ما يزال اسم أبي القاسم الشابي، فرقدا متألقا في سماء الشعر العربي، لم تُبل الأيام جدته أو تكسف وقدته. والشابي من المبدعين المغاربيين القلائل الذين احتفى بهم الشرق و اعترف بمواهبهم ونبوغهم. بل يكاد يكون نسيج وحده، ضمن كل المبدعين المغاربيين، في هذه الحظوة الأدبية الاعتبارية التي حظي بها لدى الإخوة المشارقة، منذ أن كان حيا يرزق إلى الآن، بعد أن أمسى أثرا أدبيا بعد عين. كما حظي، على مستوى القراءة و التلقي، بعدد عديد من الدراسات و المقاربات، لعدد عديد من الدارسين والباحثين من مشرق و مغرب(1)، ربما لم يضاهه في ذلك، سوى أمير الشعراء أحمد شوقي. و هذا دليل على نبوغ الشابي الذي بوأه هذه المكانة المرموقة، علما بأن الشابي عاش حياة قصيرة (25 سنة) (1909 – 1934)، ومر من هذه الدنيا كالبرق الخُلب، فلم يمهله القدر ليستفرغ كنوز مواهبه الإبداعية، و لم يخلف من الأعمال السائرة سوى ديوانه البكر (أغاني الحياة)، وكتابه النظري و النقدي الجريء (الخيال الشعري عند العرب). لكن هذا النزر اليسير من الإنتاج كان كفيلا بأن ينقش اسم الشابي في ذاكرة الزمان، وأن يجعل الإسم مطابقا للمسمى، أي يجعل الشابي على مرّ الزمان، "شابا" إبداعيا متجدّد الشباب و الإهاب. و هذا دليل أيضا، على أن الإبداع الحق، لا يقاس ويراز بكمّه و حجمه بل بكيفه و أصالته. و الشعر بخاصة، كما قال شاعرنا القديم، لمّح تكفي إشارته، وليس بالهذر طوّلت خطبه. ووراء النبوغ المبكر للشابي، بلا شك، ظروف و عوامل سوسيوثقافية، إضافة إلى العوامل السيكولوجية الخاصة. والمرء أشبه ما يكون بزمانه و مكانه. فقد نشأ و تكون في كنف والد أزهري يشتغل في القضاء، وعايش إلى ذلك، فترة أدبية - عربية نهضوية بامتياز ، تنغل بالحراك الأدبي، في شكل مدارس وتيارات متدافعة على غرار ما كان يحصل في الغرب و نسجا عليه، مدرسة الإحياء في البداية، ثم مدرسة الديوان، ومدرسة أبولو التي انتسب إليها الشابي وأكرمت وفادته، إضافة إلى الرابطة القلمية بأمريكا الشمالية، و العصبة الأندلسية بأمريكا الجنوبية. كل ذلك شكل الفضاء الثقافي - البانورامي الذي تفتحت فيه مدارك و مواهب الشابي، و الموارد الثرة التي نهل منها و اغتذى. دون أن ننسى دراسته في جامعة الزيتونة العريقة و تخرجه منها بشهادة "التطويع"، كبرى شهاداتها. كل ذلك، شكل المراجع أو النصوص الغائبة للشابي، لهذا ليس بدعا، أن ينبغ الفتى و هو في شرخ شبابه. وإذا أضفنا إلى ذلك، رهافة أحاسيس الشابي ورقة حاشيته، و اصطلاءه بنار الاستعمار الفرنسي، والظروف النفسية و الصحية العصيبة التي مر بها (الموت المبكر لحبيبته، و الموت المبكر لوالده، و إصابته المبكرة بانتفاخ القلب الذي أودى بحياته)، إذا أضفنا هذا إلى ذلك، قلنا أيضا و عطفا، ليس بدعا أن تكون "الرومانسية" هي القدر الأدبي و الوجودي للشابي. وهي الوتر الساخن الذي سيعزف عليه أشجى أغانيه و أشجانه، و البصمة الأدبية التي ستظل عالقة باسمه، كأحد مشاهير الرومانسيين العرب. لكن رومانسية الشابي، ليست رومانسية رخوة أو هروبية متقوقعة على ذاتها، كما هو مألوف و معروف في الأفهام عن الرومانسية، بل هي رومانسية أبية و جلدة متحدية لنوائب الدهر وصروفه. يقول في قصيدة (نشيد الجبار)، والعنوان مفتاح النص: "الكامل": "سأعيش رغم الداء و الأعداء كالنّسر فوق القمة الشماء أرنو إلى الشمس المضيئة هازئا بالسحب، والأمطار، والأنواء لا أرمق الظل الكئيب، و لا أرى ما في قرار الهوّة السوداء وأسير في دنيا المشاعر، حالما غردا، و تلك سعادة الشعراء أصغي لموسيقى الحياة، ووحيها و أذيب روح الكون في إنشائي" (2) إنها رومانسية أقنومية و هادفة، تغوص في عوالم ذاتها و معاناتها، كما تغوص في حمأة واقعها ومجتمعها، منتقدة ومحرّضة. من هنا جاء عنوان هذه المداخلة: (أبو القاسم الشابّي – رومانسية في واقعية، و غناء في هجاء). و النص، وفق النقد الجديد، هو الذي يستدعي شكل قراءته و نمط تلقّيه. وبين يدي، طبعة حديثة من ديوان الشابّي صادرة في1995 عن دار الكتب العلمية في بيروت من تقديم و شرح الأستاذ أحمد حسن نسج. وهي طبعة مزيدة عن الطبعة الأولى و الطبعات اللاّحقة، يقول الأستاذ نسيج في المقدمة: "فأضقت إليه بعض القصائد و المقطوعات التي كان الشابّي نفسه قد استبعدها،عندما أعدّ ديوانه للطبع قبل وفاته، فضلا عما كان زاده عليه محمد الأمين الشابّي، عندما نشر الديوان، لأول مرة سنة 1954م" (3). يشمل هذا الديوان على مائة و خمس قصيدة (105)، ويمكن اجتلاء رومانسية الشابّي و شجونه وشؤونه الشعرية، لأول وهلة، من خلال عناوين قصائده. وهذه أمثلة منها: أيها الحب- نشيد الأسى – في سكون الليل – الكآبة المجهولة – السآمة – قبضة من ضباب – أيها الليل – إلى قلبي التائه – دموع الألم – أغنية الأحزان – صلوات في هيكل الحب – الجمال المنشود – أحلام شاعر – أيتها الحالمة بين العواصف – النجوى – شجون – الأشواق التائهة – زئير العاصفة...إلخ. كما يمكن اجتلاء افتتان الشابّي بالشعر و عشقه له وتفانيه فيه، من خلال القصائد العديدة التي تغنى فيها بالشعر وصلّى في محرابه، وهذه أمثلة على ذلك : يا شعر – قلب الشاعر – قلت للشعر – أحلام شاعر – شعري – ليت شعري – أغنية الشاعر. إن الشعر بالنسبة للشابي هو إكسير روحه و مناط وجوده ونافذة إغاثته. وإذا كان الكوجيتو الفلسفي الديكارتي يقول: - أنا أشك، إذن أنا أفكر، إذن أنا موجود. فإن الكوجيتو الشعري عند الشابّي يقول: - أنا أتألم، إذن أنا أشعر، إذن أنا موجود. يكشف لنا الشابي عن طبيعة رومانسيته وعوالمها الأثرية، في أكثر من موضع في ديوانه. لنقرأ على سبيل المثال، الأبيات التالية من قصيدة (قلت للشعر)، "الخفيف": "أنت يا شعر ، فلذة من فؤادي تتغنّي ، وقطعة من وجودي فيك ما في جوانحي من حنين أبديّ إلى صميم الوجود فيك ما في خواطري من بكاء فيك ما في عواطفي من نشيد فيك ما في مشاعري من وجوم لا يغني، و من سرور عهيد فيك ما في عوالمي من ظلام سرمديّ، و من صباح وليد..." (4) هي مفارقات الرومانسية تجمع بين الأضداد، تماما كما يجمع هذا الوجود نفسه، الذي يحن الشابي إلى صميمه، بين الأضداد في جدل سرمدي لا ينتهي. ولا تخفى هنا ظاهرة التكرار اللفظي، كلازمة أسلوبية غالبة على شعره،leit motif . يقارب الشابي في ديوانه البكر، أهم الشجون و التّيمات الرومانسية التي دأب الرومانسيون شرقا و غربا، على مقاربتها و الطواف حولها، كما يطوف الفراش الولهان حول لهبة الضوء، كتيمة الحب و المرأة، و تيمة الطبيعة، وتيمة الجمال، و تيمة الطفولة، و تيمة الموت، و تيمة الحزن و الغرابة، وتتميز رومانسية الشابي بتيمة واقعية و اجتماعية مضافة، وهي تيمة الشعب الذي يعاني من نير الإستعمار و نير التخلف. كل ذلك، في إطار من المثالية – الأثرية، أو المثالية – الترانسندتالية المتعالية عن الأراضي إلى اليوتوبي. لنستمع إلى هذه التراتيل الأثرية في هيكل الحب، و هو يخاطب حبيبته، في قصيدته المشهورة (صلوات في هيكل الحب): "الخفيف" أنت، أنت الحياة في قدسها السامي و في سحرها الشجي الفريد، أنت، أنت الحياة في الرقة الفجر في رونق الربيع الوليد أنت، أنت الحياة كل أوان في رواء من الشباب، جديد أنت، أنت الحياة فيك و في عينيك آيات سحرها الممدود أنت دنيا من الأناشيد و الأحلام و السحر و الخيال المديد أنت فوق الخيال، و الشعر، و الفن و فوق النهى و فوق الحدود أنت قدسي، و معبدي، و صباحي، و ربيعي و نشوتي، و خلودي.(5) و لا تخفى مرة أخرى، ظاهرة التكرار اللفظي، كلازمة أسلوبية في شعر الشابي. و هي ظاهرة كثيرا ما تشوب صفو شعره. و الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، كما يقول المناطقة. و الظاهرة على كل، جزء حميم من رومانسية الشابي، و نفث صوتي من وجدانه. لكن رومانسية الشابي، كما أسلفنا، مقترنة و ملتحمة بالواقعية. كما أن غناءه مقترن و ملتحم بهجائه. هي رومانسية مضروبة في الواقعية. و هو غناء مضروب في الهجاء. و من هنا ثورته مع الشعب و ثورته للشعب و ثورته على الشعب. و من هنا أيضا، نجد كثيرا من دارسيه يجمعون في دراستهم حوله، و في قرن واحد، بين رومانسية الشابي و ثورته. و أستحضر هنا، على سبيل المثال، اسمين بارزين من هؤلاء الدارسين، و هما الباحث التونسي المعروف " أبو القاسم محمد كرو " في كتابه (كفاح الشابي)، و الباحث - الناقد المصري المعروف "رجاء النقاش" في كتابه (أبو القاسم الشابي شاعر الحب و الثورة). كما أستحضر و أذكر هنا، بأن المعتقلين السياسيين العرب؛ و عبر خطوط الطول و العرض العربية، كانوا يرددون في زنازنهم و أقبيتهم مقاطع من القصيدة الخالدة (إرادة الحياة) : [المتقارب] [إذا الشعب يوما أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر ولابد لليل أن ينجلي ولابد للقيد أن ينكسر](6) في قصائده الإجتماعية و الوطنية القادحة شررا و المتأججة حمما، يجمع الشابي في حميا رومانسيته، بين تمجيد الشعب، و استنهاض همته و عزيمته، و هجائه و تقريعه. و حسبنا هنا، على سبيل الختم، الإنصات إلى نموذج من أهاجيه، من قصيدته (النبي المجهول) : [الخفيف]. [أيها الشعب ! ليتني كنت حطابا فأهوي على الجدوع بفأسي ليتني كنت كالسيول، إذا سالت تهد القبور، رمسا برمس ليتني كنت كالرياح، فأطوي كل ما يخنق الزهور بنحسي ليتني كنت كالشتاء، أغشي كل ما أدبل الخريف بقرسي ليت لي قوة العواصف، ياشعبي فألقي إليك ثروة نفسي أنت روح غبية، تكره النور وتقضي الدهور في ليل ملس] (7) يقول الشاعر الفرنسي إيلوار : [في كل قصيدة عظيمة، قصيدة ثانية هي اللغة]. و لا شك في أن شعرية الشابي ليست قائمة فحسب على رومانسيته الأصلية و أثيرية عالمه الشعري، بل هي قائمة أيضا و أساسا على لغته الشعرية و موسيقاه الشعرية. و لغة الشابي تجمع بين السلالة الرومانسية و الجزالة الكلاسيكية في آن واحد. لغة تمتح من معين تراثي ثر، لكنها أيضا مغموسة بماء الرومانسية الغربية، بما اطلع عليه وقرأه الشاعر من نماذج هذه الرومانسية، مترجمة إلى العربية. و بما جعل شعره، تبعا و في تلك الفترة المبكرة، يحقق المعادلة الصعبة بين الأصالة و المعاصرة. و إذا كان الشابي ملتزما بعمود الشعر في جماع شعره، فقد كان مجددا و "حداثيا" ضمن هذا العمود. وهذا ما قربه من مدرسة أبولو وصاحبها أحمد زكي أبي شادي الذي شام في هذا الفتى التونسي، مخايل النبوغ الشعري، حتى طلب منه أن يكتب له مقدمة لديوان (الينابيع). و خلافا لبعض الرومانسيين المتحررين من قيد الموسيقى العروضية، كان الشابي ولوعا بالإيقع الموسيقي، سواء على قيثارة الطبيعة أم قيثارة الفن. ولهذا التزم بالعروض وزنا و قافية، و عزف قصائده على مختلف أوتار و أوزان الشعر العربي، و منها على الخصوص : الكامل - الطويل - الخفيف - البسيط - السريع - الرمل - المجتث - المتقارب - المتدارك.. كما أدار قوافيه على مختلف الحروف العربية، بما يؤكد أصالة و ثراء موهبته الشعرية. لكن ثمة هنات و مآخذ شكلية و أسلوبية على رومانسيته، لعل الشواهد الأنفة التي سقناها ناضحة ببعضها. أوجز هذه الهنات و المآخذ في أربع ظواهر أسلوبية تتناوش قصائده و هي : - التكرار اللفظي. - الإفراط في استعمال أسلوب النداء. - الإفراط في استعمال صيغ العطف النسقي. - استعمال بعض الحروف و الروابط النحوية ذات النبرة النثرية. و هذا ما يشوب صفو الكثافة الشعرية، كما أسلفت، و ينزل بالنص الرومانسي من عليائه المجازي - التخيلي إلى ضفاف التقريرية و المباشرة و السيولة النثرية الموزونة و المقفاة. و لعلي هنا، أخالفُ رأيا سابقا للباحث التونسي الكبير أبي القاسم محمد كرو، يرى فيه أن (الشابي يمتاز بدقة بالغة في تعبيره، و براعة فائقة في تصويره) (8). صحيح أن الشابي كان يمتاز ببراعة فائقة في التصوير، أما دقة التعبير و كثافته و نحته و نخله، فهو ما كان يعوز شعره، إلى هذا الحد أو ذاك. لقد كان الشابي يشعر على السجية، و يكتب على السجية، نازعا عن قوس وجدانه و ذاته، حريصا على أن يكون شعره تدفقا تلقائيا لشعوره، حسب عبارة الرومانسي الإنجليزي وردزورث. و تلك نقطة قوة الشابي، و نقطة ضعفه أيضا، لأن الشعر أيضا، صناعة و حرفة، كما قال الأصمعي. و لا مشاحة في الأمر، فقد كانت التجربة الشعرية للشابي طريرة العود قصيرة العمر، لم يمهلها القدر حتى تبلغ أشدها و تقيم أودها. أجل، لقد مر الشابي من هذه الدنيا، كما قلت في مستهل هذه المداخلة، كالبرق الخلب، التمع فجأة ثم خبا فجأة، لكن تجربته الشعرية الرومانسية القصيرة و البهية و المفاجئة في بزوغها و أفولها، ستبقى على كر الجديدين، سراجا إبداعيا منيرا، لا يخبو له ألق و لا ينضب له زيت. و ما أحوجنا في هذا الزمن الموحش الذي تخشب فيه الإنسان و تسلع و تجبر، إلى بعض من رومانسية الشابي و طهرانية الشابي. على روحه أزكى السلام.