تعد دار الدبغ أقدم دار للدباغة في المغرب، فهي معلمة من المعالم التاريخية، يرجع تاريخ إنشائها إلى عصر الدولة المرينية، حسب شهادة من الحاج عبد الرحمان الفيلالي، وتعد دار الدبغ بمكناس بدورها من بين المدابغ القديمة بالمغرب، وتقع عند أطراف المدينة العتيقة والقريبة من ضريح الهادي بنعيسى. ويعد هذا المرفق ذاكرة ومن المرافق التراثية بالعاصمة الإسماعيلية نظرا لقدمه من جهة، وكذا لتشغيله لعدد كبير من اليد العاملة في إطار تعاونية، بل يمثل إحدى معالم التراث العالمي الإنساني التي يجب الحفاظ عليها، ورد الاعتبار لها، لأنها تمثل ذاكرة مكناس عبر قرون خلت من الزمن (أزيد من 500 سنة). وحسب الحرفيين، فإن دار الدبغ بمكناس تنتج من جلد البقر، الذي يتم دبغه بمواد كيماوية كلها مستوردة من الخارج جلد النعل (السوميلة) وتخضع هذه الجلود لعملية الغسل والنقع والتطرية، وإزالة الأجزاء الزائدة، وقبل الدخول في التفاصيل، لابد من الحديث عن عملية شراء الجلود، التي يتم جلبها من أسواق مدن فاس والقنيطرة والدارالبيضاء، ويخضع ثمنها للعرض والطلب، حسب توفرها في السوق أو اختفائها بسبب وجود لوبي مضارب يحتكر المواد الأولية، ولعل غيابها يعني إغلاق دار الدبغ وتشريد العديد من الأسر التي تعيش منها. وما يثير الاستغراب أن عددا من الناس يجهلون سر دار الدبغ ودورها الاقتصادي والاجتماعي، بحيث إنه لا أحد من الناس سأل نفسه وهو ينتعل حذاء أو بلغة كيف وصلت إليه جاهزة، وما هي المراحل التي قطعتها، ولا التفكير في الصناع والحرفيين الذين أبدعوا في صنع ذلك المنتوج على حساب صحتهم، وبدراهم معدودة. ووفق عدد من المهنيين بدار الدبغ بمكناس، فإن أول عمل يبدأ به العامل في الدباغة هو وضع الجلود في صهاريج (قصريات، بلغة الدباغة)، بعد أن يتم إفراغ مادة السيفيور القادمة من بلجيكا مع الجير البلدي، لإزالة شعر الجلود وترطيبها ليسهل تلحيمها، أي إزالة الشحوم العالقة بها بواسطة سكين كبير. بعدها يتم وضع الجلود في براميل كبيرة (تسمى الطونو) في وضع مائل أفقيا، تدور آليا وقد ملئت ماء، لتقليب الجلود وغسلها وتطهيرها، وإزالة ما علق بها من مواد كيماوية. وفي المرحلة الثالثة يوضع السولفاط 21 بمقدار 50 كيلوغراما، ويخلط بكيلوغرامين من مادة الكوفني لترقيق الجلد، بعد ذلك يلقى الجلد في مادة الأسيد المستورد من ألمانيا ويخلط بمادة ميطا بيسورفيك المستوردة من إيطاليا لتصفية الجلد من الأوساخ الصغيرة والدقيقة ومن الصدأ، ويضع الصانع مثلا 12 كيلوغراما من مادة الأسيد، يضاف إليها 8 كيلوغرامات من مادة ميطا بيسورفيك تكفي لحوالي 60 أو 70 قطعة من الجلد، وتغسل هذه الجلود بالماء، ثم تترك لمدة 4 ساعات ليجف، وتأتي المرحلة الخامسة، حيث تلقى الجلود في مادة « ألبطا » التي تفتح شهية الجلد ليمتص المواد التي سيوضع فيها لاحقا، ثم في المرحلة السادسة يخلط الجلد بمادة « شاتنيي » المستوردة من إيطاليا (وكانت في السابق تستورد من فرنسا لجودتها المتميزة) ومن يوغوسلافيا تعيد للجلد لونه الذي يكون قد فقده نتيجة تأثره بكثير من المواد الكيماوية التي سبق ذكرها. أما مادة مرموزة البيضاء والحمراء المستوردة من البرازيل فدورها هو دبغ الجلد، حيث يتم مزج 300 كيلوغرام من مرموزة. أما المرحلة الأخيرة هي تزييت الجلد بزيت مستورد من ألمانيا يعطي للجلد اللمعان ويلينه، وبالتالي يصبح جاهزا للتسويق وبالتالي يفصل إلى ثلاثة أجزاء، أجوده الظهر (يسمى كروبو)، يأتي بعده العنق (ويسمى كولي) ثم الجانب ويسمى (لفلا) وتختص مدينة مكناس في صناعة جلد النعل الجيد، وتزود السوق المغربية بحوالي 70% من جلد النعل، يسوق معظمه بمدينة الدارالبيضاء لصناعة الأحذية، والباقي بمدينة فاس لصناعة البلاغي. أما الظروف التي يشتغل فيها هؤلاء الحرفيون فيجب تحسينها، كما يقول الحاج با قاسم، أحد قيدومي دار الدبغ بمكناس. وفي ظل غياب التغطية الصحية والضمان الاجتماعي لهذه الفئة من العاملين، تبقى حياتهم معرضة للخطر باستمرار، لهذا يتردد الصناع التقليديون في توريث هذه الحرفة لأبنائهم حتى تتحسن شروط العمل فيها. لقد حان الوقت للالتفات إلى وضعية حرفيي دار الدبغ للنهوض بهذا القطاع، حسب رئيس تعاونية لصناعة الجلد بمكناس، الذي قال إن « منتوجاتنا ذات جودة عالية، لكن نعاني من مشكل التسويق. وحتى إذا ما وجد المشتري يبقى مشكل الأداء الفوري، إضافة إلى عدم تأطير الصناع وتأهيلهم، وتراجع دعم وتشجيع الدولة ». والتمس عدد من الحرفيين الجهات المسؤولة تطوير وتأهيل دار الدبغ بمكناس، التي ما زالت تعتمد على وسائل تقليدية عتيقة، الأمر الذي يؤدي إلى ضعف دخل الحرفيين. ومن المطالب المستعجلة للحرفيين ترميم دار الدبغ والحفاظ على طابعها التراثي الإنساني والتفكير في خلق وحدات إنتاجية كبرى بتجهيزات حديثة للإقلاع بالقطاع، وبالتالي الرفع من الإنتاجية، وتحسين المستوى المعيشي للمهنيين