وحيدا يحرسه كلبان وديعان، ينهمك محمد في العناية بما توصّل به من جلود الأضاحي خلال الأسابيع الماضية داخل دارٍ للدباغة في حي سيدي موسى بمدينة سلا، وسط صمْت مخيّم على الأرجاء، ومُنذر بزوال المهنة التي ورثها عن أجداده، وتُوشك أن تلفظ أنفاسها الأخيرة بين يديه. لم يتبقّ من دُور الدباغة في حي سيدي موسى الشعبي بمدينة سلا غيْر الدار التي يشتغل بها محمد، ودار أخرى مجاورة، بينما أغلقت باقي الدور أبوابها لأسباب متعددة، أبرزها غلاء مادة "مرموزة"، التي تُستعمل في معالجة الجلود لمنع تعفنها والحفاظ على طراوتها، ولتكون قابلة للاستغلال في صناعة الملابس والأمتعة الجلدية. يتذكر محمد أنّ دار الدباغة حيث يكسب قوتَ يومه كانت تستقبل في السنوات الخوالي ما يناهز 700 جلد أضحية، أو "البطانة" كما تسمّى بالعامية المغربية، بعد عيد الأضحى، أما اليوم، فإنّ عدد الجلود، التي يحملها إليه الناس بعد نحر أضاحيهم من أجل أن يحوّلها إلى "هْياضر"، لم يعد يبلغ حتى 120 جلدا. منذ سنوات يكتفي محمد بتحويل جلود الأضاحي إلى "هياضر"، ولم يعد يدبغ الجلد. توقَّف عن ممارسة مهنة الدباغة مضطرا لا راغبا. ويشرح سبب هذا التوقف الاضطراري قائلا: "كانت الخْدمة بكري، دبا ما بقاتش، والسبب فهادشي هو الإقامة". تعني "الإقامة" مادة تُعرف لدى الحرفيين ب"مرموزة"، تُستعمل في معالجة جلود الأنعام أثناء عملية الدبغ، وتُستخرج من جذوع الأشجار. كان شراء هذه المادة في متناول محمد قبل سنوات، أما الآن فما عاد قادرا على شرائها، بعد أن بلغ سعرها 500 درهم للكيس بزنة أربعين كيلوغراما. يعبّر الرجل، الذي يقضي سحابة يومه في مكان تصّاعدُ من كل رقعة فيه روائحُ عطنة، عن هذا العجز بالقول: "مرموزة اللي كيْدْبغو بها الجلد غلات، بكري كانت رخيصة، دبا غلات، داكشي علاش الدبَّاغة ما بقاوش كيخدمو". حين بلغ سعر "مرموزة" سقفا لم يعد بمقدور محمد مجاراته، اكتفى بالاشتغال على تحويل جلود الأضاحي إلى "هياضر". تتطلب هذه العملية مجهودا عضليا كبيرا، إذ يُملّحها، ثم يحملها إلى الشاطئ لغسلها بمياه البحر، كونُ تنظيفها يتطلب كمية كبيرة من المياه، ثم يفركها ب"الشبّة"، ويُعرّضها للشمس إلى أن تجفّ، لكنّ مردودها المالي قليل، إذ لا يتعدّى ما يناله محمد لقاء صنع "هيضورة" سبعين درهما في أحسن الأحوال، وقد لا يحصل سوى على أربعين درهما، حسب حجم "الهيضورة". وبالسرعة نفسها التي تسير بها وتيرة انقراض دُور الدباغة بمدينة سلا، تسير أيضا وتيرة انقراض إقبال المغاربة على صناعة "الهياضر"، والسبب، كما يقول محمد، هو أنّ هذه الصناعة "قْضا عليها هادشي ديال تركيا والصين"، قبل أن يسحبنا إلى غرفة مكوَّمة في أركانها عشرات "الهياضر"، تخلى عنها أصحابها، ويعكس منظرها زحف نهاية عصر "الهيضورة". وفي غمار الأجواء المنذرة بالنهاية المخيّمة على دار الدباغة حيث يشتغل محمد، لا يزال هذا الأخير يبذل جهده لمقاومة المصير الذي آل إليه سابقوه، منهمكا في القيام بعمله على حوافّ أحواض هجرتها الحياة واستوطنها الفراغ، فهو لا يتقن حرفة أخرى غير الحرفة التي شبّ وشاب عليها، ويأمل أن تلتفت الجهات الوصية على الصناعة التقليدية إلى مصيره، هو ومن تبقى من مرافقيه القلائل على درب الدباغة بسلا، لإنقاذ صنعتهم من نهاية صار وقوعها قاب قوسين أو أدنى.