشط متابع على خلفية احتجاجات ضد سفينة إسرائيلية    شركة سوفيرين برو بارتنر جروب في قطر تعلن عن انضمام مدير عام جديد إلى فريقها، لقيادة مسيرة التوسع وتعزيز التعاون الاستراتيجي، في خطوة طموحة تنسجم مع رؤية قطر الوطنية 2030    جمعية الإمارات لطب وجراحة الصدر تضيء برج خليفة في حملة توعوية لمكافحة مرض الانسداد الرئوي المزمن    زنيبر: الاضطرابات الناجمة عن كوفيد-19 زادت من تفاقم الآثار "المدمرة بالفعل" للفساد    العراقي محمد السالم يعود لجمهوره المغربي بحفل كبير في مراكش    هند السداسي تُعلن طلاقها بخطوة جريئة وغير مسبوقة!    خبراء يحذرون من "مسدس التدليك"    شبيبة الأندية السينمائية تعقد دورتها التكوينية في طنجة    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أوقات ومكتظة
(محكيات)
نشر في طنجة الأدبية يوم 01 - 11 - 2014


الاستفاقة أثناء الحلم (تقديم )
التقديم أنواع ..، ربما كان أغربه هو الذي يتوصل ، برفعه ليافطة الإقليمية ، أن يجعلك تتصور أنه هامشيّ ، في حين أنه يخفي مركزية مركبة أو مقلوبة – مركزية تتخفى خلف الهامش ، وقد يكون المثير فيه هذه الثنائية ، فهو بإقراره أن المقصود به هو فقط النهوض بتلك الصيغة ، التي تقتضيها ضرورة الاقتراب ، فإنه لا يخلو من مخاتلة تتجلى في كونه لا يرى في نفسه مجرد تقديم ، تقتضيه فقط تلك الضرورة ، بل هو يعلي كثيرا من شأن نفسه ويرى في كل قول آخر قصورا أخلاقيا وتدهورا جماليا واختلالا في المعنى وفي المبنى .. غير أن كلاما من غير تقديم إنما هو كلام يدخل فقط في باب الزعم ، فضلا عن أنه لا يعقل أن يشهد كلام على نفسه بالصحة مثلا، فيصدقه الناس على أنه صحيح..ولكن كلاما من غير تقديم لنصوص لاتندرج في جنس أدبي واضح ..، يبقى كلاما غير مشفوع ، قصاراه أن يكون مجرد حذلقة في حاجة الى شفاعة المعنى والمبنى (بمعايير التقديم الصادر أيضا عن نزعة أكاديمية ، هي انعكاس للمركزة ، المولعة بالقوالب ، التي ترى أن كل سرد إما أن يكون قصة أو رواية وأن الشعر الحقيقي لايكون في منتصف المسافة بين الشعر وبين النثر . كما لا يكون خاليا من الوزن ...) التي لولاها لما أمكن لأي كتاب أو كتابة أن يتبوأ شرف الوصول ولا كرم القبول من طرف القاريء، بحيث يظل تأخرا كاملا وترددا خالصا بين الصوت والمعنى ودرجة الحسم هنا تتوقف على صاحب التقديم وإحرازه على حظوة وشعبية تجعله بالفعل شفيعا ..
غير أن الكتاب ، من جهة أخرى، يبقى في حاجة أيضا الى "تسويق" – ولو إعلامي ، حتى إن كان منتوجا ثقافيا ، ينشد الإنصاف فقط، والتواصل .. لكن التواصل، مهما كان مختلفا، فإنه لا يختلف عن أي تواصل . إن الكتاب هومجرد رسالة ، لكنها لن تصل ولن تفهم من غير تقديم ، فهي بغيره لن تستجيب لعملية التواصل حتى وإن كانت تعتمد على اللغة. فاللغة هي معطى قسري لاقدرة للكائن البشري على تبديلها ولا تخلو من قيود، على غرار الأجناس الأدبية تقريبا.. أما الأسلوب، فهوالمجال الوحيد الذي يتيح للفرد هامشا داخل المركز، يجعل بإمكانه أن يمارس الاختيار – شرط أن يكون اختيارا حُرّا صادرا عن إرادة لاإكراه فيها . وعودة إلى اللغة فإن الوجود لايدرك إلا بها ومن خلالها ويتجلى في التوحد بين اللفظ والمعنى أو بين الدال والمدلول، وفي اعتباطية العلاقة بينهما، فاللغة شبيهة بالورقة، وجهها الفكر وظهرها الصوت ، وقد تم التفريق بين استخدامين لها ، هناك من يريد فقط أن يستعملها ( وواضع التقديم يشترط ، لكي يكون التواصل ممكنا ، أن تكون اللغة كذلك ، أي لغة قابلة للإستعمال ، لغة تشهد وتعظ وتشرح ، ونصير مع كلام يريد أن يبقى مجرد وسيلة للتعبير ونقلا لمضمون . ومما يجدر الإنتباه له أيضا، أن اللغة، من الضروري أن تحيل على "مرجع" – يحيل هو بدوره، على مجال واضح من قبل المرسل والمتلقي معا، كما أنها تقتضي ،وفقا لوصاية التقديم ، أن يتوفر المرجع على معلومات ملموسة تخصّهما معا ، المُرسل والمُتلقي ، ... لكن كل هذا يظل ينسحب على التواصل العادي ، أما التواصل المختلف أو الأدبي فهو لايحيل بالضرورة على مرجع واحد ومحدد ، مركزي أو هامشي ،ويلزم أن يتضمن كائنات حقيقية ( كما أنه – بالمقابل – لا يجب أن يتضمن كائنات مزعومة أو مجرد تُرّهات ، يتعذر على المتلقي التحقق من وجودها ، ذلك أنه حتى إن كان مجرد مرجع نصيّ، فهو لايعني أنه من السخافة بحيث لايحيل إلا على نفسه ! ومهما اتخذ طابعا "وثائقيا" في الظاهر ، فإنه يبقى نصا متخيلا، مُكبّا على الاستعارةِ والصورةِ ...، غير أنه كيفما كان فإنه يحيل بالضرورة على واقع متعارف عليه حتى وإن بقي هذا الواقع في حاجة الى تحديد ، "لا شيء خارج الواقع وخارج المتخيل ، إنها وحدة ملتبسة الطرفين"(فيصل دراج) ، علما أنه لا ينهض على نقيضه : اللاواقع، مهما بدت المسافة بينهما "ملتبسة" . ففيما تنطلق الوثيقة من واقع خام ومتعارف عليه ، أي مما لايفعل غير العبور ، وهو لامحالة يفقد كل قيمته بعبوره، تعتمدالكتابة الأدبية في أحد نماذجها على الإيهام بالواقع "المتعارف عليه" ، فهي ، لكي تتمخض عن مغزى ، فلابد لها أن تصل، أولا، ( وأن تقرأ، ما دامت تتضمن بالضرورة رَدا ، ضروريا وملحا وأساسيا ، وكل ما يجاور الرد من تعليق وتعقيب وطرح أسئلة أو الإجابة عنها، أو مجرد إبداء للرأي ، أي أن الكتابة في جوهرها ، تعبير عن الرأي وهي صراع .) . ولايهم لمن تصل في الاخير ، أو فيما إن كان سيعبأ بها أصلا هذا التي أرسلت اليه .. يمكن الذهاب عموما أن كل أدب "من غير أسباب سياسية يبقى أدبا عقيما ." ، لكن أيضا كلما نأى بنفسه عن المباشرة ، وعن التوجيه السياسوي بإبراز خطابات والتهليل لأصحابها وتحريف الصراع و"تزوير الوجدان"، تماما مثلما تزور الإرادة الشعبية ..
والآن دعك ممن يقول بأنه يكتب لنفسه، مادام بحاجة الى معرفة رأي الآخرين فيما يكتب، ذلك أن الآخرين هم مقياس لوجود الذات التي تستنكر أن تكون هي مقياس كل شيء . وذلك أن ما نسميهم آخرين إنما هم أجزاء مُكمّلة لنا . ( عالم الفكر2، شتنبر 07 20 ،ص275 ) . ثم إن وعي الفرد بنفسه إنما يتحدد بمدى وعيه بذوات الآخرين .
لكن الجميع يكتب لنفسه ، مهما بدا أنه يكتب للآخرين ، أو على الأقل ، هنا تكمن هذه الجدلية ، وهذا التاثير المتبادل .
وعموما فإن الواقع، لا أحد يمكن أن ينكر أنه يتجلى في المقصي والمبتور ...
ترى ماهو الاختصار التام وغير المخل جماليا ؟ ليس هو الابتسارولا البترطبعا ..كما أنه لايعني أن النصوص الطويلة ، الروائية مثلا ، لااختصار فيها ، ف الاختصار لايعني " التقليص" أو عدم الاكتمال .
كانت الحقائق الرهيبة دائما مختصرة، ولقد نجد الكثير من الكتب تعبر عن أعمق ما فيها في إحالة، في الهامش .
وبالعودة الى الواقع فنجد اختلافات في تحديده ، ففريق يراه مجسدا في الواقع الاجتماعي، وفي طبقاته وفي الصراع الاجتماعي والتاريخي الذي يحكم هذه الطبقات. وفريق يراه مجسدا في الوعي الفكري للفرد ، وفريق آخر يراه في اللغة ... (سلسلة عالم المعرفة ، ...2004 ).
مع الإقرار بسداد رأي التقديم في اتخاذه للقارئ معيارا على صدق الرسالة وصحتها ، فإنه أيضا من باب الإيمان ب"نجاعتها "، وصولها ، قبل كل شيء ، ثم قراءتها .. لكن ذلك غير ممكن إلا بترجمتها للهم الاجتماعي (أي أن تكون مندرجة في قنوات وأصول محددة) ... تلك هي الدرجة الصفر من القراءة . أما القراءة المتأنية فتعني تحليلها و تشريحها و تمزيقا لأوصالها .. ليس على سبيل التدليل على على نجاعتها هي، بل باعتبارها برهانا على نجاعة الجريمة وأدواتها (المناهج والمفاهيم) ، فإلى أي حد تبقى الرسالة بعد كل هذا القتل ، مصدرا حتى للمتعة ؟ ولكن بهذه المناسبة، هل هي (الرسالة) تهدف للمتعة ( أو للذة )؟ أي للإلهاء والتسلية والمسايرة – إن لم يكن للسلطة – فهي مسايرة للجمهور، وتملّقه، واستجابة للذوق العام ؟ أم أن الأدب الحقيقي يبقى مُقلقا؟ فيما أن الجمهور يقبل على المتعة السهلة والسطحية ؟ أما القراء "المتخصصون" ، فهم يتعاملون مع ماهو مصنف ؟ ..
ثم ما هو الأدب ؟ ( سعى سارتر الى الإجابة على هذا السؤال ، فربط قيمة الأدب بمدى انعكاسه الاجتماعي وتساءل ما الكتابة ؟ لماذا نكتب؟ ولمن؟ - تلقف بعض النقاد الإيديولوجيين هذه الأسئلة الهامة وأرادوا للأدب أن يعبر عن مواقف حزبية .)
طبعا لا اعتراض عن تعبير الكتابة عن أسئلة اجتماعية، حتى إن بقي الأدب في تغير مستمر ، فكلّ تصور له غالبا ما تتم إعادة النظر فيه وفي مكوناته وأنواعه ، التي خضعت في مجرى التاريخ لتغيرات كثيرة ، فالتمييز بين الشعر الذي يجب أن يعلو على الرواية (مثلما تعلو الدراما على الكوميديا ) ، إنما هو تمييز قضى في عصر الأنوارالأوروبي ، أي أنه ظل تصنيفا مستمرا من العصر اليوناني الى انتصار الرواية الرواية في القرن 19 ، يرغم على التوقف وصياغة تصنيفات أخرى ، لأن العالم كان قد دخل عصرا جديدا يطبعه الوعي بالخِفّة، والهشاشة، وعدم الاستقرار، الذي صاريسم جزءا من الحداثة ( باعتبارها ، بحسب بودلير ، هي العابر والهارب والمحتمل ). وتحول التعارض بين أدب "رفيع " وبين أدب "وضيع" الى صدام بين أنواع " مرتفعة " في جوهرها وبين أنواع منحدرة بالطبيعة ( س عالم المعرفة2004 ، مم .) – تجدر الإشارة أيضا أن وجود أدب راقٍ قد يكون مُمْكنا في أوضاع متخلفة ( كما كان الحال مع أدب أمريكا اللاتينية )، لكن هذا لا يدعو الى أن تكون الأوضاع المُتَخلفة ضرورية الوجود لكي يكون هناك أدب راقٍ ، لأن الأوضاع حينما تكون راقية تزدهر فيها الحياة بالضرورة .- وصار ، وهو الأمر المفاجئ ، في مقدور النص العلمي أن يتحول الى نصّ أدبيّ ، لايقتصر على تقديم قوائم الأشياء والحقائق الأخلاقية أو القوانين الطبيعية والمعادن والطب ...، أو القواعد النحوية مثلما نظمت شعرا في الثرات العربي ، أو أن لايشهد فقط على العصر (بأن يكون "مرآة" ، له )، بقدر ما يعمل على تعريفنا بالعالم معرفة استعارية، تكون موضوعا لقراءاتٍ شتىّ ( انظر مثلا لقراءات سارتر لكتابات فلوبير وقارنها بين الكتابات النقدية المعاصرة لها وانظر أيضا تناول بورديو ل"التجربة العاطفية"...) ، إنها متعددة الدلالة فضلا عن كونها تشف عن معرفة ، فنحن إذاما تجاهلنا الجانب المعرفي في قراءاتنا للنصوص الأدبية نكون قد تجاهلنا شيئا أساسيا فيها ( ت. تودوروف . وب. مشري . وج. كريستيفا .انظر دراسة محمد برادة المنشورة في مجلة الثقافة المغربية ع 18 ، يوليوز 2001 ، تحمل عنوان "تلك الجدوى..." ) وبناء عليه فقد شكل الأدب على مدى تاريخ الإنسانية مصدرا أساسيا للمعرفة وذلك ما عمل على صموده منذ هوميروس . كما شهدت بلدان من العالم قيام كتابات جرى تصنيفها في خانة الأدب ، فيما كان لأصحابها غايات مختلفة بالمرة ، وفي المقابل فقدازدهرت كتابات تعلن منذ البداية عن انتمائها الى الرواية مثلا، غير أنك ما أن تنتقل من الغلاف الى الداخل حتى تجدها تقدم معلومات حقيقية عن واقع خاص ، وعن إنسان يتلقي وينقل تجربة خاصة ، تثبت لمن يقرأها أنها نصوص أوتوبيوغرافية تقدم شهادة حية ومعاشة عن واقع فعلي وتعلن تنديدها بسلوك وفضحها لممارسات وتأريخها لأحداث وقعت بالفعل ويسارع أصحابها لتدوينها قبل أن تدركها جرافات التاريخ الرسمي ، غير أنها تنضوي لغايات أخرى تراعي السوق تحت اسم روايات تأخذ مسافة من الواقع .
ففيما يتعلق بالتصنيفات نذكر كيف تساءل م.فوكو في "أركيولوجيا المعرفة"1969 ، منطلقا من فكرة أملتها عليه التصنيفات المعرفية التي وجدها تواكب كتابة تلك النصوص، وتساءل فيما إذا كان يصح أن يستمر الأخذ بتصنيف للخطابات يضع العلم إزاء الأدب والفلسفة والدين والتاريخ، ... كل واحد منها إزاء الآخر ، أم أنها تصنيفات خاضعة للتغيير ويجب إعادة النظر فيها؟
كما لااعتراض أيضا على كتابات تهدف الى التنوير والتوعية ، شرط ألا تقع في مسايرة السلطة أوأن تتملق الجماهير ، وتناصر قضايا هي أدعى للمناهضة ، ...
ونحن نقرأ لكتاب كثيرين ، مشرقا ومغربا، لانعود نعرف فيما إذا كانوا يتستّرون حول ما يريدون البوح به ، ضمنا، أم هم يريدون الكشف عنه ؟ !
نجد في التراث العربي عدة كتب لاتحمل أسماء مؤلفيها بل وتمت فيها نسبة عدة قصائد لغير مؤلفيها ، ولقد سادت هذه الظاهرة في المرحلة الشفوية كما في المرحلة الكتابية ثم تمت بعد "عصر التدوين " نسبة عدة كتب الى الجاحظ ، كما نجد كتبا لاتحمل أسماء مؤلفيها كألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة ...الخ . فضلا عن النصوص المنشورة بأسماء مستعارة والنصوص المعلومة الأسماء والتي لايتشكك القارئ من نسبتها لمن وقع عليها الى جانب النصوص التي وقّعَ عليها أكثر من مؤلف ، كما نجد – في العصر الراهن- من يتخلى عن أجزاء من نتاجاتهم ( فهل يصح تعديل أو تصحيح صورة الماضي حتى تتلاءم مع الحاضر ؟ هل هو التوق الى تجاوز الذات؟ وهل تجازها أمر ممكن ؟ ...؟ لقد نحّت البنيوية الذات وتحدثت عن "موت المؤلف" واعتبرت النتاج الأدبي متعدد الأطراف ويشترك فيه المؤلف والناشر والقارئ ...
كما نجد، مثلا ، في التراث العربي ، نماذج من الكتابات "المضنون بها على غير أهلها" ، كأنها تتنبأ بأزمة القراءة الراهنة ، القراءة الوحيدة الممكنة هي القراءة الجامعية الاتباعية ، فقد أحرق أبو حيان التوحيدي كتبه في آخر عمره "ضنا بها على من لايعرف قدرها" وهو يذكر نماذج أخرى شبيهة به كعمرو بن العلاء الذي "دفن كتبه" ، وداوود الذي "طرحها في البحر" ويوسف بن إسباط الذي حملها إلى غار وألقى بها فيه ، وسليمان الدادائي الذي وضعها في تنور وأحرقها ، وأبو سعيد السيرافي ( واللائحة طويلة التي كانت تخشى أن يقرأ الناس ما تكتبه هي ، فتكتب لنفسها؟. أم أنها تفعل ذلك خشية من القراءة غير المنصفة ؟.. ، مع أن مادة القراءة لم تكن متوفرة حينئذ مثلماهي عليه الحال اليوم ! . )
ثمة مفارقات في الساحة الثقافية المغربية الراهنة ، هناك مثلا كتابات حظيت بعناية خاصة لمجرد أن أصحابها يشكلون زبناء وقوة استهلاكية أو هم ينضوون تحت أصناف صارت مركزية ومعترف بها ومشمولة بهواجس أمنية ، قد تكون مجرد هواجس ، لولا أنها مفرطة، وتدعي التجسيد الملموس ل"عُرفٍ" صار مرعيا وتحميه شرطة تخضع الكتابة لمحددات لا يجرز اختراقها – مع أن الإبداع هو في جوهره اختراق للمحددات !
لكن أيضا ، وكما بات معروفا ، فقد أدت المناهج الشكلية الى تهميش النصوص التي لاتخضع لتصور صاحب القراءة، كما أدت الى نفور القراء منها حتى في البلاد المعروفة بكثرة قرائها ، (لقد أدت نماذج تلك القراءات الى جفول القراء من نصوص موجهة من قبل تلك القراءات ، نصوص مغرقة في "التطبيق" وفي الحذلقة الشكلية وابتعدت عن الإنسان المتعين في التاريخ، وأدت قراءتها المرحبة والمصفقة الى التدليل فقط على نجاعة مفاهيم النقاد وأدواتهم (ت. تودوروف ، الأدب في خطر. 07 .)
×××
أما الشعر فلا يمكن – بحسب أفلاطون – ان ينقل مضمونا مفهوميا، ولذلك فهو قاصر عن المعرفة . وكان سقراط في الكتاب العاشر من الجمهورية قد حصر نشاط الشاعر – كما المصور والنحات – في فعل التقليد فبرهن لمحاوريه أن "الفنان" إنما يعيد إنتاج ما أنتجه الحرفيون، فهو مُقلد من الدرجة الثالثة : إن العامل يصنع الشيء وفقا لقواعد دقيقة تربط الشيء باستعماله و بمنفعته ، أما الفنان فيكتفي بتقليد ماصنعه العامل، وبهذا فهو يبتعد عن الواقع وعن الحقيقة، وهكذا لايحمل الشعراء معرفة، فنحن لانجد عند هوميروس لاتأملا في السياسة ولااكتشافا علميا ولافلسفة أخلاقية ... ولهذا لامكان للشاعر في المدينة الفاضلة ، فهو يعمل فقط على خلق الأوهام .
المهم ، ليست المعرفة القصودة هنا هي المعرفة المدرسية المسخرة للمفاهيم والمنطق وللاستدلال وللتفكير النظري التجريدي ، أي المعرفة المباشرة ، بل يمكن أن تكون غير مباشرة أدواتها الإستعارات والرموز والأخيلة وترتبط بما هو محسوس وتنكب على الذات الفردية المهددة بالإبادة ، إنه (الأدب) ليس تفكيرا في المعرفة، وفق خطاب إبستمولوجي . أي أن هناك فلسفة للأدب أوفلسفة أدبية بحسب ب. ماشري ،تختلف عن الفلسفة التعليمية . وإن النص الأدبي يمكن أن يعتمد على أفكارهو الآخر .. يمكن أن نعتبر أن الفلسفة التعليمية إما هي منظومة معرفية أعلى من الأدب في هذه الحالة، أو أن الأدب هو ممارسة فلسفية في طور المخاض ( محمد براة " تلك الجدوى المفجرة لما هو مستقر " الثقافة المغر بية ع:18 ص12 . كل هذه الفقرة هي تلخيص لجانب من مقال الكاتب ) طبعا، ليس هذا هو المقصود ، أي أنه قصاراه أن يصل. ج. كريستيفا تقول بأن مهمة الأدب تكمن في أن يستثير المتخيل الجماعي وتخليه عن الدور التقليدي المتمثل في تجويد اللغة وتأمل الجمال وتقديم أجوبة مطمئنة عن الكون على غرار الدين والفلسفة والعلم، وليس هو مجابهة الواقع الاجتماعي وتعقيداته ، غير أن هذه المجابهة لم تقده الى السعي الى تغيير هذا الواقع .
×××
وختاما لعل الولع بالفكرة – بدل الكلمة ، وبالنظرية، التي لاتصير شكلا من أشكال الدرس ، أن تكون فقط "شكلانية مضادة"... كما أن الاعتماد على الترتيب والقطع والربط والانتقال أن يجعل الفقرة مرتبطة بما قبلها وما بعدها وتقترب كثيرا من الذهنية أو العلمية ... ( عمل النقد الحديث على إقامة تعارض صارم بين النص العلمي والنص الأدبي ، وأكد الفرق فيما بينهما قائم في أن الأول يتجنب التعدد في المعاني ، فيما أن الثاني يتعمد التعاطي معها ، ومع ظلالها ، مثلما يتعامل مع الخطأ والتلميح والتناقض وعدم الحسم والصمت وتحويل للتنظير الى خلط للنظرية أو تحريف لها ...)
الولع بالفكرة والخوض في التحليل والافتتان بالتفلسف ... شأنها شأن حضور النقد في العمل السردي –الذي ساد طوال فترة، نزولا عند ما تراه تنظيرات غربية – هي بمثابة الأستفاقة أثناء الحلم، تؤدي الى توقيفه أو تعطيله .
ومع ذلك ، يمكن القول إن الكتابة المستلهمة للفكرة انطوت في نماذجها الناجحة على عمق، ليس مفتعلا – اللامعنى والتجريد .كما تشهد على أصالة أصحابها وعلى ثراء تجاربهم.
تبقى الكتابة المستلهمة للفكرة والمشتغلة على المفهوم ، كتابة "مشروعة" ، مادامت لاتستخدمه سلاحا تُسدد فوهته الى وجوه مخلوقات هذا العالم الملتبس ، كأن صحابها من القوات المسلحة .. وليس العيب في الصدور عن نظرية ، لكن العيب هو في النظر للعالم من خلالها ، واعتبارها ضمنا هي الأحق والأجدر ، بحيث نصير مع تمركز آخر .
×××
ليست هذه النصوص شذرات – وإن كانت تستفيد من اختصاريتها . وليست قصصا ، وإن كانت تستخدم السرد ، وليست مقالات وإن كانت تستخدم الفكرة ، كما أنها ليست شعرا وإن لجأت الى الصورة ، وهي ليست نصوصا حين يراد بهذه أن تكون نصوصا "مفتوحة" . وليست أيضا نصوصا معرفية وهو الأسوأ وليست نصوصا أوتوبيوغرافية .
انها عموما نصوص سبق نشرها، لكن النصوص التالية تختلف عن الأولى بالمرة – هل يصح هذا ؟ - ولذلك لم يتم إثبات تواريخ نشرها .
×××
1 ، وضاعات
1
كان الباب الذي لم يعد واقفا في مواجهتها هناك ، بأقصى الممر المفضي الى الأدراج ، قدعاد الى مكانه وبدا مفتوحا على خلفية من النور الأخضر المتوهج ، لكنه بعيد ، كما لو أن المسافة التي تفصلها عنه، بغرفها اللامتناهية ، هي مسافة لا متناهية بدورها ، وهي تتمدد ، عكسا، مع السرعة التي تركض هي بها ، لذلك زادت من سرعتها، على الرغم من إحساسها بأنها ، منذ ساعات كثيرة وهي تركض .أما الغرف الكثيرة ، والتي ظلت تواكبها من الجهتين ، فقد ظلت منذ البداية ، مفتوحة ومهجورة ومهدرة . لكنها حين خرجت أخيرا ، لم تجد شمسا بالخارج ، رغم اختناق الجو بالحرارة ، ولاأشجارا .ثم ما فتئت السماء كلها أن أخذت تنحني عليها رويدا وهي تسير ، الى أن ربضت على كتفيها ، مرضعة بأجرامها الثقيلة وبأحجار السحاب المشتعلة .
2
في أعلى الشارع لاتقع أية حادثة سير ، رغم أن السيارات تقطعه بسرعة أكثر من جنونية ، كما لو أنها كانت على موعد حاسم ومصيري . أما الشارع فقد كان ينتهي الى مفترق طرق بلا أرصفة ولاأضواء مرور أو علامات سير ، ولست أدري فيما إن كانت تؤدي ، والى م ، ولم ؟ والمكان كله هو تقاطع رياح ، فضلا عن مارة غفيرين ومتعجلين ، و"هاتف عمومي" واحد ، ثم "مدرسة عمر بن الخطاب للبنين والبنات" وقد كتب المسؤولون على جدرانها بإلحاح وتوعد : "ممنوع رمي الازبال"، ثم لاحقا باستعطاف : "ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء"، غير أن ذلك لم يحل دون أن تصير المدرسة مستودعا لرمي الأزبال .
3
لايبدو معمار المنطقة نفعيا وحسب ، بل مختلسا ، وأدنى من أن يكون غير لائق –صمم على عجل وأنه موظف لمجرد الاستعمال . لذلك صار مبعث قلق وموئل روائح وموطن أمراض ، لايشهد فقط على نفعية مستعمليه أو على تدهور ذوقهم ، قدر ما يشهد على هذه الشراهة الى الوجود ، كيفما اتفق ، ولمجرد أن اللآخرين يوجدون .
4
في باديتنا (بادية السماوة) ، يقيم رجل يدعى " السّْحَابْ" ، ظل الإسم يثيرني دائما وظللت بين مكذب ومصدق للحكايات التي سمعتها عنه ، منها مثلا أنه يسعى فوق الماء ، ويعيد تشكيل السحاب حين تغيم السماء أو يجعلها تمطر ، بل ويعيد تغيير النجوم ليلا ، .. لذلك ادعى النبوة .
5
طوال اليوم ومنذ الصباح ظل يجري على ستين قدم ومائة ساق صب الحياة في قوالب اجتماعية أكثر ضيقا لكنها مليئة بالوعود وأشدإخلافا للوعود وأكثر تبشيرا بارتواء يكون أوسع من حجم العطش .
6
أسفل الزنقة 80 بالمنظر الجميل يلعب الأطفال الطرومبة (الخذروف) ، وحين يملون يطلقون النار على بعضهم من بنادقهم القصبية فيردون الجميع قتيلا .
7
لا يمكن أن تحس كم هي المسافة شاقة إلا إن كنت مطرودا ومحكوما بالتسكع طوال النهار ، بل حتى بالنسبة لمكان مستو فإنه لا منجى لك من الإعياء ومن اللجوء من ثم الى المقهى –الذي يبقى هو المكان الوحيد للاستراحة أو اللاختباء، لأن الحدائق تعج باللصوص التي تقتات من اعتراض الناس ومن سرقتهم من أجل العيش ، فالناس هم الذين يشكلون تصحيحا لأخطاء يرتكبها
أناس آخرون في الحكم . أما الأمكنة المتبقية فهي إما عشوائية أو مهربة – قد يكون بعضها قاوم كل عمليات التبييض ، حينئذ لا مفر من المقهى ، المكان اللقيط والنفعي والذي يهدف الي اصطياد المتعبين والتمكن من الزج بهم في فخه لأنه بني علي أساس : "مصائب قوم عند قوم فوائد."
8
المقهى بزينته البليدة ، وماكياجه المصطنع ، وألوانه الفاقعة وجوه الباهر الضوء ورواده الثرثارين والمواظبين ، كما لوأن النادل يحاسبهم ويسجل عليهم الغياب !
المقهى بإهداره للعمر ونهبه للحظة .
المقهى مبتكر العزلة وسط الجموع وصانع التفاهة ومنتج الضجر.
(حين تدمن ارتياد المقهى لاشيء يعود يثير دهشتك ، تصير داجنا ومتصالحا مع الماضي والحاضر والمستقبل ).
في المقهى تصير الأماني نحيلة والأحلام ماسخة والرغبات لاتتحقق .
المقهى اعتراف من قبل المدينة بعجزها عن ابتكار أمكنة بديلة .
×××
2 ، مغادرات مستحيلة
1
المضيق من الضيق والاختناق والانغلاق .. أما الجسر ، الذي عادة ما يشكل مجازا وموضعا يسهل تخطيه ومعبرا للمغادرة وحيث تنتفي الحدود بينك وبين الأخرين ...، فهو هنا يتحول الى إعاقة أو الى إيهام بالمرور ويصير الانتقال تقهقرا والمخرج مأزقا والجسر حاجزا وهاوية وسدا . (يحكي الإدريسي –جغرافي القرن الثامن الميلادي – كيف أبدعت السلطة العربية في تشييد السدود . والأمثلة أيضا على هذا أكثر من أن تحصى، غيرأننا سنقتصر على ذكر اسم طريف هو سد "بند.أ. أمير "، بناه الأمير عضد الدولة البويهي ، والذي حكم العراق وإيران من سنة 960 الى سنة 1055 ! وهو (السد) يوجد على نهر "الكور"، في مقاطعة فرس الواقعة ما بين مدينتي شيراز وإصطخر، .. ويشير مؤرخ آخر هو المقدسي الى أن عضد الدولة هذا ، عمد يوما الى إغلاق ذلك النهر الواصل بين المدينتين المذكورتين بواسطة حائط كبير مقوى بالرصاص . وقد قامت إلى جانب السد دواليب مائية ، وتحت كل دولاب قامت طاحونة . ). هذا ويحتفظ لنا التاريخ أيضا بسدود أخرى كثيرة مشهورة مثل "سد مأرب " في اليمن و "سد الطائف " في المدينة ،.. وقد اقترنت السدود بري الأرض والحفاظ على خصوبتها . وعموما تنشأ السدود من أجل تخزين المياه وتحويل مجرى الأنهار لري الأرض بحيث لا تقام من أجل قحولة الأرض أو عطش الإنسان ، إذ كيف العطش والماء يجري زلالا؟ ! لكن ما يبدو مثيرا هو أن تسخر السلطة الأمور لغايات مناقضة بالمرة لوظائفها الظاهرة وتدعو أحيانا للذهول / كأن يكون السد انسدادا ، ولقد أنشئت في المغرب لري أرض الفلاح المغربي حصرا .
2
ليلا ، وفي الطريق الى الملاجئ الجديدة ، بقف هؤلاء الحراكة ، أعداء الدولة (التي تحارب المقيمين كما تحارب المغادرين ) !يظلون طوال الليل متربصين عند مفترق الطرق ، يترقبون مرور شاحنة كبيرة تابعة للاستيراد والتصدير تمكنهم من الاختباء تحتها ويعرفون أنها تصل الى الميناء وتمتطي سفينة ثم تغادر "التراب " الوطني ... لولا أنها كثيرا ما لاتغادر ثم تعود على أعقابها في اليوم التالي !
3
أولئك الذين يعتبرون المغادرات ممكنة لأن "أراضي الله واسعة" ويعتبرون السقوط الأخلاقي، "تمردا" ، وقد صار لمثل هذا التفكير مشايعوه وتدعمه ثقافة وتتبناه أحزاب ويرفع رايته جمهور عريض .. وهو تفكير يعتمد على الفرد في تأكيد الفكرة وتأييدها .. وعموما كثيرا ما يؤخذ الفرد بجرائر الآخرين الذين يتهمونه بطائفة من التصنيفات والأحكام والمعتقدات الجاهزة التي نسجوها هم ...( يأتي الساقط أخلاقيا الى الفرد ، منطلقا من اعتباره مقصيا مثلا ، ويجد ربه أن يتقبل النعمة لاأن يدوس عليها ، ...)
4
أصحاب الوظائف الكثيرة هم أيضا أصحاب المبادئ الكبيرة هم الثوار والمحافظون هم المتشوفون لامتياز السلطة والطامعون في شرف المعارضة .
5
لا مفر من الصعود كل يوم الى المقرات المغلقة التي يمتلك مفاتيحها الزعاميم ، لكن يغلقها إخوانهم ، الذين يفهمون العالم على نحو أعجم علينا(نحن الشعب) بالمرة ، ويتأملون العالم من شرفة في طابق مرتفع فتبدو لهم مستوية الأركان فيما هي أقرب الى السقوط في هاوية بلا قرارولا أدراج ..
6
المقهى مربع والطالات مستديرة وما من جديد إلا ما تأتي به الأخبار التي ظل ينقلها ، طوال الشهر ومنذ البداية ، مراسلون يتوزعون ، كالنحل، على كل حقول الأرض .
7
ذلك الزبون الذي كان بالامس فقط ، يشبه عبد الله غول، صار اليوم يشبه كوفي عنان ( الذي ازداد في الكوفة والذي سيقضي نحبه فيها لامحالة ) والذي هو رجل مهم ، مثل حقيبته تماما والتي كثيرا ما يتساءل النادل (عْزيوْز) في نفسه "ترى بماذا يحشوها صاحبها ؟" "هادْ الخُروطو" –الذي عرف مؤخرا أن اسمه الحقيقي هو الدكتور " عربي وافي " . يقول النادل بأنه سيركلها (الحقيبة)في المرة القادمة ويركل معها صاحبها .. أما "الموظفون الأشباح" فقد جاؤوا مبكرين كالعادة ، ثم استولوا على المقاعد كلها كغزاة ماقبل القرون الوسطى ، ثم رفعوا أصواتهم الى أن أصبحوا أكثر ظهورا من الشارع وأخذوا يعلقون على الأحداث ...
8
لااعتراف ولاإدماج ، ليس فقط في العهد القدبم ، بل في كل العهود ومن طرف كل الأجيال ، التي تومن بأن الإقصاء هو التغيير الوحيد الممكن، والأجيال الجديدة هي التي تقول كان أبي...
×××
3، أيام ضالة
1
الحديقة نفسها ، لكنها ليست كما كانت منذ البداية ، بل كما كانت منذ ثلاثة سنوات فقط ، وهي منذ البداية ، كانت بلا طيور ، لكنها بكامل أشجارها ، المتسخة والأكثر هرما وأغصانا عجفاء ، فضلا عن أيامها الضالة ، ككلاب ، أيامها الشديدة الاغبرار والتي تتداول عليها بكامل الوقاحة والبلادة والاقتحام ، ثم العشاق الذين ضاقت بهم السبل فضربوا مواعيدهم بها ، غير أنهم ما أن جاؤوا ، حتى شبعوا اعتداء ...
2
ذلك العالم الذي يسوده كل الوئام ، هو مثل عالم يسوده الاختلال ، المودة المداجية ليست أفضل من الكراهية .
3
التسكع تجوال مستعار ومشي سلبي .
4
الرجل الذي يذرع المكان ، لايبدو أنه يعتبر ذلك مجرد مشي ، بقدر ما يعتبره عملا يؤديه أو عبادة يقوم بها ، فيقوم بها في تفان ، كراهب طردوه من دير. من الواضح أنه ينهض مبكرا ، ثم يأتي الى المكان البارد والممتد ، لكي يذرعه جيئة وذهابا . يذرعه أو تحديدا يطوف من حوله ، كأنه معبد ، متمهلا ومتعجلا محاذرا من أن تدهسه عربة أو سيارة طائشة "لماذا فقط كل هذه العجلة ؟" . يطوف حتى ينثني رأسه ويلتصق بصدره وينكسر هيكله وتدمى قدماه .
5
نهارات عبوسة ، كأنها تعيش لحظاتها الصعبة من الداخل ، فيبدو عليها العياء عند السفح ، وهي تمشي ببطء ، مجرجرة سماءها الرصاصية و شموسها المنطفئة .
6
كما لو أن ذلك حين يحصل، يحصل خارج الحياة، مع أنه من صميمها. وعموما فهم يرونها (حياتهم )، غير كافية مهما كانت مديدة فهي غير كافية ومضجرة وغيرمفهومة . ومثل هذا التناقض لايبرره أن يكونوا هم أيضا متناقضين ، فهل جاؤوا لكي ينصرفوا ؟ ! ثم إن مايتم لاحقا يجعل منها عالما جاهزا ، حيث يجدون أنفسهم يؤدون أدوارا ثانوية ورثة وينخرطون في قصص بالية ولم يتخيلوها .
7
"حمام دار البارود" بقدر ما هو مرتفع الحرارة هو مرتفع الثمن ومكدس وضيق وبلا هواء . أما الماء الوحيد الموجود بالداخل فهو موجود كله في "البورمة" ، وهذه بعيدة وتوجد في الحجرة الثالثة ، والحجرة الثالثة، كأنها الجحيم ، إن أنت وصلتها ، فالغالب أن اقدامك ستلتصق بالرخام . وغير مسموح لك بأكثر من أربعة أسطل ،وهي طبعا لاتكفي . ولكن عليك أن تنتهي قبل أن يغمى عليك ... والقائمون عليه متقدمون في العمر ولايردون السلام .
8
تسمعون راديو سوا على موجة إف إم ، يأتيكم من واشنطن وهو موجه للعرب جميعا من المحيط الى الخليج ويبث سبعة أيام على سبعة، 24 ساعة على24 ."سي مون بروميي أمور وفْراقنا سي ديفيسيل !" . سؤال الأسبوع :"ماذا يمكن فعله للحدّ من الاكتظاظ أو من الكثافة السكانية ؟ اتصلوا الآن ، الخطوط مفتوحة" .. يتصل المستمع ويتساءل بدوره: "وماذا يمكن أن نفعل الآن في رأيكم ؟" فيجيبه الرجل : "انتوما كاتكلموا وحنا كانسمعوا !"
9
عاد الأصدقاء الى الداخل بمجرد ما انطلقت المباراة ، كما عادت المرايا تقابل كل من أراد منهم أن يتستر على نفسه قليلا قيجد أنه صار مرئيا أكثر مما كان في الرصيف . ثمة كراس تمتلئ عن آخرها كل مساء ما أن تبتدئ المباراة ، وتحيط بالطاولات كما تحيط المرايا بالأسوار وتضاعف من عدد الجالسين وتضاعف من عدد الجالسين وتضفي عليهم كثافة زائدة وحضورا كبيرا وتشكل مجالا للتجسس والمراقبة وتكتظ القهوة بالوجوه الجديدة حيث يتوافد حتى الأطفال والباعة المتجولون وغير المتجولين ويتوحد الجميع .
10
لم نصدق أن يتم الأمر بسرعة وأن يضع لنا موظف بالغ النزق كأنه لوحده يشكل تكذيبا لكل ما يتشدق به المسؤولون من ضرورة مراعاة الحاجة الملحة للمواطن ومن ضرورة انفتاح الإدارة على محيطها. لم نصدق أن يضع لنا الموظف الطابع المخزني على وثائقنا بمثل تلك السرعة ، غيرأننا ظللنا ننتظر النهار كله مجيء موظف آخر ، قيل لنا بأنه هو الرئيس لكي "يفيرمار "لنا عليها ، لأن الطوابع من غير إمضاءات تبقى بلا جدوى أي غير مصادقة أصلا .
×××
4 ، قضايا الساعة
1
أفادت نظرية أنثربولوجية أن الإنسان الأول لم يكن ، مثلما تر سّخ في الأذهان لاحقا، صيادا ، ولاحتى مقاتلا، بقدر ما كان طريدة . فالنظرية الجديدة تنفي القناعة التقليدية التي نشأت عن عقيدة يهودية مسيحية تنظر الى الانسان الاول باعتباره كان شرا متوارثا ، ونشأ منذ البداية منطويا على نزعة عدوانية مبيتة ، وقاتلا بالسليقة ، لقد تأكد أن هذه القناعة غير صحيحة ، لأن الإنسانية تطورت عبر التعاون لاعبر القتل . وهكذا يرى بعض الأنثربولوجيين أن الإنسان الأول كان من فصيلة الطرائد التي تقتنصه ضباع من أحجام الدببة والقطط الوحشية وغيرها من آكلات اللحوم.
2
ألقى هايدغر درس " مقدمات في تاريخ مفهوم الزمن "سنة 1925 ، وهي السنة التي أعقبت انتهاءه من تحرير كتابه الأطروحة " كينونة وزمن" ،1924 . مايشكل أصالة هذا الدرس هو أن صاحبه لم يشرع في الخوض في مسألة الكينونة ، أو هو لم يطرحها أصلا إلا من خلال التفكير في مسألة "الزمن " ، وعند تفكيره في هذه القضية كان مضطرا إلى العودة الى سياقها الخاص المتمثل في فينومينولوجيا بداية القرن العشرين . أي أن الدرس كان يتضمن إجابة عن السؤال : لماذا هو يعود إلى الفينومينولوجيا تحديدا ، إنه يعود إليها لكي يشير الى كونها أغفلت طرح سؤال الكينونة فيما هي توفر أرضية عرضه .
3
ولكن بمناسبة ذكر مفهوم الزمن نفسه –وليس مفهوم الكينونة ! –فإنه لا يمكن إثارته وإغفال إثارة قضية الساعات باعتبارها تشكل صناعة (سابقة أم هي لاحقة ؟ ) على مفهوم الزمن نفسه، إذ لم تبرز هذه الصناعة إلا من أجل قياس الزمن ، بمعنى أن الزمن كنظر وتجربة يعملان على تقدم المعرفة، كان أمرا سابقا وكانت الساعة أمرا لاحقا ، ثم إننا كلما فكرنا في مثل هذه الصناعة في إطار الثرات الإسلامي مثلا ، إلا واستحضرنا تلك الساعات المائية وكثير غيرها باعتبارها ظواهر تطبيقية لعلم خاص هو علم الهندسة ، الذي يشمل كل الآليات الأوتوماتيكية ("ذاتية الحركة" ) والتي تتضمن أيضا كل التقنيات الدقيقة من " مواعين" بارعة وأدوات حاذقة وآلات في منتهى الدقة ...، واختصارا كل ما اصطلح عليه في الهندسة القروسطوية الإسلامية ب"علم الحيل"، الذي كان له تأثير كبير وغير مباشر في قيام الثورة الصناعية بأوروبا (هذا وقد أدخل العلماء المسلمون تقنيات أخرى ، إن كانت أكثر تعقيدا من الناحية النظرية ، فإنها كانت قابلة دائما للتطبيق ، لأن قيمة العلم كانت تقاس بمدى نفعيته أو فقط بمدى قابليته للتطبيق . ولقد كانت الساعات صناعة فعلية وليست مجرد "إنشاءات ورقية لعلماء نظريين" فقط !
ومما تجدر الإشارة إليه هنا أننا كلما ذكرنا هذا العلم في مثل السياق المذكور إلا ومثل في أذهاننا مخطوط "كتاب الحيل " للإخوان الثلاثة أبناء موسى ابن شاكر باعتباره يتضمن تعريفا وافيا لهذا العلم ، وعدنا بناء على ذلك إلى القرن التاسع الميلادي . غير أن الأمر المفاجئ حقا والذي يتعين ذكره بهذا الصدد ، أن ابن خلدون يبدو مستريبا وغير مسلم بأن المخطوط المذكور يعود بالفعل الى الإخوان الثلاثة أو حتى الى أبيهم ، فهو يقول عن المخطوط أولا بأنه " يتضمن من الصناعات الغريبة والحيل المستطرفة كل عجيبة ، وربما استغلق على الفهوم بصعوبة براهينه الهندسية (...) وهو بأيدي الناس (الذين ) ينسبونه إلى أبي شاكر ، و(لكن ) الله تعالى أعلم ." ! ، لذلك دعنا من أبي شاكر هذا ودعنا حتى من أبنائه ، ففضلا عنهم هاهو العالم الفلكي "الزرقالي 'وساعتيه القائمتين على نهر تاغ بطليطلة منذ العام 1080م. ثم تهمنا الأوصاف التي تضمنتها كتب "ابن الرزا ز الجزري " و"رضوان الساعاتي"، حيث يصفان الساعات المائية بأنها ساعات ضخمة ، تتكون في نموذجها الأصلي من شاشة برونزية (أو خشبية ) ، في الجهة العلوية منها تقوم دائرة الأبراج وهي مصنوعة من نحاس جرى تطريقه حتى صار يبدو لامعا ومصقولا . تنقسم الدائرة المذكورة الى اتنثي عشر قسما . داخل هذه الأبراج توجد دائرتان من زجاج تمثلان الشمس والقمر . بالامكان تدويرهما يوميا في موقعهما الصحيح . تحت دائرة الأبراج اصْطَفَّ فيلق من الأبواب الورقية ، المزدوجة أو الأحادية . أمام الورقة الأولى المزدوجة ، قام هلال من فضة ، أما الورقة الثانية (الأحادية) ، فتحيطها نصف دائرة ، وينهض على جانبها صقر يكمن داخل مشكاة ، وتحته مزهرية معلق عليها ، صنج . أما على منصة الساعات فيقف خمسة موسيقيين : طبالان ونافخان على البوق وصناج .
تبدأ دائرة الابراج دورانها عند الفجر ، ثم تتوالى بعد ذلك الى أن يغيب أحد الأبراج في الأفق ، وكلما أشرق برج آخر إلا وتحرك الهلال هو الآخر بانتظام ، ومر من أمام الأبواب ، بعد مروره أمام البابين الأولين مثلا تكون قد اكتملت ساعة ، ويعدئذ تفتح ورقتا الباب الأول ، في النصف العلوي ، فيما يدور الباب الأسفل الذي يظهر بلون مغاير ، وتنحني الصقور ثم تفرد أجنحتها وتنشرها ويرمي كل منها من منقاره بكرة على الصنج . وفجأة تضاء دائرة الأبراج ، وتكون قد دارت في النهاية 180 درجة في اليوم ، وانفتحت كل الأبواب العليا وتحركت كل الأبواب السفلى على محاورها ، وأضيئت الدائرتان ، وعزفت الجوقة الموسيقية ، ثلاثة مرات ( مرة على الساعة السادسة صباحا ، ومرة على الساعة التاسعة ، ثم مرة في منتصف الليل ).
وثمة ساعات اخرى زئبقية ، في تاريخ صناعات الساعات في العالم الإسلامي ، توجد في كتاب "المعرفة الفلكية" الذي كتب أصلا بالإسبانية سنة 1227م، بتوجيه من ألفونسوالقشتالي العاشر(وجدنا تعليقات عنه باللغة العربية ) وهو يشمل أوصافا لثلاثة ساعات ، منها ، مثلا، هذه الساعة التي تأخذ هيأة أسطوانة كبيرة من خشب وهي ، مثلما جرى تركيب أجزائها بإحكام ، جرى أيضا إغلاقها بنفس الاحكام . هذا وينقسم الجزء الداخلي لهذه الساعة من إثنتى عشر حجرة مجهزة بثقوب صغيرة يجري الزئبق عبرها . وقد تم تركيب الأسطوانة على المحور العائد الى دولاب كبير تستمد منه الساعة طاقتها على الحركة . ويوجد على المحور نفسه ترس يتكون من ستة أسنان معشقة ، مع 36 سنا آخر من خشب السنديان . ينهي الترس وأسطوانة الزئبق دورة كاملة كل متم أربع ساعات . . تتضمن الساعات المائية خزانات مياه وعوامات وأحواضا وقنوات وأنابيب ، وهي تشتمل على تنظيم دقيق لحركة الماء وسريانه الذي يملأ صفيحة ذات شكل مقعر وحافة تدور داخلها صفيحة أخرى ذات شكل دائري ، ويعزف الموسيقيون بواسطة إطلاق الماء الفجائي والسريع.
ومما يجدر ذكره أخيرا ، أن مثل هذه الساعات ظهرت في العالم الإسلامي منذ القرن الحادي عشر الميلادي ، بمقاييسها الاصغر من الساعات المائية أو الزئبقية ، لكن بجودتها ودقتها إذا ما قورنت بتلك التي يتضمنها كتاب "المعرفة الفلكية" ... (يمكن العودة الى كتاب الجزري ، خاصة الفصول الأربعة الأولى ! ).
4
كان الرضيع إلياس ابن الستين يوما ، يضحك في حبور وهو محمول على ذراع أمه خديجة التي كانت تسير به رفقة زوجها إبراهيم ، وهما يتوجهان معا الى إحدى المصحات الخاصة في الدار البيضاء لاجراء عملية جراحية له ثم ما أن وصلا الى المصحة حتى سلما الرضيع الى الطبيب الجراح ، الذي دخل به حالا الى قاعة العمليات ، غير أنه ما فتئ أن أعاده لهما بعد ساعة فقط ، لكن جثة هامدة ! وأفادت مصلحة التشريح لاحقا بأن جسد الرضيع لم يتحمل جرعة المخدر الذي يستعمل عادة للكبار ، فوقع ميتا حتى قبل إجراء العملية ! وهكذا ينضاف إلياس الى لائحة الأخطاء الطبية .
5
استقرتفكير الجندي المتقاعد "محمد أو زرو" ، المقيم في مدينة آزرو على تحقيق رغبته الأخيرة في الدنيا في أن يصير شاووشا وأن يعمل بمحكمة المدينة .. تحمس كثيرا لذلك وأفرد ملفات تقدم بها للجهات المعنية بكل من عمالة إفران وولاية مكناس . بل وراسل أيضا رئيسة المصالح الاجتماعية للقوات المساحة الملكية الأميرة للامريم . غير أن ملفات الرجل ضاعت بالمرة ، ولم يعرف لها طريق .
6
" إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ." (حديث شريف )، وفي النعت "استدارة" ، إشارة ضمنية إلى شكل الكون بدوره ، المكان ، المستدير أيضا ، على غرار باقي الأجرام السماوية ، وثبات ذلك عبر تاريخ الكون الى قيام الساعة .
×××
5 ، التَّلفُ الوَشيك .(الى الصديق امْحمّد مكروم الطالبي )
1
أتذكر كلاما أعتقد أنه لأنسي الحاج يقول فيه أن الفن الحقيقي هو عموما ذلك الذي يجعلنا نحس أننا نفهمه ، غير أننا نعجز عن التعبير عن هذا الفهم . إنه يبعث في أنفسنا هذه البلبلة وهو من البساطة بحيث أنه يغرينا بمحاكاته ويغمرنا بألغازه . وهو يقصد الشعر لكننا يمكن تعميم هذه الخطاطة على سائر الفنون.
هذا الى جانب رأي يرى أن الفن يكمن في التسامي بالواقع (كيف يمكن التسامي بالواقع دون تزييفه ؟) صحيح أن الفن ليس هو إعادة إنتاج الواقع. (وليس في هذا القول أي إنكار لكون أن الفن يتضمن بالضرورة موقفا منه.)
هذا فيما يخص الجمال ،
ولكن للقبح أيضا جماله الذي قد يخل بكرامة الوجود ، لكن له ، مع ذلك ، هذا الجمال الذي لايستطيع أحد أن يراه .
2
وإليك هذا العمل،
الذي بقدر مايبدو بسيطا في الظاهر ، بقدر ما هو مُحيّر في العمق ، ولا يفتأ يزج بالمتأمل فيه الذي يجده يسيرا ولكنه يزج به في دوامة الإحساس بالعجز عن إدراكه ، فكل هذه التخاييل المسرفة والمجاوزة لكل الحدود والتي يجري اختصارها الى بضعة خطوط تحاكي الواقع ، لكن أي واقع؟ هو(الرسام) لايبقينا عند الوضع الكاريكاتوري (بدون أن يعني هذا أي انتقاص من هذا الفن) ، أي أنه لايبقى فقط عند الحدود الساخرة من الواقع. إنه لايتخذ منه موقفا فوريا وهو ايضا لا يتسامى به ، كما لايعيد أيضا إنتاجه ولا يفسره أو يفسر فنه . هو يرسم وجوها غير محددة ، أي أنها غير مرتبطة بمرجع معين مهما كانت محيلة على محيط واسع وكان حضورها مزعجا ومتقحما ومعيبا ، بعيونها الجاحظة التي تتفرس بها فيك ، بمنتهى الوقاحة والدناءة والاستفزاز. وهي وجوه ليست من تطوان أو من الرباط ، كماأ نها ليست هذه المرأة بالتحديد ولاذلك الرجل ، ولكنها تحمل علامتهن فلها أجسادهن أو أجسادهم وسحناتهم ولباسهم وهي وهم حاضرات وحاضرون وإن كان حضورا في الغياب ! ثم تعود نفس الوجوه للإنبثاق في اللوحة التالية ، وهي إجمالا وجوه/ حشود من الأرامل والمهمشين والحمقى ومن أخرج منهم توا من السجون ، مع جميع أنواع البغاء والدعارة والإنحرافات ...
3
نجازف بالقول إن كان الرسام يشتغل ظاهريا على الجنس ، فهو يشتغل جوهريا على الموت المتبلور عبر أشكال واقعية تعبر بسماجة عما تحمله في نفسها من ضغط ، وهي تحمل ضغط القلق الميتافيزيقي .
وهو إذ يفعل ذلك ، فهو لا يسعى الى تسكين نظرتنا الى الموت ، كما لايقترح علينا تبريرا له ، مثلما أنه لايقترح علينا تبريرا للحياة ، مثلما أنه لا يدفعنا الى الاستنتاج باعتماده على تفسير ما ، أخلاقي او ديني أو فلسفي، ذلك أنه لايسخر فنه من أجل تمرير خطاب فلسفي . إنه يعبر ، إن أمكن القول ، عن الهلاك ( فما هو الأكثر سماجة منه؟) ، أو إن شئنا أن نكون أكثر دقة ، عن الهلاك في حضن عصر متطور، لكنه لم يحرز أدنى انتصار على الموت ، بل قصاراه أنه سمح له أن يستمر ، ولذلك استمر وقصاراه أيضا أنه تستر عليه بالطول والعرض مثلما يتستر متواطئ على مجرم ! وطرح بصدده نفس الاسئلة القديمة جدا ،التي أكل عليها الدهر ...
4
عُرْيٌ ، على خلفية محايدة ، شبه معمارية أو شبحية وحاشدة بالوجوه المُتلصّصة المُترصّدة ، بالعيون المبهورة والمستفهمة حيث المشهد يستعرض نفسه أمامها بكامل فداحته أو شناعته من غير تحفظ أو حياء . هذه الوجوه الفاجرة والفاسقة والمزرية . الشبيهة بأقنعة . بمحاجرها الفارغة وعيونها المذهولة وأفواهها الحمراء الفاغرة ، الخارجة من ماخور أو كابوس ، وهي بذلك تهمُّ بالصراخ . "شخوصك هذه لاتوجد في الجحيم ولافي الجنة ، ربما هي توجد في (هذا العالم ) ، لكن في منطقة أخرى من العالم لاتنمو فيها الحياة أصلا ، ويشتد فيها الفراغ حول الروح."، يقول أحد المشاهدين ثم يضيف:" هذه الأشباح التي تصارع من أجل احتلال واجهة القماشة فقط من أجل أن تعرض علينا شناعتها ونظرتها المأتمية والمتحدية ، هي أشباح واقعية مع ذلك ."
5
مفردات الفنان الأخرى تبدو من خلال تكرار الأيادي الطويلة والعيون الجاحظة والأفواه الصياحة والأجساد العارية ، المتورمة والمتبرمة والنهمة والتي تساورها كل الرغبات الأرضية والسافلة والسوداء والمنحطة والمتقدمة بأقدامها الحافية ، وسط مجال من البساطة البالغة الخشونة من خلال هذه النظرات السامة والعصابية ، ومن خلال أشكال متفجرة بصراخ داخلي مرسوم من منظور منحرف وعبر تقطيبات حادة ومستثارة وفي قمة وجه بلا رأس.
6
ثم لعل وعسى أن تكون هذه الذوات المغمورة فيما هو تراجيدي وكوميدي معا وأن تخلط بينهما فتناوئ قراءة اللوحات ، وتتعمد تخييب أفق انتظاراتنا ، هي ذوات منحرفة وغير متوافقة مع أقدارها ، ثم هذا الإرتباط بانطباعية أول القرن الماضي ، عبر الانتماء الى هذه السلالة من الفنانين الملاعين من أمثال : "ف. بيكون "والذي نعرفه من خلال تناوله للجسد أيضا في صيرورته . إنهما يتحدثان معا عن الموت ، لكن فيما هو يكمن عند أحدهما في ترجمة استعارات الجسد ونبضه بالحياة ، فإن الآخر يقف مطولا عند تداعياته وهشاشته حيث يتجسد من خلال نظرة متشائمة ، لكن في الحالتين يكون الجسد منفرا ودنيئا وهو الذي يحمل الموت الى الحياة .
7
ويقول مشاهد آخر :" أرى فيك الاستمرار المغربي لهذه السلالة الجسيمة من الفنانين التي تصل الى فرنسيس بيكون ، عبر المرور من جيمس أنسور وإدوار مونك وأوتوديكس وشيم سوتين وزوران موريك وألبيرتو جياكوميتي .."
ولقد ما ت الرسام بأزمة قلبية مثله مثل بيكون ، وماتا معا في مدريد ، حيث سافر الأخير مثلما سافر الأول لكي يزور أصدقاء له .
8
نعود مرة أخرى الى هؤلاء الرجال والنساء الذين يملأهم الشك ويعذبهم الإحساس بالذنب ويحسون بالجوع وتساورهم الرغبات المحرمة من قبل كل الثقافات . وهم أشخاص واقعيون وغير واقعيين لكنهم مألوفون وحاضرون حضورا يدعو للدهشة ... وهم أرامل ويتامى ومهمشون ، ولكنهم وديون الى أقصى الحدود ومعزولون حتى الثمالة ، لهذا يقضون أعمارهم بين منعطفات الواقع في البحث عن بعضهم البعض .
9
الإبصار هو السلوك البشري الوحيد الواقف في وجه مجتمع يمنع من الرؤية . الإبصار باعتباره استهلاكا كاملا للحسي ومعانقة للواقع.
10
العيون المترصدة من الخلف . بلا جباه ولارؤوس ، وهي مستغرقة تفرسا في المشهد الفاضح أمامها . النساء في البورديل ، وقد تجردن من ثيابهن ، ثم الوجوه التي تتحدث الي بعضها ، فتقول فحشا وتنظر شزرا ، فضلا عن الأيادي المتلمسة المتسترة والتي تشبه أوراق النخيل.
11
يرفض الرسام التجريد ، وهو يركز كثيرا على الوضيع، حيث العري أخلاقي وواقعي وليس مدرسيا .
×××
6 ، قرطاجنة
1
كل التواريخ التي توارت ونسيتها السنوات ،عادت تطل من أنقاض ماض كان قد انهار كحائط هدمته مئات الجرافات .
كل المصابيح التي انطفأت يوما بعد أن أضاءت الطريق،
وكل الوجوه التي غابت في زوايا العمر عادت بنضارتها الواسعة وإشراقها العالي ، كأنها كانت ، فقط ، تأخذ كامل أهبتها هناك.
2
المكان المكتظ والذي يبقى مسكنا للجماعة ولا يبدي استجابة لرغبات الفرد الذي يجد فيه نفسه منبوذا، يعامله المكان بطائفة من الأفكار والأحاسيس الجاهزة ومن المشاعر والانفعالات المسبقة ومن الأحكام والإجماعات ...
المكان الحاشد والمغلق الذي لا يصير مفتوحا أو مرئيا إلا بعد أن يتهدم ، والذي من فرط قيامه كأنه لم يكن أبدا حتى متواريا .
أحيانا يصعب أن تفهم هذه الرغبة الجامحة في الإغلاق وإقفال النوافذ وإسدال الستائر ثم رفع شعارات "الشفافية" و"الانفتاح" في الحملات الانتخابية إلا بانعدام المعنى . المكان المسور والمتواري قصدا يبقى مكانا مثيرا للظنون كأنه يخفي الجريمة وأدواتها ويتستر على المجرمين .
الأماكن المغلقة، متكتمة وزجرية ، يدور فيها كل شيء في الخفاء وفي السر ، ولا ترحب بكل من تتوجه إليهم وتعدهم بل تنكرهم . يدور فيها كل شيء في الخفاء والعتمة ، وهي عديمة الجمال وعبوسة .
يبتدع المكان المغلق إنسانا ضئيلا وبلا رأس مبتور الرؤية ويفتقر إلى الرؤيا وهو ضد المحاسبة ويتوجس من الآخر يعتبره مندسا يراقبه ويتلصص عليه.
ما يدور في قلب الهندسة الكتيمة وإنسانها المتكتم من أخبار هي كلها أمور تدعو للشك وتجعلك تقضي عمرك في تبريء نفسك من كونك قد رأيت .
×××
7 ، أنقاض
1
لامفر من العودة إلى خوض هذه الأنقاض الذي تستدرجك الى التوغل في المزيد من الليل ، الذي تحاول أن تتصدى له ثلة من أعمدة النور لكنها ما تفتأ أن ترتد على أعقابها مندحرة ، ويقطعه قطاع طرق بيسر . لا مفر من العودة لارتقاء هذه المناطق الجبلية المأهولة بكائناتها المتعجلة والوفيرة والتي تمشي بضراوة واستنفار. تخرج مسرعة ثم تدخل في كل الاتجاهات معترضة ومعثرة ومزاحمة ، وهي تقيم في هذه الأراضي الوعرة والمكدسة والمتراكمة مثل الأنقاض والشاهقة والتي لاسبيل الى الارتقاء إليها والتي هي بلا علامات ولا إشارات مرور ولا أرصفة والتي تهطل فيها الأمطار في كل الفصول والمشفوعة بمخلوقاتها الكاملة والتي يجمعها فيما بينها كل أواصر المودة والانسجام – كأنها مخلوقات غير بشرية – والحليقة كلها على طريقة جنود المارينز والتي تتحدث بالجهر وتقول "الكلايم"، والتي تجد حاجتها ميسورة وفي المتناول فتسبق الى قضائها ، وهي الموجودة بمنتهى الغزارة والاكتظاظ .
2
العبث الفاسد هو ، اختصارا ، حالة تشبه العبث الحقيقي ، غير أنها تظل ناقصة ، ليست عبثية ولا جدية ، فقد أفرز العبث في العالمين المسيحي والعربي الإسلامي تيارات أدبية وفكرية وفنية ، على العكس من هذا العبث الرخيص والمجاني الذي قد يذكرك بالعبث، ولكنه ليس عبثا ولا عدما بالتالي ، لأن العدم هو تصور يقول أنه ليس ثمة شيء ، في حين أن هذا العبث يقول بأن كل الأشياء موجودة ، وهي كاملة الحضور ويجري بها الموضوع كله ولا يمكمن للصمت أن يلغيها ، بل يؤكدها .
إنه يشبه العدمية ، من حيث لا يمكن لهذه أن تكون مذهبا ، هي مجرد موقف ، حساسية تقول : ليس ثمة شيء . كما لو أن الإنسان يعيش حلما مستيقظا لايدفعه الى الاعتراف بحقيقة تجربته، لأنها لا تلاقي عنده قدرا كافيا من الإيمان أو من الجدارة ، ما يكفي لكي يجعله يحس بكونه معنيا .
هذه العدمية ، غير الرسمية وغير الموعى بها لأناس يعتبرون أنفسهم في غاية الإيمان ( إيمان بلا تضحية ولا تفان ولا صدق ) . وفي غاية الروحية ، رغم تهافتهم على الأستهلاك .
تحولت العدمية في الغرب الى آلة وغدت هذه تقنية وما فتئت أن ملأت الواقع بمعادنها ( مهما كانت التقنية في أساسها عبارة عن مادة ، وكل مادة مصيرها التحول والانحلال ويصيبها – شأنها شأن أي مادة - الصدأ والفساد، لأنها تنطوي على صيرورة مهما اختزلت دور الفكر في ابتكار الرمز الذي يحيل عليها هي وحدها وحولت الإنسان الى إجراء . غير أنها تجسدت . لكن الأمر المربك هنا هو أن تكون معاناة الإنسان مبرحة ، لكنها بلا جدوى ، لدرجة أن تجارب الإنسان تظل كلها قابلة للسطو أو –على الأقل، للتقليد، وتجري –بمنتهى السوء – على ضوئها الأحداث الجسام ، بما يدفع الى اعتبارها أوهاما وبلا مبرر ، قد تكون أوهاما ولكنها موظفة ولها نسخها الكثيرة وجمهورها الغزير الغار ق في تدبير عالمه المربع والجاهز والعقيم والخشبي والذي تجد نفسك فيه مقحما ومغفلا وزائدا ...
أنتج العبث في فرنسا "الغثيان "ومسرح العبث ، ... تأمل الشاعر الا إنسان العبثي فوصفه بالإنسان المتفرج ، الذي لا يعنيه ما يجري-أوهو الذي لايجد فيه نفسه – ومن ثم فهو لايمكن أن يبالي به وقلبه عبارة عن "محطة خاوية " ينتظر فيها المسافر ، بلا طائل ، حلول القطار الذي له "أجنحة من غاز "(بودلير).
مالارمي وتشوفه للعدم المطلق وإلى صفاء التجريد الرياضي . ب. فاليري ومحاولة الوصول إلى الوجود البسيط واللازمني . أ. رامبو ومحاولته هو الآخر اكتشاف العدم قبل أن تهيمن ضرورة الوجود . السورياليون وتمجيدهم لحالات اللاشعور . الدادائيون واعتبارهم لأنفسهم "لاشيء" وإلى كونهم على يقين انهم لن يتوصلوا إلى شيء . والأعراض هي بالتأكيد قديمة تبدأ، غربا، من لحظة كلبيي الإغريق ولاتنتهي عند الفردانية الحديثة . أما شرقا ، فيمكن العثور على جذورها في البوذية ( ! ) "كنيسة العدمية " و "الماكنة التي تُموّن الروح بالفراغ".(إ. رينان) والتي " تجد فيها عدمية شوبنهاور أصولها ." روسيا تورغنييف مرورا ببرازوف وتشيرنيتشيفسكي ودوستوييفسكي ...من فاغنر وهايدغر ( في ألمانيا) ، مرورا ببودلير وسيلين وساد وسيوران وغاري وروتري ( في فرنسا)...
وهكذا كان لمثل هذه "العدمية" أعلام أمكنهم أن يستخلصوا منها دلالات وأشكالا وأفكارا في كامل الغنى ، لكن بالمقابل ما الذي عساك تستخلصه من هذه الأمثلة :
30 ألف (بحسب إحصاء رسمي ، 80 ألف بحسب إحصاء آخر) من "الموظفين الأشباح " ( أي من الذين يتقاضون أكثر من أجر ولايؤدون أعمالا عن الأجور التي يتقاضونها . )
ضرائب للنظافة في واقع يزكم الأنوف والعيون والقلوب بالنتانة . وإنسان يمسك بعضوه ويبصق ، ...
تعذيب مواطنين في مخافر الشرطة ، على نحو غاية في الجهالة والهمجية ، على نحو يؤدي الى الموت المحقق ( تعترف الدولة أن هذه السلوكات كانت سائدة ، ولكن في العهود البائدة وفي سنوات الرصاص .) ...
كما يتجلى في الإيمان السلبي بحيث إذا لم تكن ثمة جنة أو نار فمن سوف يومن ؟ وحتى إن كان لابأس من ذلك فإنه إيمان بلا تضحية ولا يتعامل مع الواقع . كما يتجلى في الأعراس التي تقر بأننا لا نعيش فقرا ولا بطالة ولاجريمة ولا رشوة ولا دعارة ولاطلاقا ...
×××
8 ، المكان الأبيض والأعلى
1
خارج البناية لايبدو النهار مشرقا فقط ، بل جديدا : كما لو أن الأيام أحاطته ، منذ البداية ، بمنتهى العناية ، وصانته في صدرها وخبأته في عيونها ، فبقي مغسولا ومعطرا ومحشوا في أغلفة من حرير ومن سيلوفان ، بشمسه الزاهية وسمائه الزرقاء ، اللازوردية ، وكائناته المدهشة والأخاذة . من فرط صفائه تبدو الأمور على ضوئه وقد صارت أكثر وضوحا وأشد وضاءة ، حتى لا تصدق أنها نفس الأمور التي كانت عويصة من قبل ، عويصة ومتحجرة ومتعذرة على الحل .
2
ما همّ ، ولاداعي : لأنهم حتى حينما يعترفون بالإقصاء فإنهم يعترفون به لمن هم في موقع الحماية ، ولمن كان على الدوام متسابقا ومتسلقا وانتهازيا ويوثر نفسه من غير أن تكون به خصاصة ويركب على القضايا المظلومة فيجد المناصرين .
3
هنا لايتحول الإنسان إلى صرصار بقدر ما يبقى منذ البداية وثيقة ، يتعين عليه أن يصادق عليها وأن يلصق عليها الطابع المخزني ، حيث يتعذر قبولها في كل المصالح الأخرى، الأكثر حيوية ، من غير ذلك ، لأن المهمة الجوهرية الموكولة إليها هي التعسير ، حيث لا تكفي البطائق الوطنية ولا كنانيش الحالة المدنية ولا أوراق الهوية ، والحال أن الوثائق المزورة هي كلها وثائق مصادق عليها أيضا . كأنك لاتغدو مقبولا إلا حين تغدو مصادقا عليك ، وبلا شبهة وغير "مؤذ"وبلا قيمة ولا تستحق إلا رميا في مكاتب تمتلئ بالوثائق والغبار .
4
المكان أبيض وأعلى ، بزجاجه المشرف على المشاهد الرحبة والصقيلة . يتحدث أهله في الداخل بخفوت لغة بهيجة ومرحبة . خلال الأيام الأخيرة بدا من خلال عكوفهم على الطاولة الأولى ، أنها صارت محجوزة ، غير أنهم تحولوا عنها بمن فيهم المرأة ذات السعال ، حيث بدا أنها لا تحب استلفات النظر أوإثارة الإنتباه . لكنهم ما أن تحولوا عنها حتى استولت عليها التلميذات ، اللائي يجئن جماعات ويجلسن جماعات ثم يشرعن في الكلام .
5
تبدوابتسامات الزبناء في المرايا مقلوبة ، تشبه الإمتعاضات . فيما تتحول كلماتهم الى سحاب يتبدد أمام أعينهم قبل أن يصل إلى مسامع من يجالسهم فيتبرم هؤلاء منهم .
6
مدهش أو مستغرب مجيئنا جميعا الى هنا ، مبكرين، ثم لزومنا الصمت والهدوء طوال الوقت ، فمجرد كلمة ننبس بها كفيلة أن تجعل حضورنا لاغيا ، إذ أنه "من لغى فلا جمعة له" ، أي لاحضور له . حتى إذا نزل الليل وأطفأ المكان أنواره ، بات يتعين علينا أن ننهض وننصرف ، بذات الهدوء ، وهو أمر لم نجده مستساغا ، فهل نحن جئنا لكي نذهب ؟ ثم إلى أين يمكن أن نذهب؟ وقبل ذلك هل كنا نرغب في المجيء إن قيل لنا منذ البداية أنكم ستعودون في النهاية ، فأية "شفافية "هذه، بل وأي عدل؟ والغريب أن أغلبنا ظل طيلة الوقت الذي جاء فيه يملأ أدوارا صممها له الآخرون ، ولما فطن لها وأعلن رفضه ، عوقب ، وتحمل النتيجة، فلماذا يعاقب ؟
7
في المرآة المقابلة للباب رأى الرجل مقبلا ، فانتظره بلوعة ، لكنه لم يدخل فتبين له أنه كان مدبرا وأن المرآة ضللته ، لولا أن الرجل دخل فجأة ، وحينئذ تحول الى شخص آخر لايعرفه وقال للنادل أنه رآه في السجن الذي قضى فيه 14 سنة ، وأنه لم ير أولاده طوال هذه المدة وأنه يتعين عليه أن يساعده.
×××
9 ، الخامسة مساء
1
كل يوم وحوالي الخامسة مساء ، يعود شمل الشلة لكي يلتئم ، كأن الإفتراق لم يكن حتى مؤقتا بل إنه لم يحدث وتعتبر ذلك يتضمن رسالة تريد أن تقرأها على مسامع الدهر . والواقع أن جلسة الصباح تكون أكثر قربا وحميمية ودفئا ، ويكون بالإمكان أن يحضر من تدعوه "المليجي" متبوعا بألقاب كثيرة ثم في الأخير يلتحق المحامي عائدا في سيارته الفارهة .
ذات ليلة وقد جرت الآن مياه كثيرة تحت جسور شتى تحلقنا جميعا على التلفزيون الذي كان يبث الجلسة الأولى من جلسات الاستماع الى ضحايا سنوات الرصاص . كانت جلسة مشهودة راعنا أن يصير الشارع أمام المقهى الذي يكون ممتلئا على الدوام بسيول من السيارات والحافلات والدراجات والمارة ..، مقفرا . وبقدر ماكنا مذهولين بالاعترافات المفجعة والمهولة والمباشرة بقدر ما صعقنا ولم نصدق ما حدث ، إذ حينما دخل المحامي ، السمين والضئيل ، لم نشعر به إلا حينما كرر أمره، متوجها الى النادل أن يضغط على جهاز التحكم عن بعد لكي بحول الى قناة أخرى تبث مباراة في كرة القدم .
وحين لاحظ علامات الاستهجان باديةعلى وجوهنا من طلبه غير المتوقع أن يصدر من محام ، خاطب النادل ، الذي تردد ، قائلا بأنه من السخف أن ننصت هكذا الى أحاديث عن التعذيب ! فامتثل النادل ، محولا القناة ، مما جعلنا نحس بالمهانة والذنب على كوننا خذلنا وأخذنا على حين غرة واعتدي علينا ولم نعرف كيف نرد ..قلنا إنه كان يتعين علينا أن نرد على أية حال وأن لا نبقى مذهولين ولائذين بالصمت "كما لو أن الطير تأكل على رؤوسنا".
وفي يوم آخر جاء صديقهم (...) ، مبكرا ، ثم التحق به عميد الشرطة ، فمدرس الاجتماعيات ، وبعده تتابعوا جميعا . في النهاية لاحظواأن صاحب النظارات السوداء الذي يدعونه "الغيسطابو"تأخر ، كما تأخر مفتش الشرطة الذي سيأتي في بالضرورة على متن سيارته المارسيديس 240 ( الملاحظ أيضا أن كل مفتشي الشرطة يملكون سيارات مارسيديس 240 ويقيمون في شقق فاخرة ويدخنون المارلبورو ويتقاضون 5000 د. في الشهر ، وبحسبهم فإن الناس لا يعرفون المعنى الحقيقي للرشوة ولذلك تراهم يطلقون الكلام على عواهنه وينظرون الى رغبة الآخرين في أن يعيشوا في المستوى اللائق ، على كونه رغبة في الارتشاء !؟ فلا يتساءلون عن الذنب الذي اقترفناه ..ومما يثير الاستغراب هو مدى إصرار المفتش على تأدية الصلوات في مواعيدها تماما . أما ما تبقى فهو لا ينصت ، بل يقاطع ويفرض رأيه وحين يتكلم يرفع صوته – كأنه يتحدث دائما في هاتف نقال – ويلفت الأنظار وينفعل بسهولة ثم يتلفظ بأكثر الكلمات بذاءة ويلعن الدين (على الرغم من كونه يصلي ) ويحملق في وجوه الجميع ، بجلافة وتحد، ولشد ما تعجبه مباريات كرة القدم ، حيث يعرف أسماء اللاعبين ويعرف أعمارهم وعدد الجوائز التي أحرزوا عليها ، كما يعرف طرقهم في اللعب ومواطن قوتهم ... ويعتبر أن ذلك هو المعيار الذي يعرف من خلاله معدن الناس وشعبيتهم .
2
عادت الشمس تطل من النافذة بمجرد ما انتهى ذلك الهدم المهدد والمرفوق بتلك الشراسة التي ارتفعت طيلة الشهور السابقة ، موصولا بكل تلك النداءات وعبارات المزاح ، التي غالبا ما كانت تتحول الى شتائم ، تتمدد وتنتشر وتتكرر على نحو لا يجعل النصراني المسؤول صاحب الوزرة البيضاء وحده يموت من الغيظ ، بل يجعلنا نحن أبناء البلد ، نتمنى أن تنفتح الأرض ونغبر فيها .
هذا وقد كان الرجل قد اتصل بكل الجهات المسؤولة وقال لهم أنه يفهم أن يكون الضجيج في مكان آخر ، والامكنة الاخرى كثيرة ، أقصد الأمكنة العقارية ، لكن ليس بجوار مكتبة المفروض أن يحيط بها الصمت . فابتسموا له كلهم وقالوا له بأدب أن الرجل صاحب البناءله تصريح قانوني ! فسألهم محتدا فيما إذا كان له تصريح أخلاقي ؟ ! فعادوا يبتسمون له في بلاهة . كنا نسمع صوت "الجرارة " طوال النهار وهي تجر على قدم وساق ، فضلا عن آلات الكهرباء المختلفة الأنواع والأشكال : آلات تقطيع وتثقيب وحمل وتطويح وتفجير ... وما تحدثه من أصوات فظيعة . كما كنا نرى البنائين بثيابهم الممزقة والمتسخة ووجوههم الملوحة وعلى رؤوسهم م الكاسكيطات التي جعلتها الشمس ناصلة . مثلما كنا نسمع النداءات وكلمات التهكم والمزاح.
ثم بعد مدة طويلة توارى الضجيج، و عادت الشمس .
3
الجحود من الجنسين معا ومن الفئتين المتعلمة والأمية ، والذي لا يعدم فوق ذلك من مناصرين ومن ثقافة شعاراتية وهتافية والذي لايكتفي باستخدام حقك من أجل الدوس عليه أو من استخدام مجهودك لكي يصل هو ، كأنه الأجدى والأحق ، بل من استخدامك ومن الركوب عليك ...
×××
10 ، العنكبوت الطائر
1
...واللغة بكلماتها (النسور والحمائم) ومن حيث كونها مسكن هذا الوجود غير اللائق وعصاه التي يتوكأ عليها أحيانا وله فيها ربما مآرب أخرى ، منها أن تكون مقتنعا من أنها لغتك ، تعبر عن وجودك وعن تصورك للعالم (وعلى ذكر العالم فكم هي شبيهة به وشيء من أشيائه السابقة عليك في الوجود وأنت تكتسبها من الجماعة .) ومثلما هي جزء منك ، هي –بالمقابل – جزء غريب عنك . يقول ج. ديريدا :"ليس لي إلا لغة واحدة، ولكنها ليست لغتي ." نعم ، وعلى غرار ذلك يمكن القول " ليس لي إلا عالم واحد لكنه ليس عالمي "(وما يغيظ أني لم أطالب بالمجيء إليه . والواقع أن لاأحد طالب بشيء، ثم حين جيء بهم ، جيء بهم إلى مكان كان حريا أن يكون هوالمكان المضبوط ، إذ في عدم إمكان أن يكون هو الجنة ، فقد كان مفروضا على الأقل أن يكون فيه كل شيء موفورا .)
2
...ولكن باعتبار الأمر يشكل حاجة ، فحاجة الجميع الى لغة تعبر بالفعل عن تجاربهم ، التي يتصورونها فريدة ، وغير مسبوقة وأن تعمل على تنوير ما بقي مظلما ومتداعيا ومكسورا ويشبه الهاوية ... في سعيهم لإدراك الأجرف حيث تقف الحياة بمصابيحها وضوئها الملتبس ، اضطرام لا يقل ضراوة .
3
لامنجاة لك من العَيّ ، إلا حيث أفيون الكلام الكفيل وحده بتحويل الصمت من " عقبة الى رافعة ومن سبب وجيه للموت الى سبب أكثر وجاهة للحياة ."
4
نزل الليل كثيفا وعلى حين غرة ، مرفوقا بحشد من الطائرات برنينها المفجر للسماء والذي لا يدع مجالا للشك من أنها تحط قريبة ، في الخلف ، حيث ساحة المدرسة ، أو على السطح المجاور لها .. والناس في الطريق ، قليلي العدد والعتاد ، ما تبقى منهم ، يقبلون وقد لزموا الصمت ، حين تختلس النظر اليهم تجدهم بلا أفواه ، هم فقط ينظرون، بأسى وبعدم تصديق .
5
كل لغة تحمل في أعماقها هذا القسط الذي يفلت منا ، وهو قسط غريب عن اللغة ذاتها والتي نتماهى فيها مع قومنا ، وهو قسط يجعلنا كلنا متشابهين ، ولكنه أيضا يكشف عن البعد الحقيقي فينا . وهكذا فإن ما هو غريب عن الآخرين في لغتي ، هو القسط الأكثر أصالة فينا .
كل لغة حقيقية ، وعلى غرارها كل عالم حقيقي وليس مفترضا أو مفروضا ومعه كل حياة حقيقية وليست مبتسرة أو مسيخة وتزج بك حيث الصخب والتشدق والسفاهة وصدق من قال :"أبغضكم إلي الثرثارون المُتَفيْقهون ." (حديث شريف)
6
هناك حسب الدارسين العي الإسمي ، والمصاب به يفهم ما يقوله مخاطبه ، غير أته هو حينما يريد أن يقول شيئا فإنه يستخدم الكلمات على نحو مغلوط ، فضلا عن أنه ما أن يشرع في الكلام حتى لايتوقف إلا بانسحاب مخاطبيه كلهم والمنصتين إليه من بين يديه .ثم العَيُّ التركيبي والمصاب به يفهم ما يقال له ، لكنه حين يجيب يركب الجمل على نحو خاطئ علميا وجماليا . ثم العي الإجمالي المتمثل في إصابة لغة المريض بأسرها . وعي بروك (نسبة الى الفرنسي ب. بروك) وهو اضطراب جسيم للغة المصاب الذي يتكلم بخفوت واقتضاب حيث تصير للحيوط آذان بالقسر . وعي فيرونيك (نسبة الى الألماني كارل فيرونيك) يتصور المصاب به أنه يفهم مخاطبيه وينال استحسانهم ورضاهم ، في حين أنه لايمكن أن يفهمهم ولايعرف أن يتعامل مع مشاعرهم ، كما يرهقهم بالاسئلة السخيفة والاصغر منه سنا وهو لايعرف الشك ولا النقد .
7
صباحا يحدث أن تحس كما لو أنها صارت أشبه بحصى على على ضفاف ساحل ، وهي حينما تمعن النظر تجد أنها عاشت ما يكفي ، أخذت وطرها من الحياة بالكامل ، لكنها ما أن يحل المساء ، حتى تتدهور فجأة ، تصير سريعة الانفعال والانزعاج ، وبعدم ارتياح كبير ، وغالبا ما ثزداد غرقا في عمرها ، فتلاحظ كم كان غير كاف !والواقع أنها لا تعرف كم يبلغ سنها ،وحتى التقديرات المثبتة في وثائقها الإدارية هي شديدة التضارب ، إن لم تقل بأنها متناقضة وحافلة بالاخطاء . لكنها لا تحتاج الى تفكير كثير لكي تشعر أن أيامها المتبقية لا يمكن أن تتساوى مع أيامها المنقضية ، ولا تعرف لماذا انقضت ، وعموما هي تبالغ حين تقول "تتساوى " ، ولكن مثلما لا تريدها أن تتساوى فهي لاتريدها ناقصة أيضا ، وهي –فضلا عن ذلك- لاتسلم بأن العالم يمكن أن يستمر بعد موتها ، حتى إن هي عرفت بأنها ستموت لامحالة وأنه سيستمر بالفعل وأن ما سيحدث هو أكبر مما حدث في السابق ، لكن بقدر ما تجد نفسها "معفاة"من تحمل تبعة ما سوف يحدث ، بقدر ماتجد نفسها مورطة في تحملها ، غير أنها في الأول والأخير لم تطالب بالمجيء ، غير أنها جاءت ، فكما لو كان ثمة قصد ! وهذه الصيغة مهما كانت سوقية أو ركيكة غير أنها جاءت وقضي الأمر . ولكنها ، وقد جاءت كم تجد ه أمرا مستهجنا أن يحال بينها وبين الحياة التي كثيرا ما تبدو في الظاهر متماسكة وأكثر صلابة من أسوار تحيط جسرا غير أنها في العمق كم هي هشة وتظل فقط تمر ( ويتحتم عليك أن تأخذ كامل أهبتك للمرور أيضا فلماذا؟) إن لم تنكرك صراحة ، أنكرتك ضمنا .
أحيانا تجد نفسها تتذكر الحالات التي أنقذت فيها من موت محقق ، حينئذ تعترف لنفسها مثلما تعترف لآخرين انها بالفعل " أنقذت"، لكن مع مضي الوقت تحس بالفتور كما تحس بأن ذلك لايكفي ..، ثم كثيرا ما تجد نفسها تتحسس جذعها فتجد كم كان أمرا بلا جدوى أن تعيش طوال الوقت بجذع او بأقدام حتى ..، وأن تصير اليوم كسيحة؟ وعلى العموم، فما معنى أن تعيش بجسد سوى أن يفنى أو أن يحول دون أن تصير طائرا مثلما كانت دائما تريد ؟
ولقد علمتها البلايا ( إن كانت البلايا تعلم شيئا حقا ، فقد جعلتها أكثر إحساسا بالألم وأرهفت من شعورها وصار العالم أكثر إزعاجا مما كان )، أن النجاح والثراء لا يحميان من الشقاء . ثم لسبب آخر ، حين تتذكر طفولتها ترى نفسها تركض ، والمطر خلفها ، كل المطر الذي تريده أن لا يدركها ، ثم يغيم باقي السماء وتحس هي بالعياء فلا تعود تقوى على الركض أو على الانتباه خشية أن تنزلق أو تتعثر . وحينما تصل الى منزلهم تحس بالبرد ثم بعد لحظة يخطر لها أنها في سبيل التحول ليس الى طائر بل الى عنكبوت .
×××
11 ، إهدارات
1
سكان الإقامة الاولون لم يجيئوا إليها من المغيب الأقصى أو من اليمن أومن الشام ، عبر الحبشة ومصر .
2
مهما كان الإنسان في وضع قانوني فليس بإمكانه أن يثبت أنه مهاجر كما ليس بإمكانه أن يزعم بأنه مقيم ، ناهيك عن تأكيد شرعية إقامته أو هجرته نافيا اعتبارها سرية . ثم سعى ، في أفق مقاومة مخططات التذويب والقولبة والانغلاق ، الى تسوية وضعيته، مما يجعل الحديث عن منفى حديثا غير ممكن وبلا موضوع .لأن من لاوطن له لامنفى له.
3
ما لم يكن أبدا مؤكدا أو بالاحرى ما لم يكن متوقعا أو محل تخمين أو فراسة حدث بحذافيره ، وسط القرية تماما وأمام جميع سكانها وسيحدث دائما ، وفي كل لحظة ، رغم ، أو بواسطة إخلاله بالمقاييس القديمة .
4
يسأل أهل القرية بعضهم في هواتفهم النقالة "أين أنت؟" ، وبعد أن يصف الشخص الذي تتوجه اليه المكالمة معالم المكان الذي يعتقد أنه يوجد فيه، يسأل بدوره الشخص المتصل به : ترى أين يوجد هو ؟ كأنه يحس أن القرية الصغيرة التي يعرفها شبرا شبرا غدت فجأة بلا حدود وكالمتاهة ، أو أن شكا غريبا يلاحقه ، أو هو يلاحقهما معا ، فكأنهما صارا في لا مكان ، لأن ما يحيط بهما متعذر وصفه ، فهو مجرد تجريدات .
أما إن هما فكرا في تحديد الزمن فلا ساعة عندهما معا إنهما يفترضان أنها الساعة الرابعة، ولكن أي رابعة؟ كأنها مستمرة من أمس وبلاانقطاع ،في أية ساعة من النهار أو من الليل ، صيفا وشتاء ، من الميلاد الى الموت . ومع أنها ساعة متصلة فهي أيضا منفصلة ، كأننا في حاضر مؤبد – فهو وحده غير مفصول ، إنه زمن عمودي وليس أفقيا ولا يحيط به شيء إلا الغياب .
فيما يخص المكان –مرة أخرى- إنه ليس المكان الخاطئ أو هو اللامكان بل هو المكان المعروف لكليهما ، إنه المكان نفسه ، لكنه فقط ليس هو المكان المنشود ، نعم ليس هو المكان المنشود ، فخطوط الطول والعرض هي نفسها ، وحتى التوقيت "مضبوط " ، والعملة سليمة ، نعم ، لكن ما تنقصه هي جاذبية المكان المقصود وألفته.
5
من جهة أخرى فلا يتم الحصول على صفة لاجيء إلا بعد التحقق من ظروف المغادرة ، غير أن المغادرة إن هي حصلت تكون مثل الهروب أو الطرد ، فهي تحصل نتيجة تكسير كل شيء ، أي أنها تحصل نتيجة الاستحالة على البقاء مطلق السراح .
6
الإقامة ركن أساسي من أركان الوجود هي التي أتاحت للإنسان ان يستمر لو لم يكتشف الإنسان الحجري الكهف لما كان بإمكان الإنسان القروسطي أن يكتشف الديانات السماوية .
7
مهما امتلأ رأس المقيم بالمعتقدات ، فإن الاستمرار في الإقامة لا يجعل من القرية وطنا .
8
عاد سطح الإقامة ، تماما مثلما عادت نوافذها لكي تقع خلف الشارع والرصيف والمتجر ، كأنها فعلت ذلك خفية ، وقبل الصباح ، تخلصا من نير يستبد بأساسات المكان، فبدت النوافذ مكسورة أو منبعجة والأبواب مفتوحة والأدراج مندلقة . إعرابا عن مدى التدمير الذي جرى بداخلها . وحينما التحق بها السطح ، صعد بسرعة لكي يستغيث.
9
ولع أهل القرية بالسرعة المفرطة لايدانيه ولع آخر ، كأنه نكاية في قرب الجهات أو في دنُوّ البضاعة حيث تحولت القرية الى سوق وسكانها الى مشترين والسرعة ليست تسريعا للزمن البطيء أصلا ، ولا دفاعا عن البضاعة ولااعتراضا على العطلة ، بقدر ما هي "تحريض" للزمن لكي يزداد بطئا وإخلالا بالمواعيد .
×××
12 ، الممر
1
كما لو أن الوصول فقط الى نهاية الممر وإدراك المنفذ القريب لكن الملتف والمتشابك والمتداعي ، بطولة حقيقية ونصر ، بحيث لايخطر لمن تمكن من الوصول سالما فوق الانقاض والكسور والبقايا ، أن يتكرر الأمر نفسه بكل تفاصيله الفادحة والمليئة بالتوقع السيء من البداية وفي صباح اليوم التالي ، كما لو أن عناء أمس لم يكن محسوبا ولم يؤد المأمول منه ولاالرجاء المعقود عليه . بل إن القائم به لايمر ، فهو ما أن يتصور أنه اقترب من المنفذ حتى يعترضه جبل يتعين عليه حياله إما النكوص ، حيث الهزيمة على أشدها ، أو الصعود ، لكن عبر الإمساك بالأحجار وتخطي الأشواك والزحف على أربع ، مع الإحتراس من الانزلاق الى أسفل حيث الأيام البيضاء تنبث في السفح كالفطر .
2
ثم لاخيار لمن مر سوى الالتحاق ، لكن لاسبيل للالتحاق إلا بالركض ، ليس لاستدراك تأخر عن ركب يبقى استدراكه ممكنا أو مستحيلا بل الركض فقط ربما خلف الحياة بحيث لايعفى الحي من الركض ، حتى وإن كان بلا أقدام ، ولا من تأدية مصاريف البضاعة – غير المطلوبة أصلا ،
3
في حديقة إسماعيل ، وأصحابه من الحراس الآخرين ، نحس حينما نأتي بأننا لانبقى نحن أنفسنا ، كل شخص منا يصير أفضل حالا مما كان عليه قبل أن يأتي أو بعد أن يذهب ، ثم يتغيب لأيام . لكن هذه المرة ، حدث العكس تماما ، خذلنا ، وتعذر علينا أن نعرف الأسباب ، غير أننا تصورنا أننا لكي نصير كذلك ، أي لكي نصير آخرين ، فيلزمنا أن نعمل وكما لو أننا تحولنا الى آخرين بالفعل ، لا ندري تحديدا ماذا ، لكن بعد أن يعترينا وجوم ويساورنا انشداه ، حين ننتبه للأمر ، نجد أنفسنا نحدق في الأدراج فنكاد أن نعتقد أننا جئنا اليوم خطأ ، غير أنه مع افتراض ذلك صحيحا فإنه ليس سببا كافيا يدعونا للمغادرة إما على الفور أو بعد قليل ، مثلما أنه أيضا ليس مبررا يدعونا للبقاء . لكن بما أننا جئنا جميعا وفي وقت واحد – مع أن ذلك لم يحصل من قبل ، فقد جئنا وقضي الأمر .
4
في المقعد الموالي جلس ثلاثة أفراد وارتفع الصمت فوقهم حتى صار مثل الأشجار المشدودة الى الأرض بحبال وسط العشب أمامهم . بعد حين اكتشف أحدهم أنهم ظلوا صامتين طوال عمرهم ، حتى لتكاد تحسبهم أنهم ليسوا هم أنفسهم ، فكما لو أنهم ظلوا يحملون أشخاصا آخرين ، أحيانا يجد الواحد منهم نفسه في سبيله الى التسليم أن يكون ذلك شكلا من الابتلاء فيتساءل : لماذا ؟ فكأنه ارتكب – أو أن أجداده ارتكبوا من المعاصي ما يتعذر غفرانه . وهم في النهاية لايعرفون فيما إذا كانوا سيظلون كذلك ، وإلى متى ؟
منهم الموظف وعامل البناء والبقال.
يرى الموظف أن الوقت أخذ يمر في المكتب وهو يمر ليس برتابة ، بل إنه لايمر ، إنه يتوقف بمجرد ما نجلس على كراسينا وتبدأ الملفات تحديقها فينا ، ثم ينطلق بمجرد ماننصرف : ثماني ساعات وهي تمسك في تلابيب خمسة أيام ، تليها ثماني ساعات أخرى ثم يتكررنفس الامر خلال الايام التالية لا ندرك أنها صارت كثيرة وأنها تراكمت أو تكدست ولم يعد هناك سبيل لترتيبها أو للتحكم فيها ترغمنا الحياة على الوقوف والتأمل ، فنحس أننا بددنا أعمارنا بين الكراسي والطاولات ، تصورنا أن يكون التحاقنا مجرد مرور لن يتجاوز الأسبوع او الشهر فإذا بنا نقضي العمر الذي تخللته يوما تعليقات رئيس المصلحة التي كانت على الرغم من اقتضابها مثل سكاكين صدئة . اما باقي الزملاء فلا يخلو سلوك بعضهم من مكر طفولي ومن مكائد صبيانية .
أما عامل البناء ، فهو يحس بالكرسي تحته لا يزال ساخنا ، رغم وجوده في الظل ، ووجودهم جالسين جميعا ما يزيد على الساعة . يتساءل هو بصوت مكتوم : لماذا هم لا ينصرفون؟ فبعد قضائهم كل هذا الوقت في الحديقة هو لايعرف لماذا هم لاينصرفون ، بل هو لايعرف لماذا جاؤوا اصلا؟ يعتقد كل من يراهم أنهم في سبيلهم لبعث خصومة .
حين يعيد الرجل لمس الكرسي يجد ان ملمسه زاد صلابة وملاسة بحيث أنه لن يكون بإمكانك أن تنفي أنه مصنوع من مواد بخسة وليست جديرة بحديقة كبيرة ، تتوسط شارعا كبيرا.
ويلاحظ البقال أن الكثير من علب اللبن الكرطونية المرمية في الحديقة إنما هو الذي يبيعها ، ليس في المنطقة وحدها ، بل في المدينة كلها . (قد تعترضون ، فأنتم لايعقل أن تصدقوا سخافة كهذه. لذلك دعكم من علب اللبن الفارغة وانتبهوا فقط لقنينات الماء ، عليكم أن تعرفوا ، أولا، أن ماءها ليس معدنيا ، مثلما هو مثبث في تعبئاتها ، بل هو فقط ، ماء طبيعي ، أما القنينات نفسها ، التي هي من بلاستيك شفاف ، وأحجامها صغيرة ، وتصنيعها محلي ، من إنجاز شركة غير معروفة كانت في البداية تفكر في إنتاج نفس القنينات لأغراض خاصة ، لكنها حينما أنتجتها وطرحتها للبيع لم تكن محل طلب ، فلما تأكد لها فشلها ، توليت إقناعها بإنتاج نفس القنينات لأغراض قد تكون من حيث الشكل شبيهة بالاولى ، لكنها في العمق مختلفة ، ..في غمرة شعورها بالفشل ، وافقت، شريطة أن تكتفي بتصنيع أعداد محدودة أما الماء فنعمل على استمداده من الصنابير وأبيعه في الدكان على أنه ماء معدني يشفي عد ة أمراض .)
6
يحدث الكلام بارتطام ، كما لو أن الشرطة دخلت فجأة وألقت القبض على الجميع ، ثم لا يحدث الصمت ، هذا ويمكن للجماعة أن تتحدث حتىالصباح، لديها ما يكفي من الرغبات العجفاء والكلام ..
7
...، ثم انتشر الفنيقيون في كل الأراضي الكنعانية ، وكما يعرف الجميع ، فقد كان هؤلاء أهل بحر وتجارة (فضلا عن كونهم ابتكروا الأبجدية ). فباعتبارهم يتعاطون للتجارة فقد أقاموا وكالات تجارية في كل مكان يشرف على حوض البحر الأبيض المتوسط ، كما جعلهم ترحالهم يشكلون صلة وصل بين عدة مدن –مثل بيبلوس ولشبونة ، مرورا بمالطة وصقيلية-ثم جعلوا الناس يخلطون بين قطع النقد وبين التوابل ، بين اليشر وبين الآلهة كما عملوا على اللقاء بين الإغريق وبين العرب .وحدائق هسبريس في المغرب تعود الى هذه الفترة، حيث صارت قرطاجة أقرب الى أثينا . فجأة تندلع ثلاثة حروب تزيد من ضغائن روما على قرطاجة باعتبار المكانة التي صارت تحظى بها هذه كعاصمة كبيرة على حوض البحر الأبيض المتوسط وجعلها من حيث موقعها لا تختلف عن روما ، عيث صارا معا محل محل إقامة من من طرف شخصيات تاريخية كبيرة ، على غرار القديس أوغوسطين الذي تنقل بين المدينتين ، وسمع الجميع بسيرته وتدريسه للبلاغة.
9
"تاريخ الجنة " ، هو الجزء الأول من كتاب للمؤرخ الفرنسي جان ديلمو . (الجزء الثاني يحمل عنوان "دار النعيم "والجزء الثالث "ألف عام من السعادة" ) ويعمل فيه كاتبه على التاريخ للتصورات "الخرافية " باعتبارها تشكل هي الاخرى مادة للكتابة التاريخية ، إنها كتابة تتعارض مع المنهجية الوضعية المتبعة عادة في كتابة التاريخ التي ترفع شعار "العلمية"والتي لا تعترف إلا ما وقع بالفعل وأجمع عليه الناس ...
10
تقف الشجرة لوحدها في الحقل كله، ثم يدخل الكركدن .
×××
13 ،ملاجئ بيضاء
1
لأسباب وجيهة يسحُّ المطرُ هيِّنا أمام مبنى الإذاعة و داخل مستودع السيارات المكشوف من الأعلى . في الخلف ، تتكوّم المدينة على مخلوقاتها مثل طائر قديم مُبلل ، فيما يسير الناس تحتها ببطء ، شاهرين مطرياتهم ومحدقين امامهم في ذهول كما لو أنهم صاروا في كامل أهبتهم لخوض حروب غير مرئية .
2
سنوات المقهى ، الصياحة والمتكررة والحافلة بأيام الآحاد ، الأوفر عددا من الكؤوس والكراسي والطلبات والحاشدة بزبناء يركبون جميعا على نفس الموجة التي لاتريد أن تنسحب عند أي شاطئ ويهتفون عاليا للفريق.
3
في منتصف الليل ، تغدو الملاجئ مثل مختبرات لتخصيب القلق من باطنه.
4
لم يكن الماضي ليمضي ولا المستقبل ليقبل إلا بتمزيقهما .
5
كان في إشراق الشمس يومئذ ، سفالة ، أشد بذاءة من شتيمة ، وكان فيها حط من مقدار النهار الذي بدا مطلا من رأس الزقاق قبل أن ينزل راكضا كتلميذ تأخر عن موعد الدخول إلى المدرسة.
6
في الإبعاد ما يغني أمما وفيه مايجعل العودة عودة الضوء للأيام والأوراق للأشجار والأزهار للحديقة .
7
بعد كل هذه السنوات من السجن غير المعترف بكونه سجنا لن يكون إطلاق السراح انعتاقا .
8
ليس الحزب وحده هو المنتج لثقافة الشعار ، والمتعهد بالرعاية لبيرق الإجماع والمتعبد في محراب الفكر الأحادي الحامل لشارة الإطلاقية ، الأكثر تعثرا في رداء النزعة الملائكية المولعة بتقسيم العالم الى قسمين ، تماما كما يقسمه المحافظون الجدد وكل من لف لفهم ، الى أخيار أو أشرار ، ثم تنتصر لمن تعتبرهم أكثر عصمة من أنبياء ، وتلقي باللائمة في الحقل الواحد المدان من المهد الى اللحد ، وتسحب جميع المزايا على الحقل الآخر.
9
أمكنتهم كلها "حميمية"، وهي إن لم تكن خارج التاريخ، فهي حتما خارج الواقع وداخل المكتبات . وأمكنة المكتبات سياحية ومجلوبة ، قد تكون جميلة ، لولا أن جمالها مبرمج ومحسوب .. ذلك عموما هو صنف الأمكنة "الحميمية" ، أما الأمكنة الواقعية فهي ضيقة ومكدسة وأبوابها مغلقة كأنها مخابئ، تصيرمغادرتها غير ممكنة البقاء فيها لا يطاق .
10
المأساة هي كيوم العيد ، مهما كانت متوقعة فهي مفاجئة وكل شيء فيها مغلق.
11
بين النور والظل فجوات تشبه كائنات الأرض وبينها اقترابات مهما كانت متجاورة فهي منفصلة .
12
وثمة حاجة الى التعنيف تضاهي الحاجة الى الهواء ، لأنك تكون قد علقت الأمل عاليا ، وراهنت على رقم واحد كمقامر مبتدئ: جئت مبكرا ثم وقفت في الصف طويلا .. ثم انتظرت من الصباح حتى صار المكان مهجورا وأغلق الزمن أبوابه وانصرف كبائع الحلوى أو مصلح الساعات .
13
لم يكن المكان مأهولا ، بل كان معويا (كالأمعاء) ، أزقته كثيرة وكالحة وضالة ودكاكينه مغلقة وكائناته كبدية وسقيمة وصفراء كأنما أصابها اليرقان . وظلاله تتضور مجاعة الى شمس لاتأتي وسماء غير موجودة .
14
يبدو الليل كبيرا بعد مخادع الهاتف . كبيرا ، أو بالأحرى واسعا ، فيما تصير الخطوات أكثر بطأ والأنوار أكثر ارتفاعا والطرق كأنها فقط تتوغل في نفسها .
15
أخبار الأمس كلها بعد المطر ، والمطر كله بعد الطريق والطريق مزدحم بالقتلى .
×××
14 ،جزر
1
لاشك أنهم هم أيضا ، هؤلاء الرواد بمن فيهم حتى النادل نفسه ، يأتون من أماكن بعيدة ، من أين ؟ لاتدري ولاتدري لماذا يكون لازما بالضرورة لسائر الكائنات إما للإستمرار أو للتناسل ،وهو يشكل مناسبة للتلاقي؟ ، ربما لأن المكان"التمام" هو المكان المنشود والمكان المنشود هو الذي تهاجر إليه . لولا أن الأمكنة كلها إن أطلت المكوث فيها تصير آسنا وتصير هي "أليفة" ، لا تملك القدرة على مغادرتها ، أو بالأحرى على الانعتاق منها ، يصير أهلها يعرفونك وأنت تعرفهم ، وإن اقتضت الظروف تتحدثون أحيانا ، مهما انعدمت أواصر التواصل بينكما . وقد أطال (ف) ارتياد المكان حتى ارتفعت أسعار المشروبات كلها ، غير أنه ظل ساهيا. يتعامل على ضوء النظام القديم .
2
(...)
3
في الطريق الى الجحر، توقف الجرد، ليس لعياء ناله ، فقط ، سحره الهدوء والظلام ومنظر الاشجار التي بدت له جسيمة ، وأكثر عددا مما بدت له صباحا فاندهش . لكنه ما فتئ أن طأطأ برأسه وهرول ماضيا ، إلا أنه توقف فجأة وتطلع اليها ثانية ، فألفاها مولية أو متأهبة للإقلاع ، كأنها لم تعد تطيق الوقوف.
4
(...)
5
في "الهوية" يتحدث كونديرا عن "الكوما"ويقول أن تولستوي كتب في نفس الموضوع قصة فتصورها على أنها تشبه النفق الذي يومض في نهايته نور يرمز الى الجمال الجذاب لما بعد الموت
في "الهوية"لايوجد نور . يقول(ف) –وهو صديق قديم لجان مارك ، الشخصية الثانية في الرواية - ، متحدثا عن غيبوبته الخاصة ، والتي استمرت طويلا :"إنك تسمع كل شيء ، فقط الأطباء لايعرفون (ذلك) ، فيتحدثون عن كل شيء (يخطر لهم) أمامك، حتى لما لايليق أن تسمعه منهم ، كأن يقولوا أنه (لم يعد من ورائك طائل وأن دماغك لامحالة هالك " !يتوقف لحظة ثم يواصل :"لا أعني أن وعيي كان صاحيا بالكامل ، (صحيح) أني كنت أعي كل شيء ، غير أن كل شيء كان (يجري) على نحو آخر. فكما لو أن الأمر كان يحدث في حلم ، ثم لايفتأ أن يتحول الحلم الى كابوس . غير أنه في الحياة ينتهي الكابوس بسرعة ، تبدأ في الصراخ الى أن تستيقظ ، غير أني (في خضم هذا الكابوس ) لم أكن أستطيع أن أصرخ ، وكان هذا الأمر فظيع : أن لاتستطيع أن تصرخ (...) . من قبل لم أكن أخاف الموت ، أما الآن فقد صرت أخاف منه ، لاأستطيع أن أتخلص من الفكرة أننا بعد الموت ، نبقى على قيد الحياة ، فأن نموت هي أن نعيش كابوسا لانهائيا ."
6
ثم "ماذا أصنع بدنيا إن بقيت لها لم تبق لي ، وإن بقيت لي لم أبق لها ؟"(... ).
7
8
حينما وصل (ف) الى منزله تذكر ، وهو يعود الى الجلوس بركنه الذي صار مفضلا ، مشهدا من مسلسل يقف فيه بدوي بين يدي ملكة تسأله عن اسمه ، فيجيبها هو :"دعثور" ! –باختصار بغيض ولا يخلو من غلظة ، فتسأله هي متهكمة : " وهل هذا اسم ؟ !" فيجيبها بقرف : "نعم ياسيدتي !"فتعود تسأله : " فماهو معناه إذن؟ !" فيجيبها هو بصوته الأجش والرتيب : "هو الشق في الجبل ياسيدتي !" تسأله ، ضجرة ومغيرة لمجرى الحديث :" ..ولكن كيف عرفت مكاني؟"فيجيبها هو : " وهل يخفى القمر؟ ! " تقول له ومستنكرة مبتسمة :" وتتغزل أيضا؟ ! " يجيبها هو بنفس الجلافة والصوت الأجش:"نعم ياسيدتي ! ".
9
"لماذا الخوف من العدم الذي ينتظرنا ما دام لا يختلف عن العدم الذي سبقنا؟
اعتراض القدماء هذا على الخوف من الموت ، (هو اعتراض يراد به العزاء ولكنه )، هو كعزاء ، في غير محله (وغير صحيح ) ، لأننا من قبل كنا نتمتع بعدم الوجود ، أما الأن ، فإننا نوجد ، هذا الجزء الصغير من الوجود ، أي من الحظ العاثر ، هو الذي يخاف الفقدان ." ( سيوران : "المانع من أن نولد ").
10
في الطاولة الى جانبهما ، كان يجلس رجل وامرأة ، وقد غرقا معا في صمت لانهائي ، (...) الى أين يتعين عليهما أن يوجها نظرهما؟ سيكون الأمر هزليا أن ينظرا لبعضهما من غير أن يقولا شيئا ، أما أن ينظرا الى السقف ، فسيبدو ذلك إعلانا عن صمتهما ، أما أن يحملقا في الطاولات المجاورة ، ففي ذلك احتمال أن يلتقيا بنظرات أخرى وجدت تسلية في صمتهما وسيكون ذلك أشد سوءا . تقول شانطال (الشخصية الرئيسية الأولى ..) . " ربما كان من اللباقة أن يمتنعا معا عن الكلام ، إنهما على النقيض (تماما ) من خالتي ، التي تتكلم بلاتوقف . حاولت أن أعرف سبب ذلاقة لسانها فوجدت أنها تحول كل ما تراه الى موضوع للكلام ، وهكذا ، فكلاهما يجعل بالمكان مرور الوقت (...) المشكلة بالنسبة للرجل والمرأة هو الوقت ، كيف يجعلانه يمر من تلقائه من غير بذل أي مجهود من ناحيتهما ."
ويقول جان دارك :" كنت في الرابعة عشر من عمري وكان جدي يحتضر . طيلة أيام وهو يصدر صوتا لايعني شيئا ، ليس تأوها ، فلم يكن ثمة ألم يخامره (...) كما لم يكن فقد القدرة على الكلام ، فقط لم يكن لديه ما يقوله ، لم تكن لديه رسالة محددة (كان يريد توصيلها)، فضلا عن أنه لم يكن هناك يهمه أن يكون هناك شخص الى جانبه . كان لوحده مع الصوت الذي يصدره ، وهو صوت واحد:أأأأأ. لاتنقطع إلا في اللحظة التي كان يحتاج فيها لاسترداد نفَسه. كنت أنظر اليه وأحس ، كما لو أني صرت ممغنطا ، لم أنس أبدا هذا ، فقد فهمت حينئذ أن الوجود باعتباره كذلك ، هو مواجهة مع الزمن ، وأدركت أن هذه المواجهة كانت تدل على الملل ، ملل جدي كان يعبر عن نفسه بهذا الصوت (...) فلو لم تكن الأأأأأ ، لداسه الزمن ! ...إن كمية الملل ، إذا كان الملل يقبل القياس ، هو كم مرتفع اليوم أكثر من ذي قبل ، لأن الحرف أيامئذ ، في جزء كبير منها ، لم تكن ممكنة من غير من غير ارتباط عاطفي، (وهكذا) فالقرويون كانوا يحبون أرضهم ، وجدي كان نجارا ماهرا ، والإسكافيون كانوا يعرفون أقدام القرويين ، بل يحفظونها عن ظهر قلب ، وكذلك الحطابون والبستانيون (...) بمعنى أن الحياة لم تكن محط سؤال ."
×××
15 ،غيوم
1
الباب أسير، تقتاده الأدراج الى الغرفة
والغرفة ، الشبيهة بالمشرحة ، ذريعة لقيام النافذة
أما النافذة ذاتها ، التي لم يعد الباب يراها، من فرط انغلاقها على أقداره المتعثرة ، يحس أنها هي التي تحرك الريح أمامها وتصنع الزقاق بكل سكانه وترفع السماء بكل غيومها وتقيم الليل منذ الآن . وهي مغلقة ، ليس تحاشيا لضجيج الأرض ولا درءا لرطوبة السماء، فهي تضاعف من حدة الضجيج وتزيد من منسوب البرد في الغرفة . بل هي مغلقة فقط ، تترقب ربما عودة القباطنة أوانسحاب الغيوم.
2
الباب نفسه
والسجاد الأحمر واللوحة الوحيدة على الجدار الوحيد والتلفزيون المطفأ وعقرب المنبه الذي يملأ الليل بالوقت
هو نفسه المنبه الذي ظل يعود ببقايا الليل ، كما تعود الطائرات بأشباح القباطنة ، من حقب سحيقة ، الى هذا البيت ، ثم ينهض – الليل – منتصبا كالحائط ، بعد ما يتلكأ، خلف الباب ، طويلا ، وهو – المنبه – يمعن ، مثل النافذة التي تبتكر الخارج ، في احتكار الأبدية . الليل والمرأة من جنس لبون وقاضم ، تتأمل اللوحة فترى حشدا من الوشائع والخيوط والأحماض وتنتظر على مسافة مليارات السنوات الضوئية ، المزيد من الأشياء الصاخبة .
×××
16 ، ذكرى
1
عاد عمال البلدية وبائعي جافيل المتجولون بنداءاتهم التي تثير شؤم الصمت ، كما عادت الصومعة بآذانها الذي لم يعد يثير قرف مكبرات الصوت ، وعادت الأيام نفسها كأنه لم يعد لها سوى هذه الأحجار تنشر أجنحتها عليها مثل طيور بائدة .
أن يبتعد القارب عن مرساه بالسكون الذي يسحب من البحر سواحله مرجئا الصيد، كما لو كان واثقا من أن الزمن سوف يلتقي به كاملا يعد المنعطف ، عند أول صخرة يرغب في الرسو عندها .
2
كنا نلتقي هناك . لم تكن تجمعنا موائد الحساء التايلاندي ولم يكن يهم أن تنتهي الأشياء أو أن تبدأ . وحدها الذاكرة الولوع بتلفيق أجنحة للحظة كانت تتكفل لاحقا بصقل ذهب للذكرى .
لم يكونا يلتقيان كما تلتقي مياه الوادي بمياه النهر ، بل كما تلقي نيران بحقل قمح وكما يلتقي سجين بجدار ورصاصة طائشة بضحية .
كل متعاط مع الذات إلا وتتساوى عنده الحاجة الى الكشف مع الحاجة الى الحجب .
شعار البرنامج وموضوعه الحديث الطويل عن الموسيقي ، وكل هذه الأبواب الضيقة كالتوابيت وهذه السلالات المستوردة كالقواقع وهذه الأحلام التي سيحلمها الرجل الليلة قبل أن يخلد الى النوم وقبل أن يدخل هذا الخريف الذي بكر وكل تلك النعمة المشغولة بتسريح شعرها أمام المرآة وكل السلاحف البحرية المهددة بالعمى وكل الدلافين وطيور القطرس التي تجتذب السياح .. وكل شيء، بما في ذلك أقوال المذيع التي دارت في مجملها عن "نجوم الجريمة " ...، اختفى.
3
مدهشة هي قدرة مصطفى ، ابن الزقاق ، على تحصين نفسه ضد الجنون .. أحيانا يطلق سراح نفسه من سجنه الاختياري الذي دام سنة ، دخل دارهم ثم أغلق عليه باب غرقته ولم يخرج سنة كاملة .
قال بأنه يرى أطفالا هم من الصغر بحيث تقترب أحجامهم من أحجام الحشرات ، وهم يتحدثون اليه طوال الوقت . أحيانا ينادي أمه أن تتحقق بنفسها فلا تدري كيف تقنعه بضرورة الخروج أو بالكف عن تدخين تلك الأعشاب المتسخة والسامة . يقول لها أنه يسمع مجادلاتهم ومناداتهم عن طفل آخر اسمه " سفيان " أو عن طفلة اسمها "سارة" ، يعثر على عشرات القرائن التي تدل على وجودها معه ولكنه لا يعرف ما الذي تفكر فيه . "لا أستطيع تقدير عدد المخلوقات التي تقاسمني غرفتي" ، يقول مصطفى . "أسمعها أحيانا تتحدث وأسمع نداءاتها على طفلة اسمها "إيمان" ، تقول " جيبوه دابا !"، تقصد أخاها " سفيان ". كل مرة أدخل فيها مطبخ والدتي أجدها غيرت من ترتيب الأواني وأجد هذه مغسولة ومجففة وأجد طعامي مهيئا وملابسي مكوية فيما تنهض زينب أختي وتنصرف" .

×××××
(الصفحة الأخيرة ، الغلاف الأخير)
صباحا ، كلما أشرقت الشمس ، تعود النافذة الى منتصف الجدار ، تبعث الريح امامها ، وتصنع الزقاق محفوفا بدكاكينه وبأيامه المزدحمة . كما يعود الباب لكي يزداد التصاقا بالجدار ، كما لو أنه يحتمي به من غوائل وشيكة ومحتملة ويبقى فيما عدا ذلك مغلقا ، يخفي الداخل مثل نعامة تخفي رأسها وتعود الاوقات كي تزداد اكتظاظا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.