ارتسمت عناوين كبيرة لجولة صحفية عبر عدد من مناطق المغرب، كان مقررا في بادئ الأمر التوجه نحو مدينة الناظور، وعلى هذا الأساس انطلقت الرحلة لاستكشاف هموم ومشاكل المواطنين في إحدى الفترات الحرجة لفصل شتاء استثنائي بكل المقاييس، جل القرى والمدن بمناطق الريف والأطلس تنافس الأخريات في انخفاض درجة الحرارة، السكان محشورون في منازلهم بعضهم يستدفئ بالأخشاب المتبقية، وبعض آخر في القرى والمداشر يخرج للبحث عن الحطب في الغابات المحيطة في غفلة أو تحت انظار حراس المياه والغابات! الخطوط العريضة في هاته المناطق تتمحور حول النقل وبرودة الطقس، والأخشاب. علامات تشير إلى المعاناة اليومية للساكنة في ظل اوضاع تتداخل فيها قساوة الطبيعة بإهمال المسؤولين. درجة الحرارة تحت الصفر.. والثلوج خفت حركة الراجلين بمنطقة وادي الجديدة في الطريق نحو مدينة مكناس، يشير التيرموميتر الصغير إلى 6 درجات تحت الصفر، بعض المقاهي تفتح ابوابها مرغمة لاستقبال المارين عبر السيارات والشاحنات بالخصوص، ليكون محيط نيران «الشوايات» ملاذا للعديد من العابرين هناك، وان لم يكن الجوع قد أخذ منهم، فإن البرودة القاسية تدفعهم الى اللجوء هناك قصد انعاش اجسادهم التعبة من السفر ومن البرودة الفظيعة. وعلى طول الطريق التي تقود إلى جرسيف عبر مكناس وفاس وتازة، تتململ درجة الحرارة قليلا لتعود إلى الغوص مرة أخرى تحت الصفر، لتبلغ قرارا غائرا بعد تجاوز مدينة تازة باتجاه جرسيف أو الناضور عبر امسون ، ومزكيتام، وعين زهرة، أو عن طريق صاكا. تختلف تسميات القرى والمداشر، لكن الحرارة الدنيا وتساقطات ثلجية متفاوتة تبقى قاسما مشتركا بين جميع هاته المناطق، حيث من السهل في هاته الظروف أن تنقطع الطرق وتعزل مداشر و قرى بأكملها عن محيطها بسبب الثلوج التي رفعت شعار «غضب الطبيعة» على مجموعة من المناطق سواء في الريف أو في الأطلس الذي يشهد هاته السنة مقاييس استثنائية، حيث توقفت حركة المرور بالعديد من المحاور الطرقية، وقد أدت التساقطات الثلجية إلى قطع الطرق المؤدية إلى بولمان ، خاصة الطريقين اللتين تربطان بولمان بإفران، وبولمان بأوطاط الحاج عبر ألميس مرموشة. وكذلك من بولمان الى سكورة، وآيت مخلوف بتالزمت عبر إيموزار مرموشة، والطريق نحو انجيل إختارن، ونحو آيت بازا واسبوتن. نفس الشيء ما بين صفرو وميدلت عبر بولمان، وما بين ميسور وانجيل، مع ما ينجم عن ذلك من انقطاعات متكررة في التيار الكهربائي، لاهترائه من جهة، ولقوة الرياح والتساقطات الثلجية من جهة اخرى. تلون الثلوج جنبات الطريق بين مدينتي افران وازرو، لتغدو الطبيعة لا تتكلم سوى لغة البياض، وفي طريق جانبية تشير لافتة حديدية الى قرية بن صميم، وقفت جرافة ثلج صفراء عند الملتقى يبدو أنها تستريح من عناء مهمة شاقة ومتواصلة لفتح الطرقات وإزاحة الثلوج عنها قصد فك العزلة عن المداشر والقرى وبين المدن، لكن عاملا كان يقف قربها متأملا أو حارسا أكد أنها معطلة ورابضة في نفس المكان منذ أربعة أيام! ترتمي الطريق المؤدية إلى قرية بن صميم بين ركام الثلوج ابتداء من منحدر بسيط تزداد شدته شيئا فشيئا حتى يخيل اليك أنك حجر يتدحرج إلى قعر وادي الثلوج الساكن من حركة البشر، وليس من صوت العصافير، وحفيف الشجر. بن صميم هبة الماء والخشب تحكي ذاكرة سكان قرية بن صميم عن أحد الأولياء أو المجاذيب، قدم الى القرية وجلس أمام المسجد لمدة أربعة أيام دون أن يطعمه أحد ، ليجمع السكان أمام باب المسجد بعد انقضاء صلاة الجمعة، ويعاتبهم ثم يدعو لهم بقوله :«اعطيتكم دعوة. ما تعيشو نتوما غير من الما والعواد والرزق عل لجواد...». يبدو أن دعاء الرجل الأسطوري حصر معيشة سكان قرية بن صميم في هاتين المادتين الحيويتين، حيث تحيط بالمنطقة غابات وأحراش، وتنبع في مرتفع مطل عليها عين طبيعية معدنية بعثت الحياة في البشر والشجر، حيث يعتمد عليها المزارعون في فلاحتهم السقوية. لكن معظم المتحدثين لبعثة الجريدة أشاروا إلى أن العين عرفت نقصا نسبيا في كمية الماء المتدفق، حيث نقصت الأراضي السقوية وتحولت إلى بورية تعتمد على التساقطات المطرية. بينما جرى الاتفاق على تقسيم الأراضي السقوية إلى شطرين يستفيد كل واحد منهما من مياه العين للسقي مدة سنة أو سنتين، ثم التخلي لنفس الفترة المقبلة عن هاته المياه لصالح الشطر الآخر. لكن بعد حصول أحد الأجانب منذ 2001 على كل التراخيص الضرورية لتشييد مصنع بالمنطقة لتعبئة ماء العين الموجودة هناك في قارورات مخصصة للبيع في المغرب كله، فقد نظم سكان قرية بنصميم مؤازرين بجمعيات حقوقية ومهتمين، عدة مسيرات احتجاجية من وإلى القرية والعين الطبيعية التي بلغت شهرتها داخل المغرب وخارجه، وذلك قصد الدفاع عنها ضد قرار تفويتها إلى تلك الشركة الأجنبية، حيث تم اعتقال عدد من المتظاهرين. أما الأخشاب بالغابات المحيطة، وحسب توضيحات عدد من السكان ، فلا يستفيد منها أهل القرية إلا خلسة أو في غفلة من حراس المياه والغابات بينما يقطع بعض المسؤولين أطنانا منها علانية ودون حسيب ولا رقيب، ونقلها إلى وجهات مختلفة. لتبقى استفادة السكان هناك مبنية بشكل كبير على رعي الأغنام والماعز، حيث يتوفر، حسب بعض الإحصائيات، حوالي 5000 رأس مجملها من الأغنام التي تنتمي لفصيلة «حم» ذات الوجوه البنية المعروفة في مناطق الأطلس والريف. وفي طريقك إلى القرية التي ينتشر فيها الفقر بصورة مهولة، حيث أكد عدد من السكان أن الكثيرين وفي غمرة هاته الظروف الطبيعية القاسية يصعب عليهم تدبر معيشتهم اليومية، إذ يضطر البعض إلى تأخير الاستيقاظ من النوم ما أمكن كي لا يتناول الفطور، ويترك زاده إلى وجبة الغداء، كما أشار الحسين أحد السكان هناك، الذي أضاف :« من تناول وجبة الغداء قد يوفر حصة العشاء إلى اليوم الموالي، لا نعرف ما قد يحدث في هاته الفترة، قد تنقطع الطريق ونحاصر هنا أياما عديدة...» الخشب أولى من الخبز يفضل معظم سكان هذه المناطق الاعتماد على الخشب في التدفئة، باعتبار أن القرى والمداشر مازالت تعيش ضعفا في القدرة الشرائية، مما يجعل الساكنة احيانا تلجأ الى جمع الحطب بأيديها، وبالتالي توفير ما يمكن صرفه في شراء أي وسيلة للتدفئة بما فيها الخشب نفسه. وقد علمنا من خلال جولتنا بعدد من المناطق أن هاته الفترة تعرف ارتفاعا مهولا ومتباينا في أثمنة الخشب الذي يعتبر العملة النادرة والمطلوبة بقوة داخل معظم البيوت، حيث وصل ثمن الطن من الخشب في مدينة إفران التي تشهد تساقطات ثلجية كبيرة إلى1200 درهم، أما إموزار فلم يتجاوز ثمن الطن فيها 800 درهم، باعتبار قربها من الغابات، في حين لا يتجاوز في قرى أخرى بعيدة نسبيا عن المدن 350 درهما، حيث يجمع الطن من خشب التدفئة على دفعات 10 أو 11 من حمولات الحمار الواحد الذي يعتبر المكيال المتعارف عليه في أغلب القرى والمداشر بتلك المناطق، إذ تقدر حمولته التقريبية ب100 كلوغرام. ويشتغل أطفال بعض المناطق في الغابة من خلال جلب الحطب، حيث أصبح مألوفا منظر الاطفال وهم يسوقون أمامهم دواب محملة بالأخشاب، الكل يصارع من أجل الحياة. وتؤثر الثلوج المتساقطة على طريقة الحياة اليومية لسكان مناطق الاطلس، إذ تتوقف وتيرة الحياة اليومية بتوقف الفلاحين، مضطرين، عن الحرث ومباشرة اعمالهم الزراعية إلى حين ذوبان الثلوج. قال محماد الذي يعتمد على أجرته اليومية في الفلاحة عند اصحاب الاراضي «حاليا أحاول أن أتدبر معيشة أطفالي الصغار بأي طريقة لأن الثلوج لم تترك مجالا للفلاحين لاستغلال أراضيهم .. وهو ما يفرز ارتفاع عدد الحطابة بالمناطق القروية، حيث ترتفع قيمة الحطب كثيرا ليصبح العملة الوحيدة القادرة على فك العزلة وتدبير المعيشة». بالمقابل شهد تعامل حراس المياه والغابات مع السكان المجاورين شيئا من المرونة ،تطبعه مصالح مشتركة ، إذ يتساهل معظم الحراس مع المضبوطين من الحطابة لتكون الحلول إما بتركهم يمضون في حال سبيلهم أو تهديدهم بتقديمهم الى المحكمة، أو ب«حلول» أخرى. أحد الحطابة قال مبتسما: «ذهبت الى الغابة بثلاث بهائم لجلب الحطب. وقبل أن أنتهي ضبطني حارس الغابة. وحين عرفني أمرني بجلب 50 درهما يوم السوق الاسبوعي، وتركني انصرف. وفعلا قابلته وأعطيته المطلوب. فنبهني الى عدم قطع الاغصان الخضراء، والاكتفاء بالاخشاب اليابسة ، وإلا فالعقوبة ستكون في تلك الحالة التقديم إلى المحكمة، وغرامة 4000 درهم.» الحديث عن الاخشاب الخضراء يجر الى خطورة الوضع بعدد من المناطق التي تنتشر فيها الغابات خاصة بالاطلس المتوسط، حيث يضطر الحطابة أمام الطلب المتزايد على الاخشاب الى قطع أغصان مازالت تدب فيها الحياة، ومازالت قادرة على النمو، وهو ما يشكل خطورة على استمرارية الغابات. وقد اكد عدد من سكان القرى والمداشر المجاورة ان الأغصان الخضراء التي يقطعها الحطابة لاتضاهي ما يقوم به بعض المسؤولين، حيث يعمدون الى إبادة اشجار بكاملها وقطعها بالمناشير الكهربائية من الجذور، وهذا ما يسمى إبادة حقيقية. وارتباطا بنفس الموضوع، تشهد الطريق الى مدينة تازة، ولعدة كيلومترات، تقطيعا مخيفا لكل الاشجار على جانبي الطريق، حيث لم يكتف المسؤولون بتشذيب الأشجار، بل وصل الامر حد تعريتها ، حتى يبقى الجذع وحده واقفا وكأنه عمود مغروس في الارض، إذ تقدر حمولة الاخشاب المقطوعة هناك بمئات الاطنان. واشار بعض المواطنين إلى أن بعض المسؤولين يستفيدون من هذه العملية وحدهم، بيعا وتدفئة. وبين هذه الظروف القاسية والمستعصية على كل وصف، واخرى ذات إكراهات متباينة، تبقى الاخشاب هي العملة الصعبة والنادرة في هاته المناطق، حيث يمكن للسكان الاستغناء عن الخبز مقابل أعواد التدفئة. مزكيتام .. ثورة اليأس والعطش شكلت قرية مزكيتام المتواجدة بين مدينتي تازةوجرسيف عبر طريق الناضور، مفاجأة جولتنا إلى تلك المناطق، حيث تأكدت الجريدة من أن جميع المرافق مشلولة هناك ، فلا وجود للدرك رغم أن بنايتهم قائمة، نفس الشيء بالنسبة لرجال الإطفاء، أما السلطات المحلية فهي غائبة دوما، حسب سكان المنطقة. وتغيب الصحة والتعليم والطرقات، ليخلص بعض المواطنين هناك إلى أنهم لا يتوفرون إلا على أنفسهم التي يحاولون جاهدا الحفاظ عليها من الضياع في ظل الظروف الطبيعية القاسية، وفي ظل التهميش القائم هناك. الطريق المؤدية إلى هناك مقطعة الأوصال من ثلاثة محاور سواء من طريق أمسون القادمة من تازة، أو من طريق عين زهرة القادمة من الناضور، أو عبر الطريق القادمة إلى القرية من جرسيف. وأكد أهالي مزكيتام المحاصرة بأن القوافل الطبية لم تصل إلى هناك، باستثناء قافلة ألمانية لم تستوعب المرضى القادمين إليها للعلاج، بل اكتفت بفحص أعيان المنطقة دون فقرائها!. ومن جهة أخرى ثبت أن مزكيتام لم تدخل يوما في خارطة الأضواء المسلطة تلفزيونيا أو إذاعيا، أو صحافة كتابية. ليرفعوا رؤوسهم بإصرار الملح بأن مشكلتهم تنحصر في شيئين فقط: إصلاح الطرق، وتزويدهم بالماء الصالح للشرب. امتدت الرحلة عبر مجموعة من مدن وقرى الريف والأطلس المتوسط، لكن المعاناة واحدة لدى السكان في كل فترة شتاء من كل سنة. ومن جهة أخرى ثبت أحد الأسرار التي جعلت المغرب يفشل في رهانه على عشرة ملايين سائح سنة 2010، لأنه ببساطة لا يتوفر على بنية تحتية خاصة الطرق الرئيسية منها أو الثانوية، إضافة إلى افتقار بعض المؤسسات للخدمات والتسهيلات، وغيرها مما يشجع المواطنين أولا على السياحة الداخلية، قبل أن ننتظر تطور السياحة الأجنبية بهذا البلد الغني بمناظره الطبيعية، والمخجل بمشاكله البشرية وبنيته التحتية.