بعد مجموعته الشعرية الأولى " أحتمل الوجود " الصادرة في سنة 2008، والحائزة على جائزة بيت الشعر في المغرب، يعود الشاعر المغربي "محمد أنوار محمد" بإصدار جديد، لكن هذه المرة مطلاًّ من نافذة السّرد عبر كتاب قصصيّ اختار له عنوان "مدينة في الشهر التّاسع" )منشورات دار الأمان بالرباط، 2012(. الكتاب عبارة عن مجموعة من القصص تتوزع بين قسمين رئيسيين: الأول يحتوي عشر قصص قصيرة، فيما الثاني يضم ستّاً وثلاثين قصة قصيرة جدّاً. وقصة "مدينة في الشهر التّاسع"، التي جاء منها عنوان الكتاب، هي الثانية في ترتيب القصص القصيرة، لكنها تصلح أن تكون مدخلاً أوّلياً لقراءة بعض من قصص هذا القسم. إنها قصة تختزل العديد من التيمات والأفكار والأجواء التي تسود المجموعة. وهي القصة الوحيدة التي حظيت من الكاتب بإضاءة على الهامش تفصح بأنها كُتبت قبل أشهر قليلة من التطورات السياسية المرتبطة بالربيع العربي، أي قبل الثورة التونسية وما تلاها من زلازل وأحدات عنيفة وحرائق لا تزال مشتعلة إلى اليوم. وهذه إشارة هامّة جداً، ليس فقط لكونها تسمح بإعادة القراءة على ضوء ما يجري اليوم في بعض المدن العربية، ولكن لأنها تكشف عن وعي عميق بإشكالات الحراك الإنساني من أجل الحرية وما يتطلّبه من شروط ليتحقّق وينجح في الواقع. إنها قصة في صميم الراهن السياسيّ بامتياز. تهجس بما يعتمل وما قد يحصل في أيّ وقت وفي أيّ مدينة من مدننا العربية. وهي صورة رمزية لما يكون عليه حال هذه المدينة إذا استعصى المخاض ونفذ صبر الذين ينتظرون المولود الجديد. والكاتب هنا لا يتأخّر كثيراً في إعلان خيبة الأمل، إذ نقرأ منذ السطور الأولى: " توقّعتُ أن يكون الجنين فجراً جديداً وجميلاً". لكن مع توالي السرد وتطوّر الحبكة نكتشف أن هذا الحمل كان كاذباً، ومجرد خدعة من المدينة نفسها، لأنها "بعد كل أزمة تجتهد في تجميل صورتها حتى تبدو ممكنة، فيعود الجميع إلى حياته اليومية، مأخوذا بنظرتها المتفائلة". هي إذن مدينة وإن بدت في شهرها التّاسع لا تحمل في أحشائها غير الوهم، ولا تعد بأي تحوّل أو تغيير، ولن تلد أيّ شيء في الواقع: لا فكرة، ولا قيمة، ولا أيّ قفزة إلى الأمام. وهذا نتيجة لخداع أهلها لأنفسهم بسبب الخوف. كما أنّها، في نهاية القصة، "مدينة خوف كباقي المدن في "الهنا"، ولا يمكن للحرية أن تتكون في غابة خوف". هذا الوهم، أو الخداع المزدوج والمتعدّد، نجده أيضاً في أكثر من نص من نصوص الكتاب. مثلا في قصة " بيضة الطائر زو"، وهي من أجمل قصص المجموعة التي تُذكّرنا بقصص الكاتب الإيطالي "إيتالو كالفينو"، نقرأ حكاية شخص يجد ما يشبه بيضة في محجر قريب، ويعرضها على سكان القرية الذين يجهلون اسم الطائر الذي وضعها. فيصادف أن يمرّ عابر سبيل ليحسم الجدل في طبيعتها، لكنه لا يجرؤ على مصارحة الجميع بالحقيقة، وهي أن هذه البيضة ليست في الواقع سوى حجر بيضاويّ مرقّط. لهذا سيعلن بهدوء: "أيّها الناس، لقد عرفتها، إنها بيضة الطائر "زو"، ليبقى الجدل مستمراً بين سكان القرية والسؤال معلّقاً حتى اليوم حول علّة البيضة، وماهية الطائر "زو". إنه سؤال المعرفة الأبدي الذي يتحدّى سؤال الوجود ذاته، لأن الحقيقة تكمن غالباً في ما وراء الظّاهر، والظّاهر لا يكون غالباً إلاّ مصدراً للوهم، ولذلك قال باشلار: "لا علم إلاّ بما هو خفيّ". وهذا ما يؤكده عابر السبيل في القصة حين يقول: "المسألة أن غالبية البشر تتوقّف عند الظاهر، ولا تتجرّأ على الباطن"، قبل أن يستطرد فيما يشبه الحسم في العمق: " لنكتشف الحقيقة المخبوءة داخلها ". من السياسة إلى الفلسفة، مروراً بمواضيع أخرى تكشف عنها صراحة عناوين بعض القصص مثل" حكاية المرأة 1"، "حكاية المرأة 2"، "ثقافة"، "في مدشر الشعراء"، "الجزيرة"، وهي قصص يحاول فيها الكاتب أن يقدّم تصوراته حول موقف بعض فئات المجتمع من وضع المرأة (المرأة هي الوردة التي لا معنى للوجود من دونها)، وحول دور المثقفين والشعراء على الخصوص في الدفاع عن القيم الإنسانية الأصيلة، مقدّماً النصيحة لهؤلاء : "فيما حاجتكم إلى الظلال؟ فيما حاجتكم إلى الأشجار؟ منكم تحتاج الشمس إلى ظلال لتحتمي من لفحاتكم. تعلّموا أن تكونوا شعراء". أما قصة " الجزيرة"، وهو اسم شخصية فريدة من نوعها، يعرف الجميع ويعرفه الجميع ولا يجاريه أحد في معرفة كل صغيرة وكبيرة من أخبار الحي والمدينة والعالم، إلا أنه لا يعلم )أو يتظاهر أنه لا يعلم( ما يقع في بيته، فهي قصة عن خطورة انفصام وازدواجية من يدّعي احتكار الخبر، سواء كان فرداً أو "مؤسسة"، في عصر المعلومات المتسارعة والمكشوفة والمتدفّقة من كل حدب وصوب. أيضاً هناك قصة "إني رأيتُ أحد عشر كوكباً"، وهي توظيف ذكيّ وجديد للتّناص مع قصة يوسف المعروفة في القرآن، تحكي في أربعة مشاهد عن أستاذ اسمه يوسف يتعرض للاعتقال والمساءلة من طرف جهاز الأمن القيمي في القرية بسبب نص أدبي امتحن فيه تلاميذ القسم، وهو نص يروي قصة طفل اسمه يوسف أيضاً يدّعي أنه رأى أحد عشر كوكباً كما هو مذكور بالحرف في المتن الدّيني. وقد نجح الكاتب إلى حد بعيد في حواره مع هذا الأخير، خصوصاً باشتغاله على دلالة "الذئب" الذي سيتحول إلى ذئاب في القصة، كناية عن ذوي السلطة من أهل القرية. من اللاّفت في هذه القصص، وحتى في القصص القصيرة جداً، حضور فضاء "القرية" في أكثر من نص وبتسميات متعددة )القرية، البلدة، المدشر(. هو بالتأكيد فضاء الذاكرة، في مقابل فضاء الحاضر )المدينة(. وهو أيضا فضاء الطفولة الذي يجد فيه الكاتب مجالاً أرحب لاستبطان الذات وتقليب أرشيفها، لأنه يقف الآن على مسافة آمنة من الذكرى، ولأن الزمن كلما امتدّ إلى الأمام صار بالإمكان سبر خبايا ما ينفلت منه ويسقط في تلك العلبة السوداء المدهشة: الذاكرة. عند الانتهاء من قراءة القسم الثاني، الذي يضمّ قصصاً قصيرة جدّاً، يقف المرء حائراً في الواقع أمام التجنيس الذي اختاره الكاتب لهذه النصوص. ومبعث هذه الحيرة أن بعض النصوص تستحقّ أن تُقرأ مثل قصائد نثر قصيرة بالغة النضج، باستقلال تام عن باقي النصوص التي يغلب عليها الطابع "القصصي". أفكر هنا في نصوص مثل: "محاضرات"، "مصير أبيض"، "إرادة خيّرة"، "فوق حلَمة اليسار"، "المعنى"، "بالوعة"، "ولادة". أهو طغيان غير مقصود للشعريّة على حساب السرد، أم فقط انزياح لغوي لتكثيف اللحظة والقبض على الفكرة بكلمات متقشّفة، لكنها ذات حمولة شعرية عالية؟ لن أدخل في النقاش الطويل والسّجال النقدي الذي صاحب ولادة القصة القصيرة جداً كجنس أدبي مستقلّ، وتقاطعه في أكثر من جانب مع قصيدة النثر. لكنني أفضّل، كقارئ في المقام الأول، أن أتوقف قليلاً عند بعض النصوص التي تنسجم، في نظري، مع مفهوم القصة القصيرة جداً، كما هو متعارف عليه لدى الجميع. تتنوع مواضيع هذه القصص بتنوّع زوايا نظر السارد، وتأرجح ضمائره بين المتكلم والغائب. ويمكن فرز بعض المواضيع من عتباتها الظاهرة، مثل: "بارانويا"، "مجرد تمرين في السرد"، فكرة بيروقريطية"، "قدر"، "تردد"، "جبن"، "ولادة"، "صياد". غير أن قصصاً أخرى تتطلب جهداً أكبر في التأويل للقبض على معانيها العميقة. مثلا، تحكي قصة "حين انتبه إلى جثثه التي لا تحصى" فيما يشبه الحلم عن شخص يسقط في كل مرة "كتفاحة شاحبة في حفرة مفردة"، وهناك ينتبه إلى جثثه التي لا تحصى، التي هي أدلة فقط على وجود سابق لكنه متجدّد في كل مرة، لأن فعل الموت في ذاته هو فعل حياة أيضاً. حياة تبدأ حين تنتهي في دورة لانهائية، هي دورة الحلم الذي يستحيل الخروج منه. في هذه القصة نجد توظيفاً مدهشاً لفكرة "العَود الأبدي"، الذي هو خير تعبير عن خلود الحياة، وخلود كل لحظة من لحظاتها. فهو قمّة الإيجاب في نظرتنا للحياة. والقاعدة الأساسية التي يتبعها من يؤمن بالعود الأبدي هي، حسب نيتشه، " عش بحيث ترغب في الحياة ثانية"، وهي الرسالة التي يحاول الكاتب إيصالها للقارئ من خلال القصة. في قصة "إكن يان"، يلعب الكاتب على المعنى المزدوج لهذا التعبير )"إكن يان" بالأمازيغية تعني "أحد ما ينام" أو "التوأم"(. من جهة، يتأكد بطل القصة من صعوبة اكتشاف حقيقة الأشياء رغم وضوح الرؤيا، لهذا يخلد للنوم ويلجأ في الحلم إلى مرآة كبيرة لتعكس العالم وتكشف هذا الوضوح "منعكسا" أو "مضاعفا"، مثلما يرى التّوأم وجودهما المضاعف في بعضهما البعض. ومن جهة أخرى، هذا الوجود المضاعف هو حقيقة الكائن في النهاية، لأنه مسكون بأكثر من ذات، ولذلك يقول البطل بثقة، عندما سيفتح عينيه في المرآة: "أخيرا ستعرف نفسك". وفي قصة " فراشة"، تحطّ فراشة على رأس امرأة نائمة بداخل حافلة تسير بسرعة مفرطة، فتقع حادثة سير ينجو منها جميع الركاب إلاّ تلك المرأة، وتنجو أيضا الفراشة. إنها قصة عن النجاة، وعن عبثية الوجود الإنساني. قصة عن وحدة الوجود رغم اختلاف مصائر الكائنات، لأن روح الفراشة هي نفسها روح المرأة التي ماتت. وهي أيضا قصة عن نسبية النجاة، لأن من ينجو لا ينجو تماماً، ومن يموت لا يموت تماماً، وثمّة دائماً شيء ينفلت من الموت، رغم قطعيته الحاسمة، ليبقى محلّقاً في نفوس الناجين. النجاة تشبه هنا موتا مزيّفاً أو مفارقاً، لكنه حاضر بالداخل مثل فراشة "ترفرف بعيداً في الغابة الرائعة". أختم بقصة " قميص الفرح"، التي أرى فيها قصة نجاة من نوع آخر. نجاة من اليأس والفشل، وهي في الغالب قصة من صميم التجربة الذاتية للكاتب. إنها حكاية حلم سينقذ صاحبه، أترك للقارئ أن يتذوّقها على هواه: "... رأيتني، ذات ليل، أعبر نهراً بكتب ثقيلة. لم أنتحر، ورجعتُ. وجدت قميصاً في قصيدة كتبتها ذات يوم ربيعي. لبسته، وابتسمت. كان الفشل يحاصرني واليأس يحوم حول رأسي، وإذا قميص مرح يمنحني حياة، وأملاً. بعدئذ قررت أن أجتاز الدورة الثانية من السنة الأولى في كلية الحقوق. نجحت بصعوبة، ولكني عبرت النهر بكل تلك الكتب الثقيلة." إجمالاً، يمكن القول أن محمد أنوار قد نجح في أوّل تجربة قصصية له، ليس فقط من خلال تعدّد زوايا النظر التي اختارها لمقاربة مواضيع مختلفة ومتنوعة، مع حضور لافت للسؤال الوجودي والفلسفي، تمنحنا متعة قراءةٍ منفتحة على أكثر من مستوى واحتمال. ولكن أيضاً نجح من الناحية الفنية، بانحيازه للّغة القصصية الجميلة، من دون أن يسقط في إغواء الشعر، بشكل مفرط، رغم تمرّسه به وإبداعه فيه لسنوات طويلة. لقد جرّب في هذا الكتاب تقنيات سردية مختلفة، تكشف عن قدرة على الوصف الدقيق والمدهش، وتنويع الإيقاعات حسب السياق، وإدراج الحوار المناسب في الموضع المناسب، والذي غالباً ما يكون حواراً مقتضباً وذكيّاً، يطرح أسئلة عميقة ذات نفس صوفيّ وفلسفي شفّاف وصريح.