وكأنها بقعة ضوء , سقطت علّي هذه الشقة من السماء , لتبدد عتمة تخبطت بها منذ وصولي البصرة . ورغم أنها لاتتوفرعلى شروط الإلفة او الراحة - ليس فيها ما يحمي من حَرّ او قر - لكنها كانت بمثابة هامش فردوسي . فلأول مرة أجد سقفا يؤويني من الخيبات المتعاقبة , طرق ابواب الأقارب , الغرف الموّقتة , المعارف الذين ينظرون اليك بشكل غير ودي حالما يعلمون بحاجتك المزمنة الى مأوى . اما الآن فعلي ان افتخر بان لي حيّزا من شقة تحاذي سوق الهنود , حتى انني استطيع ن اتحسس التوابل في ذالك السوق القديم , اشمّ فيها شرقنا القديم , استحم تحت امطار استوائية , ممتطيا ظهور الفيلة فأدلف في قصور مهراجات الهند .. افتح نافذة قد تآكل دهانها واختلط بغبار رطب , كان حي البجّاري مستلقيا امامي وكأن منازله العتيقة تتكأ على بعضها خشية السقوط . ايقظتني من هلوستي اصوات الباعة المتجولين الذين يذرعون الحي ليلا ونهارا . واحسست ان شقتنا لاتنتمي الى ما يحيط بها . مملكة خربة لنزلاء يأتون من مدن مختلفة , سرعان ما يجدون انفسهم منغمرين في وشائج المكان , رابطة ترتقي الى حد التقارب والأحساس بالمشترك .لقد ذابت الحواجز بيننا . كلّ منّا هجس الملامح الفكرية والمزاجية للآخر من خلال جريدته واعقاب سجائره , وهكذا صهرتنا هذه الشقة في تنّورها المتوهج , واحتظنت طيشنا واحلامنا واوهامنا . واتسعت لكل حماقاتنا . كنا نشعر بانها تطفو بنا على صفيح ملتهب , وذالك لأن ما يحيط بنا ينظر لنا بريبة , لاتخلو من كراهيّة , وكأننا فائضون عن حاجة الحي . استطعت أن الملم نفسي .اشتريت سريرا مستعملا , وحاملة الكتب المصنوعة من الجرّيد , وبعض الأواني الرخيصة ,بينما تتدلى نافذة الغرفة على مدخل ( البجاري ) مما يسمح لي ان اتنفس فسحة الزقاق وحركة السير غير المنقطعة . وكانت الأيام كفيلة بصنع الجسور مع الآخرين -من سكنة شقتنا - ليصبحوا اصدقاء يشاركونك في زحام التسكع , لوعة المقهى , تهويمة النوادي الليلية . اصدقاء الأحلام المتساقطة في هوّة الفراغ , حيث الدروب الشاقة التي نسلكها - احيانا - لآعادة التوازن مع الذات , في حقبة زمنية اشبه بساحة للمبارزة . ينبغي ان تتكأ على حائط يحميك , وانت تتهجى نهجا غير سالك . في مساء ملون بالرطوبة . كنت في غرفتي , منهمكا في ترتيب اشيائي الصغيرة, واذا بطرق عجول على الباب . وما ان فتحته حتى وجدت كيانا نسويا ملفوفا بسواد العباءة . ازاحتني برفق وهي تتقدم صوب غرفتي , تسبقها عطور نفاذة , تختلط بعفونة العرق المتصبب . سألتني عن بقية الشباب وكأنها تعرفهم واحدا واحدا . وهل انا جديد ومن اية مدينة . دخنت سيجارة واستلقت غير مكترثة بارتباكي . كانت تحدثني عن قريتها النائية وزواجها المبكر وهروبها واشياء اخرى . وكان تبرجها يشي باتقانها لعبة الأصطياد . وجدت نفسي معلقا في صنارتها , فغرقت في فحيح الرغبات المكبوتة وانا انفض عن نفسي جوعا مزمنا , متسلقا ارضا رخوة وجسدا لايستجيب لمؤثرات النشوة . وما إن سكنت فيّ فورة العطش حتى شعرت بعقدة الذنب . كانت ( صبيحة ) تستعد للخروج وهي ترتدي عباءتها , بينما يدها تضع الورقة النقدية في علاّقة صدرها . وما ان سمعت اصطفاق الباب حتى هممت بالخروج . كانت الأمسية البصرية شاحبة حينما تلقفتني ازقتها السابحة في الغبار .ومن هناك اطدمت بساحة ام البروم , كانت فضاءا فسيحا تتكدس فيه عربات البيع للمأكولات السريعة , والمقاهي الشعبية ,وسيارات النقل . انه عالم مكتظ بالخطوات العجولة والزحام اليومي مما جعلني اشعر بنشاز وجودي هناك . فقررت ان ازور بيت صديقي الشاعر المعتكف في زاويته المعتمة. - رهين المحبسين .. خاطبته وانا الج صومعته . اجابني وهو يرتب غرفته -ايها المتسكع المزمن , آ نً لك ان تستريح .. كانت الغرفة حافلة بمئات الكتب التي تتسلق الرفوف . لكل كتاب حيويته وشخصيته , الوانه واشكاله , انها الحياة بكل عنفوانها تتدفق عبر هذا المخزون الهائل من الحروف . كان منهمكا في تحضير الثلج والمزة , والكؤوس من الكرستال . مما جعل هوّة واضحة ما بين بساطة الغرفة , وأناقة المائدة .. - ماهذه الأبّهة يا باشا .ضحك وهو يملآ كأسا تتراقص كراته الثلجية وتمتزج برحيق الزحلاوي , وهو يؤكد على روحية هذا الأكسير ," ينبغي أن نوائم بين عمق المضمون وبين جمالية الشكل " عقبت ضاحكا -اذا كان الراح هو المضمون فالكريستال هو توأمه..تحدثنا عن حسان بن ثابت وخمريات ابي نؤاس ثم عرجنا على مذكرات بابلو نيرودا , وموته كمدا بسبب إغتيال ديمقراطية شيلي ..دخنت سيجارة اخرى وانا ابوح له . -ارتكبت اليوم متعة طارئة ..ثم أضفت بعد ان اصطدت دهشة تتسلل عبر تجاعيد جبهته : منحتني لذة ,ومنحتها بعض ما بجيبي من نقود . رمقني بنظرة ساخرة لاتخلو من غيرة قائلا : انتم تناصرون المرأة في ثرثرتكم اليومية , ولكنكم تستبيحونها في اول فرصة . ثم اضاف انه الوحل الثقافي .. قلت له ضاحكا : في صحة الوحل .غرقنا في دوامة ثرثرة لا نهائية . ثم ودعته وانا عائد الى شقتي . كان الليل عميقا صامتا . عرجت على اكشاك الأكل السريع , فالتهمت بعض الفشافيش وشربت شايا ثم تسلقت بهدوء درجات شقتنا . في الصباح تتدلى الشمس عبر النافذة , تتسلل بخشونة بين فراشي وكأنها تدفعني للخروج , يجب أن استعد للمساء , فقد علمت أن ثمة خصاصا لمدرس في ثانوية العشّار المسائية للبنات , وحالما قدّمت طلبي الى المديرة , حتى قبلتني فورا . عليّ ان استعد لأمتحان اللياقة امام تلميذات اغلبهن موظفات . اشتريت بعض الملابس الأنيقة كي تقيني من تهكمات او تعليقات طالباتي اللواتي - في اغلب الأحوال - يجيدنّ لغة السخرية من المدرسين , هيأت المادة المقررة وانتظرت المساء بنشوة مشوبة بالخوف . وحينما وقفت امامهن ذاب كل جليد التوجس , واحسست بنضج الطالبات وقدرتهن على التحليل . رغم اننا كنا نمزج مابين ضيق المقرر وبين رحابة ما يحيط به .. بعد ان انتهت محاضراتي تسللت وحيدا عبر شارع الوطني الى الكورنيش . كانت اشجار اليوكالبتوس تحيط بالسياب . تسند جسده النحيل , تؤنسه في معاناته الأبدية وهو يتلو انشودة المطر لعراق ينزف اوجاعا معتقة . وكانت الزوارق البخارية تمخر شط العرب . تنفذ عبر مسامات النخل المدلهم في الضفة الأخرى حيث التنومة . عرجت على نادي الفنون , استطعت ان اجد بعض الأصدقاء يتحلقون حول طاولة الشجن اليومي ..تحدثنا عن مواضيع مختلفة , لارابط بينها , وتبادلنا نكات مكررة , غير أنّ همسا سرى بيننا : - اعتداءات متكررة على الرفاق .. - مجرد سلوك فردي لايمثل الموقف الرسمي للسلطة . - الجبهة في خطر . انهم يغتالون القواعد ..يبدأون بجزرة الوعيد , وينتهون بعصا التهديد ..كان الحوار اشبه بالفحيح المكتوم عن تصورات غائمة محبطة . لم انبس ببنت شفة . كنت ساهما إزاء هذه الأفكارالمتقطعة . تذكرت قبل اسابيع حينما احتفلنا بعيد الحزب على سطح شقتنا , كنّا قد هيأنا المائدة ولوازمها . بعض الأغاني الهامسة .. احاديث شتى وضحكات ودودة . وبينما نحن منهمكون في حفلتنا الصغيرة , نرقص الهيوة ونستمتع برطوبة الليل البصري , واذا بحجر كبير يهوي علينا كنيزك متوحش .. ساد صمت هائل , تحسسنا رؤوسنا , شهدنا المائدة التي تبعثرت اشلاء . وحينما اشرئب احدنا لمعرفة الجاني , رأى ثلاثة اشخاص ذي ملامح قاسية , يرتدون البدلات الزيتونية . قال وهو يضحك ساخرا . - انها مجرد رسالة رقيقة من الحلفاء ! لاشك ان عتبة بن غزوان لم يفكر قط بشقتنا حينما بنى البصرة , واسسها حجرا حجرا , ولم يدر بخلده أنّ هذا الكيان المهلهل سيصبح عشّا الوذ به ليلا من مغبة التسكع المرير وتعثرات الليل .وحالما اكون في غرفتي حتى اتحرر من ايقاع المقاهي وصخب الأرصفة الملوثة . اخرجت الكتاب الذي اهدتني اياه وكأنّ عطرا خرافيا يتضوع فيه , نسيت حروف الكتاب وتعلقت بالأهداء . تذكرت عتمة عينيها , شلالات الفرح السابح في سهول وجهها القمحي .تخيلت انني اتقدم اليها بطلب الزواج , ولكنني تذكرت السخرية الداعرة من صديق بحت له برغبتي في الأرتباط بها . استمر بالضحك . وقال لي " وفّر عواطفك ياصاحبي .راتبك البائس لعشر سنوات غير قادر على انجاز حفلة زفافها " ثم أضاف " هذا اذا قبلت بك بعلاً .." ومع اني احسست بكلماته تصفع طموحاتي الصغيرة -كإنسان - ولكنني ادركت أنه يتمتع بواقعية تفوق تخيلاتي الساذجة . لذا فقد اكتفيت فقط باستنشاق رسائلها , والبقاء ضمن دائرة الطيف الطبقي على قاعدة ( مد رجليك على قدّ غطاك ) كما يقول المثل . كان الشارع يئن من المجهول . الجنود يملؤون الطرقات وهم يتسكعون دون هدف . عيون المخبرين تفترس البراءة الطارئة في الوجوه المتعبة التي تبحث عن السلع التي تختفي فجأة . الشعارات التي تحاصرك كالتلوث في كل وقت وفي كل مكان . وابو إقبال - صديقي القديم - معتقل في القاعدة البحرية , لأنه اشترى لأخته الصغيرة الة طباعة باللغة الأنجليزية ! كنت افكر في مصيره وانا اتحسس جواز سفري الذي استخرجته بشق الأنفس . وها انا اعانق هذا الليل البصري . كان القمر يهبط برقة على امواه الشط ومويجاته , حيث تبدو الزوارق البخارية متعبة كنوارس تائهة . وتبقى خطواتي مصرّة على المشاكسة في طرقات لا تعرف الشفقة . تسللت عبر سوق حنا الشيخ الى الجسر, ومررت بمقهى ابو مضر فوجدتها مقفرة خالية من روّادها . شعرت بالعزلة , وكأن قضبانا خرافية تطوق المدينة وتستل روحها .. تلك المدينة الجنوبية التي تغرس جذرا في التأريخ فيمر الزنج والقرامطة واخوان الصفا . تستنشق في جنباتها عبق التأريخ وأريج الحضارة . علماء ونحويون وشعراء ومؤرخون وعلماء فلك وأئمة مذاهب , تركوا ميسمهم على اديمها , شربوا من كوكتيل رافديها وإستظلّوا ببستانها . البصرة تلك البهية . ستظل عصيّة عليهم .. هذا ما كنت افكر به وانا اتسلل الى شقتي العتيقة , وفي تلك اللحظات رأيت ظلّين يتعقبان خطواتي , يغرزان نظراتهم الحاقدة في لون قميصي . ولكنني استطعت الأفلات منهم بعد ان تسلقت درجات الشقة راكضا . ومن خلل النافذة المعتمة , قرأت همجية ملامحهم . - شقتنا ستكون هدفا قريبا لهجماتهم .. - أنت تبالغ في مخاوفك , الدنيا مازالت بخير , قالها صديقي وهو يداري ارتباكه . كنت في المساء التالي ارقب حقيبتي وانا انتظر صهيل القطار الصاعد الى بغداد .. تحرك ببطء , كانت الصرائف والأكواخ السابحة في البرك الآسنة تبدو كئيبة . وكان القطار يتحرك بهدوء مقيت , يحملني الى المجهول , بينما يبقى الوطن متأرجحا , ساكنا , سابحا في الفراغ .