ينبغي أن نفهم جيدا أن للفنون الغنائية دورا كبيرا في تحولات المنظومة القيمية، وفي تقييم السياسات العمومية وكذا التأثير في المشاهد السياسية، خصوصا مع التطورات الموسيقية المعاصرة والراهنة، التي صار معها بالإمكان النفاذ إلى أعماق النفوس والعقول البشرية، ففي المجتمع المغربي مثلا، يمكن أن نستدل على أثر دور هذه الفنون الغنائية برصد وإبراز جملة من التحولات الثقافية والقيمية. كيف ذلك؟ مثلا، «عَايْشِينْ عِيشَتْ الذَبَّانَة فِي لَبْطَانَة»، «وَاللهْ مَا نْتَا مْعَانَا وْلاَ دَايْرْنَا فِي بَالَكْ»، «شَلَّة خَايْنِينْ كَلُونَا وَحْنَا نَايْمِينَ..»…، هذه نماذج من أغاني ملتزمة تحتفي بالكلمة بعيدا عن الإسفاف والركاكة، وتحاول من خلال رموز دالة وقريبة من المتلقي أن تعبر عن كل تفاصيل الواقع وتسايره رصدا وتحليلا. فبها ومن خلالها كان يعبر الفنانون المغاربة الملتزمون والأحرار، عن مختلف القضايا السياسية والاجتماعية والوطنية والاقتصادية والقومية التي تهم شؤون البلاد، رغم سنوات الجمر والرصاص، وحدة التوترات والاعتقالات السياسية التي كانت سائدة في عهد إدريس البصري أحد رموز الهيمنة والتسلط في تاريخ المغرب المعاصر. إذ كان الفنانون يفهمون الفن الغنائي، باعتباره رسالة هادفة وسامية ومسؤولية أخلاقية، لذلك كنا نجدهم أكثر حرصا أثناء اختيار الكلمات والاستعارات، لتكون أكثر إسهاما وتأثيرا في التغيير والتحول الإيجابيين على جميع المستويات والأصعدة، والدليل على ذلك، فهي حتى الآن، ما تزال ذات عمق من حيث معناها ومبناها، إذ من يستطيع أن ينفي من خلال مستخلصات الواقع الاجتماعي مدى أثر تلك التعبيرات والكلمات وعمقها في نقد الواقع؟ وفي المقابل، قد لا نبالغ إذا قلنا اليوم بأن الفنانين ماتوا… ومات معهم الفن الغنائي الهادف والجميل أيضا، وذلك إذا ما تأملنا جيدا في طبيعة وشكل معظم الإنتاجات التي تقدمها هذه النماذج الفنية السائدة، -شكلا ومضمونا-، حيث غدت معهم الفنون الغنائية مجالا للاستهتار والرداءة والميوعة، وعرض آخر صيحات الموضة ومنتجات الأزياء. والصادم في الأمر، هو أن هذه النماذج السلبية في الفنون الغنائية، استطاعت حقا أن تكرس الرداءة في عقول ونفوس النشء والشباب على حد سواء، حيث بتنا، نجد الأخذ والرد الحاضر في معظم تواصلاتنا وكذا داخل مؤسساتنا التربوية يتعلق بنمط هذا الفن الغنائي الرديء وأصحابه، وحيث إن معظم شبابنا اليوم «لم يعد يقبل النصيحة إلا إذا كانت على إيقاعات الشعبي وديدجي DJ»، وحيث صارت الفتيات يسقطن مغمى عليهن من شدة التأثر بأغاني الفنانين، وحيث إن شبابنا من الرجال أو بالأحرى الذكور باتوا يبكون ويحاكون الفنانين في كل الأشياء، في حلاقة الشعر وثقب الأذن والسراويل الملتصقة التي تكشف عن جميع تضاريس الجسد،… فلقد صرنا نتحدث حقا عن أزمة الذوق والإحساس، بما أننا صرنا نجد الأغاني الساقطة التي تخلو من المعنى والدلالة هي التي تتصدر التفاعل والإقبال الجماهيري. وتعزيزًا للافتراض الذي انطلقا منه في هذا المقال، حاولنا النزول إلى الميدان، بأربعة أسئلة استطلاعية، بسيطة بقدر ما هي عميقة، على عينة (موزعة على 80 شابا من كلا الجنسين)، تم اختيارها بشكل مقصود: – أذكر 10 مغنيين ومغنيات مغاربة مفضلين بالنسبة إليك؟ – أذكر 10 لاعبي كرة القدم مفضلين بالنسبة إليك؟ أذكر الخلفاء الراشدين؟ – أذكر بعض المفكرين والمثقفين؟ كانت أجوبة المستجوبين مرعبة وصادمة، ذلك أن السؤال الأول، لقي تحفيزا كبيرا.. حيث كانت الأجوبة بخصوصه سريعة ومتماثلة تماما، ذلك أن الأسماء الغنائية التي تم تقديمها هي الأسماء نفسها التي يقوم الإعلام بعرضها بشكل كبير ومتواصل. نفس الأمر تعلق بالسؤال الثاني، حيث ذكر المستجوبون بكل يسر أزيد من عشرة أسماء للاعبي كرة القدم مغاربة وأجانب. هذا في حين، أن السؤال الثالث، المتعلق بأسماء الخلفاء الراشدين، فكان بالنسبة إليهم سؤالا غريبا، ذلك أن نسبة 70 في المائة من أصل 80 من المستجوبين، جهلوا أصلا ما المقصود بالخلفاء الراشدين؟ في حين أن 20 في المائة فقط، هم من استطاعوا أن يذكروا اسمين على الأكثر، بينما نسبة 10 في المائة هي التي استطاعت أن تعطي أجوبة صحيحة وتامة عن السؤال. أما بخصوص السؤال الرابع والأخير، والمتعلق بذكر بعض المفكرين والمثقفين، فهو أيضا كان سؤالا غريبا وتعجيزيا بالنسبة إليهم، ذلك أن نسبة 20 في المائة من أصل 80 مستجوبا هم من استطاعوا أن يذكروا أسماء بعض المفكرين والمثقفين، بينما النسبة الهامة التي تمثل 80 في المائة من المستجوبين صرحت بأنها عاجزة وغير قادرة عن الإجابة. تؤكد هذه النتائج الأولوية، -رغم محدوديتها الكبيرة-، عن تشكل ذوق اجتماعي جديد ونمط ثقافي موحد لدى الشباب: يتوزع بين تتبع أخبار مشاهير الفن والرياضة.. أما الدين كما الثقافة فقد غدت معرفتهما نادرة جدا، وهذا ما يجعلنا أمام إشكال آخر: من أين يستقى الشباب اليوم أفكارهم ومعارفهم وقدواتهم ونماذجهم الاجتماعية؟ هكذا يمكن اعتبار أن تكريس نمط معين من الفنون الغنائية عبر وسائل الإعلام الرسمية مقابل طمس أنماط نوعية أخرى هادفة وملتزمة، مؤشرا دالا عن إدراك السلطة لأثر بعض الفنون الغنائية ولمدى خطورتها في نشر وإشاعة مناخ ثقافي فني مناهض للفساد السياسي. بالمعنى الذي يمكن معه القول الرهان على توظيف بعض أنماط الفنون الغنائية كآلية للإلهاء الاجتماعي وتبريد الملفات السياسية الساخنة التي لم يفلح السياسيون في الحسم فيها.