الاحتفالُ بِذكرَى الكُتّاب والشعراء تقليد ثقافي نبيل. مؤسسة الأدب ابتدعتْه لنفسها، ليس فقط لتعميق الوعي بالقيمة الإبداعية والفكرية، وإنما أيضا لتكريس ثقافة الاعتراف، ولإعادة إخضاع المُنجز الأدبي لِمجهر السؤال، في ضوء تجدد المعرفة الإنسانية، وتشعب أسئلة الكتابة في علاقتها بالذات واللغة والشكل والدلالة والجنس الأدبي. إن الاحتفال يتقاطع مع البحث، ليجعل الذكرى مناسبة لاستمرارية، قد لا تتناقض مع رصد القطائع والمنعطفات، في حالة كُتاب طبعوا عصورهم بميسم لا يزول. هذه السنة حلَّتْ الذكرى المائوية لولادة الشاعر التونسي أبي القاسم الشابي(1909). لَمْ تأخذ الذكرى، في الجغرافية الثقافية العربية، ما تحتاج إليه من جدية في الاحتفال، تليق بشاعر عقدَتْ قصيدته صداقة بين المشرق والمغرب، بما اختطته لذاتها من ممارسة خاصة، وسَّعتْ مِن فضاء الخيال والتجربة الرومانسيين، وبما وفرته للعربية من إمكانات التعبير، المجددة لمائها الحيوي، جوهر الشعرية، منذ فجر النشيد العربي الأول. لم يُطل أبو القاسم الشابي على مائويته، إلا على نحو خجول وسريع. كأن الذكرى تريد أن تحاكي عمرِ شاعرها، دون أن تلتفت كثيرا لِما بقي منه، كسؤال شعري يخص ممارسته للخيال الرومانسي. شاب اخترقَ المركز الثقافي(مصر)، في الوقت الذي كان فيه هذا المركز محصنا بتاريخه، وبسنوات السبق إلى اكتشاف الغرب واستثمار سؤال الحداثة، مقترنا بلوعة الذات ورغبتها في التحرر والتعبير والهدم والبناء. هذا الشاب، الذي حمل معه قريته التونسية إلى ذروة النشيد الرومانسي، مخترقا ثقافته الشخصية الأصيلة، ومعها ثقافة بلد بكامله كان يرزح تحت الاستعمار والتقليد، ينتظر، في الواقع، من الزمن الثقافي العربي الراهن لحظة تأمل أكثر عمقا، لقراءة تجربته، في ضوء حكمة السنين. ينتظر قراءة وليس مراوح تبعث على استطابة الرقاد. هذه القراءة للأسف هي التي لم تحصل، إلا فيما ندر، حيث كانت الأجندة الإعلاميةُ تمتص أثر المناسبة ووعدها ومفعولها، لتحوَّلها إلى مناسبة للارتجال وتأبيد الأحكام. مات الشابي مبكرا، وهو مثل أغلب شعراء العمر القصير، لم يَلْهُ كثيرا مع الحياة، وإنما تبادل وإياها اختراقا، استهدفَ هشاشة سُرعان ما ستُصبِح خاصية لغة وتجربة في الشعر. انطفأ العمر سريعا، لكن جذواه ما تزال مشتعلة بجوف القصائد. مِن هنا مصدر هذه النار الوجودية، التي تلفحنا كلما اقتربنا من نصوص الشاعر الكبيرة في «أغاني الحياة». وهي لم تكن نار استجداء للزمن القاسي والجسد العليل، بقدر ما كانت نار تمرد وحكمة مترعة بالمرارة، تريد أن تقفز على شرطها الوجودي، في الوقت الذي تجد فيه نفسها أسيرة له. إنها حكمة الطائر «ققنس»، الذي لا يطيب غناؤه ويزداد عمقا وعذوبة إلا في زمن الشدة بالمعنى الذي يمنحه هولدرلين للكلمة. هذا الزمن هو الذي تستدعيه بعض قصائد الشابي، في لغة صافية وشفافة، تغني الطفولة والحب والحياة والفن والموت. اخترقَ الشابي الزمن الثقافي التونسي، ووطن قصائده بمجلة أبولو، إلى جانب كبار الشعراء الرومانسيين المصريين. تلك هي عتبته وهذا هو مداه. ثقافته التقليدية والمحدودة، لم تكن تُسعفه لمعانقة الحلم الجبراني، الذي ظلَّ يكابد مطلقا تعبيريا، كان وراء تجريبه للكتابة في كل الأجناس الأدبية، فضلا عن انخراطه في الرسم، وانشداده للغة الموسيقى. إن نبوة الشاعر الجبراني، ظلت بمنأى عن نبوة كل الشعراء الرومانسيين، لأنها خلَّصت فعل النبوة من معانيه الوطنية والتحررية، وقرنته بمطلق صوفي إنساني يتجاوز كل شرط، ليقيم كالترانيم الدينية في فضاء الشوق المطلق. هذا الفهم الذي يُضفي مسحة شرقية على نبي جبران، لا نجد له صدى في كل ذاكرة الرومانسية العربية، بما فيها رومانسية الشابي.