مدينة يحيط بها سبخ مفروش بإمتداد الأفق . تبدو الملوحة من خلال هذا الأديم الأبيض , كالكفن , تتلفع به تلك الأرض التي تنبسط , من الرمل المتيبس حتى الخضرة الغامقة لنخل يمتد بلا نهايات وكأنه يسد منافذذ الأفق . بينما ينساب شط العرب بصمت , وكأنه يخشى هذه الغابة المدلهمة من الجذوع المتعانقة , والتي تنتهي بسعف يبدو كجدائل صبية عذراء . وحيث العذوق التي تتدلى , وتتوهج بالألوان .لتترك الجذع يرتفع ويتماسك بينما جذوره تنغرز في التربة الدافئة , لتلتصق بالتهر والمدى الذي ينحسر تحت وهج شمس تتسلل في الأعماق المثقلة بالرطوبة . في هذه الزاوية النائية والمسكونة بالصمت . تبدو الفاو محاصرةً ما بين شط العرب والخليج والسبخة الشاسعة التي تتصل بالبادية الجنوبية . في جنوب الفاو تمتد الجداول للتعامد مع شط العرب وتتغذى منه لتتجه بعيدا مشكلة احوازا تمتد حتى البحر . هذه الأحواز حافلة بالقرى المتناثرة , والتي تستظل بالنخل . وتتتخذ من جذوعه وسعفه مادة حيوية للبناء والسكن والعيش . قرى متناثرة وبيوت طينية تذوب في هذا الحشد الهائل من وشائج العلاقة بين الوان الأرض وانسانها المغرم بالجذور . وللنهر سطوته . فهو الذي يرسم نبض الحياة من خلال ما يختزن من سفن شراعية وزوارق الصيد وناقلات النفط . هذا النهر يزخر بالمهربين وصيادي السمك والذين ينوون الأنتقال الى عبادان خلسة . شرطة ودوريات واغان ريفية . بينما النهر يتململ في مده وجزره ليغذي الجداول بالماء والطمى , ثم يتسع رويدا رويدا حتى يعانق الخليج , حيث انسياب الألوان البنية للمياه لتصطدم برفق بزرقة لانهائية للخليج. وفي هذه الزاوية من العالم تستقر الفاو . مدينة الملح والروبيان والصبور وكل الأسماك البحرية والنهرية . مدينة النهايات الحادة والطقس الأفريقي . نتوء هلامي يتمدد وينحسر تبعا للتقلبات في العمل والهجرة . نافذة العراق على الخليج بعربه وفرسه والسفن العابرة نحو اسيا .. مدينة النفط والصيد والحدود . تتكأ على رحابة الشط واتّساع النخيل . وكأنها ينبوع من الخدر والدخان والترف والفقر والعمل والبطالة . احتضان غريب لللأضداد . البيوت الطينية المتآكلة , والمجمعات السكنية التي ترفل بالترف . نوادي النفط الحافلة بوسائل الترفيه والراحة , والأسواق التي تعكس حجم الفاقة . الذي لايعرف مرزوق لايعرف المدينة . وكأنه احد علاماتها . مرزوق العبد . هكذا يسمونه في غيابه , لسواد بشرته .ولكنه يدعونه - ابو سمرة - في حضوره تحببا او تملقا او تهكما . مرزوق يتجول بدون ملل بين طرقات المدينة واسواقها . يدفع ( عربانة ) خشبية متآكلة . صبغها بلون ازرق وكتب عليها باحرف بارزة( محبوبة مرزوق ) . اهتم بمحبوبته العربانة فهي رفيقته الوحيدة . كان يزينها (باقباق) المشروبات الغازية من بيبسي كولا وفانتا ومشن وصودا وميرندا وسيفون ,اقباق ملونة تخفي بؤس العربانة وتدخل البهجةعلى ملامح مرزوق المتجهمة . يتسكع في الأسواق بكسل . يحمل البضائع والمواشي والأسماك لقاء اجرة زهيدة ولكنها تثير فيه نشاطا كبيرا . وما ان يهبط الليل على الفاو وينطفيء وهج المدينة وتغلق المقاهي . يأخذ مرزوق عربانته الى ركن قصي من المدينة, قريبا من شط العرب , حيث نادي المعلمين . خلف حديقة النادي يضعها برفق , وبخطوات رشيقة , لاتنم عن تعب النهار الطويل . يدخل الى مطبخ النادي .. الكل يعرفه . وبدون ان يتفوه بكلمة يفتح كيسا من القماش . فيه بعض النقود . يعدّها بفرح ليشتري بطل عرقه اليومي .. يداعبه احد عمال النادي " ماطول بالنخلة تمر , ما جوز من شرب الخمر " غير انه لايكترث للمداعبة ,فعيناه تحدّق في ضالته اليومية ( بطل الزحلاوي) . يفتح فمه ليحتسي اول رشفة , ثم تبتلعة ظلمة الأزقة . ميناء الفاو حافل بالحركة. بعض البواخر تتزود بالوقود. وبعضها ينزّل حمولته . والسكلة لاتعرف الهدوء إلا في اواخر الليل حيث ينام مرزوق في عربانته قربها , وما ان تتراءى خيوط الشمس الأولى حتى تضجّ الحركة . خليط من البحارة والكسبة والحمالين وصيادي الأسماك والجنود والمتسكعين , مما يجعل من الميناء نبض المدينة , حيث يستقطب الكثير من ابناء القرى المتناثرة الذين يبحثون عن العمل اليومي الموقت . مدينة السبخ والماء والنخل مثقلة بالنفط , الذي لم يكسبها سوى تعاسة دائمة . هذا النفط الذي يغرق العالم بالرفاه والمال والطاقة , لم يشأ أن يمنح بعض بركاته على هذه العتمة الرصاصية التي تحيط بالأفق . حيث تنطفيء الروح المتعبة , وتظل الأسئلة مخنوقة تحت هذه الفوضى . ويبقى مرزوق في عربانته , التي ليست لديه من حطام الدنيا غيرها . مصدعمله النهاري ونشوته المسائية . عالمه الفسيح والضيّق , لايهم ذالك . فهي فراشه في تعبه وليله او قيلولته , يترع الخمر في لامبالاة في زاويته التي اختارها . يصدح بصوت أجش ليغني ( الأبوذية ). يجلس عند الجرف ¸وتهبط قدماه لتلامس حواف الماء , بينما تحدق عيناه في الأمواج الصغيرة المتراقصة التي تهرب نحو الجرف . تفوح رائحة الرمل المبتل بالرطوبة . مرزوق لايدرك انه سحابة ملعونة في سماء مكفهرة . منذ طفولته وهويعيش في هذه الرمضاء . يصارع جذوع النخيل , ويتأرجح بين السعف الممتد وبين الكرب الناتيء . ينهش العذوق الريّانة بالرطب . وحينما يتأرجح على سامق النخل المطل على الشط , يرمي نفسه الى النهر وكأنه يذوب فيه . الذي يرى قفزته هذه يظن ان النهر التهمه الى الأبد , ولكن بعد دقائق من الغطس في الأعماق, ينبعث من جديد كسمكة متوحشة تفجرت عنها لجة الماء المتلاطم . لم يبرح الفاو لحظة واحدة . وكأنه قد امتزج بهذا العالم الكثيف .عالم النهر والنخل والجدب . وكأن ملوحتها قد تخثرت في دمائه . لقد رفض ان يكون عامل نفط كما رفض ان يشتغل في الميناء . هل كان يخشى ان يفقد حريته ؟ لاشك ان ذاكرته مثقلة بالأحداث التي اختزنها بصمت , وهاهي تتسرب من خلال دخان سيجارته ومن هذا السائل الذي يتأبطه دائما , كتعويذة تبعد عنه مرارة ما هو فيه . في غَبَش عابق بالرطوبة والغبار . تحولت الفاو الآمنة الى ما يشبه الثكنة العسكرية . ارتال من المصفحات والدبابات وحاملات الجنود والمدافع تقتحم صفو المدينة . كان الجنود متشحين بالحزن والغبار . وسرعان ماصبح اللون الخاكي ميسما لمدينة فقدت لونها . انتشر التوجس والخوف بين سكانها .كانوا يذهبون مسرعين لشراء حاجاتهم وعلى رؤسهم تنمو اسئلة مرة . كيف يتحملون حربا , ولا يفصلهم عن العدو المفترض سوى النهر . حتى انهم يسمعون آذان مساجدالصوب الآخرمن النهر ,ويتعايشون مع تلك الضفة منذ القدم . كانوا يصيدون السمك معا ويتبادلون التمر والشاي والملح . كانت الأيام ثقيلة والليالي مزدانة بالهواجس , حتى كأن الأزقة ابتلعت ساكنيها . فليس في هذه الدروب غير الفراغ والجنود . عبر مرزوق بعربانته الخشبية الى نادي الميناء لشراء بطله اليومي , ولكنه وجد ابواب النادي مقفلة . حاول ان يذهب الى نادي المعلمين للغرض ذاته . ولكن الطرق مقطوعة . لم يستطع ان ينام تلك الليلة , لايدري بسبب حرمانه من العرق او بسبب هذه الشهب النارية المصحوبة بالهدير والصراخ . كانت القذائف تمزق جسد مدينته , وتحرق النخل . تلك الحيطان الأليفة التي طالما تلمسها , واستراح في افيائها اصبحت كالأطلال , خاوية من اصوات الناس وعبث اطفالهم بينما يعلو النخل . ثمة اختلال غير محسوب , على الأقل بالنسبة لمرزوق . لم ير مثل هذه الفوضى الجامحة من قبل . يعرف المدينة منذ طفوته فقد القته امه ذات ليلة في بيت من جذوع النخل . وما ان سمعت صرخته الأولى حتى ذبلت عيناها من عسر الولادة . ماتت وتركت مرزوق يتيما . لكنه لم يستسلم , كان قوي البنية , احترف العمل في غابات النخيل الممتدة من الفاو حتى الخليج . يتذكر انه حالما يصل الى السيبة حتى يعبر شط العرب سباحة الى عبادان .تذكر كل ذالك وهو يتلمس عربانته الغائصة في الوحل . الأيام تمر مثقلة بالقتل والدمار . ومدينة الفاو الأليفة تحتضر تحت وطأة صهيل الموت . لقد توقفت الحياة ولم يبق فيها غير الجنود المتعبين .غادر الناس المدينة , اختفت لمحاتهم , اسواقهم , المقاهي النوادي . احادبث السمر على النهر والنسوة والأطفال , ودبيب الأقدام الصغيرة الراكضة . لقد فتحت الأرض فما متوحشا لتعصف بكل شيء. ( انها الحرب يامرزوق . إغتالت حلمك الجميل , ومسرح حياتك .. هي حرب انت لست طرفا فيها . لم يستشرك احد في اتخاذ القرار , ربما لأنك لست راشدا . لاتفهم سوى الخمرة ليلا والتعب نهارا ..لاتصرخ محتجا .. لااحد يسمع صوتك الشاذ المشوش والمجنون . هم - فقط - يصنعون عرش الموت وعليك ان تستجيب . انت مجرد رجل مجنون , لاقيمة له .. اتتذكر مرة كنت تدفع العربانة , وكنت متعبا وقد انغرزت عجلاتها في الطين فلم تستطع ان تخلصها .. استعنت ببعض الشباب الذين خرجوا من نادي المعلمين . قلت لهم ادفعوا معي .وقبل ان يضعوا ايديهم لدفع العربانة و قلت لهم انتظروا . " خليني ابوش الكًير " لقد اغرقتهم في الضحك . بعضهم قال : مرزوق العربنجي مخبل . وبعضهم اكد انه ذكي واعقل من الجميع , واراد فقط ان يختبر ذكاءنا . هل جننت يا مرزوق , ام ان العالم قد جن من حولك ؟) في ليلة من ليالي الحرب الطويلة , تحول سواد الليل نهارا . وكأن للجحيم ابوابا هائلة ,فتحت على مصراعيها . نار مستعرة . حطامها بشر وبيوت ونخل . حتى تحولت هذه المدينة الى شواهد قبور وخنادق ,. حتى كأن المنازل تتطاير , وارصفة الميناء تضمحل , ومصافي النفط تحترق . وكأن لعنة حلت على هذه الزاوية المنسية من هذا العالم البائس . نفض مرزوق الغبار عن شعره الأشعث . سار بخطوات متعثرة . كان ثمة هدوء غريب . عبر من خلال الخنادق والجنود المتوجسين . كان الدمار هو سمة المدينة , لكنه كان يسير بإتجاه شط العرب , وكأنه شبح بشري هلامي الملامح .كان يتمتم " اولاد الزنا .. احرقوا النخل " كانت الصرخات تحاول عرقلة مسيره نحو النهر ( قف .. والآ اطلقنا النار عليك ) . حاول بغض الجند الرابضين في خنادقهم تهديده بالسلاح . لكنه كان يمشي باتجاه النهر , رغم صليات الرصاص التي استهدفته لتحذيره لكنها مرت قريبة من جسده المتعب . وحالما وصل الى شط العرب حتى انغمر في وحله , ولامست قدماه الحافيتان برودة الماء الآسن . احسّ ان قدميه قد شاختا . وهو يلامس الجثث البشرية الطافية على الجرف . اقعى على إليتيه وهو يتطلع الى الجذوع الميتة والجثث الطافية حيث برك الدماء المتخثرة . دوت رصاصة مجهولة , صافحت جبهته المتعرقة والقت جسده المتيبس على النهر . كانت الدماء حمراء تذوب في الماء المتكدر بينما كان جسد مرزوق يلتصق بجذع نخلة , وهو يعاني سكرة الموت.