كان يوماً ممطراً كَغير عادته من أيام السنة، مَطر وعواصف رعْدية في شهر نيسان، أعشاش العصافير على الأشجار يَتطاير بعض منها، وزهر اللوز الأبيض ملأ الأرض بياضاً، فالناظر من بعيد يَظن ان الثلوج قد غطّت الأرض في بستان جدّتي... كُنت حينها لا أستطيع النهوض من عَوارض الحَمل المُتعبة التي تجعلني كالمَخمورة وسط نهار يَعج بالمفاجآت حين سمعت المؤذّن في جامع القرية ينادي: يا عباد الله أختكم بهيجة انتقلت الى رحمة الله... لم أدرك ماذا أسمع هل أنا نائمة!؟.. أم أحلم!.. وكيف لم يخبروني!.. لماذا؟؟.. أيعقل وهذه جدّتي؟.. لا لم أكن لأصدّق كل ما يحدث، ركَضت نحو الباب لكن لم أشعر بقدمي الثقيلتين على الأرض، حاولت أن أدرك ماذا يَحدث لكنني أحسست كأن غُرفتي أظلمت، أسمَع الأصوات حَولي ولا أستطيع النطق لأقول أنا أسمعكم، ظننتُ ان المَوت دنا مني وأنني على المغسل مُمدّدة وما سمعته إنما هو كابوس مزعج لا زلت فيه... شعرت بشيء غريب يدخل أنفي، فتحت عيوني لأرى الناس من حولي قد تجمعوا وزهر اللوز لا زال يتساقط، فصرختُ جدّتي! سمعت إحداهن تقول: «إنا للّه وإنا اليه راجعون، لا إله إلاّ الله...» صرخت فيها ماذا تقولين أنت؟!.. نظرت في وجوههن الصامتة كأنَّهن فقدن لغة الكلام، حاولن الامساك بي لمنعي من الدخول لكن عبثاً يحاولن، فتحت الباب بقوة رغم الناس المتجمعين عنده وكأنهم لا يريدون مني الدخول، كانت كعروس مُمدّدة على فراشها وغطاء رأسها الأبيض كأنَّه يبكيها... هي التي طالما أمسكتْ به وهي تَضعه على رأسها حين كانت تناديني من النافذة، ضحوتي أنتظرك فالقهوة ساخنة لكنها لم تفتح عيونها الخضراء لتراني.. أحسست بدمعتي ساخنة على خدّي. مسحتها وبدأت أعي أني في جنازة جدّتي وصوت القرآن يرتفع في البيت.. كأن هذه العاصفة تبكيها قبل ان أبكيها أنا وهي التي يقيت بقربي عشرين سنة إلاّ قليلاً... نافذتها قرب نافذتي تناديني: ضحوتي، فأُلبّي نداءها، ارتجفت يدي وأنا ألامس وجهها. كأنها تنام بعمق ولم أشعر بوجود أحد إلاّ حين نادوا ليرفعوها للمغسل، شعرت كما لو كنت سأساعدها على الاستحمام كعادتي وتذكّرت ما قالت لي: ثيابي في الخزانة أحضريها ضحوتي... أحضرتُ لها ما طلبت، طلبت من النسوة الحاضِرات مساعدتي كي أضع لها على رأسها غطاءها الجميل الذي صنعته بنفسها ليومها هذا... لم أشعر بثقل هذه الثواني إلاّ حين رُفعَت على الأكتاف، وقد لُفّت بشرشف أبيض كزهر اللوز المرمي على الأرض، شَعرتُ كأنَّ الكرة الأرضية تدور دورانها الشديد حول الشمس!.. حاولت أن أنظر أمامي فرأيت اللون الأبيض قد غطّى المكان ووجه أنثى وهي ترتدي مريولها الأبيض وتضع سماعاتها في رقبتها تقول لي: الحمد لله على السلامة، المهم أنت بخير، سألتها ماذا حدث؟ قالت: خير اضطررنا لإجراء عملية لإخراج الطفل، فقد مات نتيجة صدمة عصبية بقلم ضحى عبدالرؤوف المل وردة الضحى ............................