بعد تذوق طعم الحرية من جديد، وبعد أن ذاق مرارة السجن وقساوة فقدان الحرية، عاد الكاتب الصحفي توفيق بوعشرين، إلى التدوين في حسابه الخاص على منصة الفايسبوك. بعد مقولته البليغة، والتي ستكون لا محالة، موضوع تحاليل وآراء ونقاشات، حيث قال في أول خروج إعلامي له بعد محنة السجن: "لا يولد الإنسان إنسانا، بل يصير إنسانا..."، شرع صاحب أشهر افتتاحية، في التدوين على صفحته الفايسبوكية. ربما تكون عودة متدرجة لمهنة المتاعب. مما أثار انتباهي، تدوينة للصحفي توفيق بوعشرين، حصدت بعد 6 أيام فقط 370 إعجابا، 905 تعليق و180 تقاسُم، وبلغة الفايسبوك البارتاج. يقول بوعشرين في هذه التدوينة، إنه لأول مرة يركب القطار الفائق السرعة البراق. تحدث عن كونه كان من القلة التي عارضت مشروعه في البداية. ويضيف قائلا، إن معارضته للبراق ليست من باب كونه خصما للسرعة، بل لكونه لم يعثر في بداية المشروع، على أي دراسة جدوى تُبرر الكلفة الكبيرة التي صُرفت عليه، في الوقت الذي تعاني منه قرى ومدن صغيرة، من عزلة قاتلة، كما قال المتحدث. ويُضيف بوعشرين، أنه بعد أن جرب السفر على متن قطار البراق من الرباط إلى طنجة في ساعة و20 دقيقة، مع حسن الاستقبال، ونظافة المركبات، والوقت المضبوط. وبعد أن صار البراق يطير بسمعة البنيات التحتية المغربية عاليا...فأنا، يقول المتحدث، أسحب اعتراضي، وأراجع موقفي الأول، لصالح الفكرة والمشروع والمغامرة.... ويضيف بوعشرين قائلا "ليس عيبا أن يراجع المرء موقفه، المهم أن تبقى نيته سليمة، ومواقفه منسجمة مع قناعاته". هكذا عبر الكاتب الصحفي توفيق بوعشرين، عن مراجعة موقفه من مشروع كانت تنقصه المعلومة، التي ستساعده على اختيار الموقف الصحيح. هكذا عبر الكاتب والصحفي توفيق بوعشرين، عن مبادئ عالية، وقناعات سامية، وطريقة حضارية، في التعبير عن القرار والموقف. فتصحيح الرأي الخطأ، من شيم العقلاء، ومن سمات كل محب لوطنه. لكن....لكن ما يثير الانتباه، ويجعلنا نشعر بالاستغراب، لحدود الاشمئزاز، هو ذاك الكم الهائل من التعليقات التي تنتقد صاحب التدوينة، وتصفه بالتخلي عن قناعاته، وبانضمامه لجماعة التطبيل، وبتغيير جلده ووووو....دون ذكر التعاليق المسيئة. لا أخفي أني كنت من المعجبين بافتتاحيات الرجل في جريدة أخبار اليوم، وهي الجريدة التي كان لي شرف المساهمة فيها، بالعديد من مقالات الرأي. لا أنكر كذلك أني كنت مدمنا على افتتاحيات جريدة أخبار اليوم، ولا أرتشف جرعات قهوة الصباح، إلا بعد قراءة افتتاحية الجريدة اليومية. ففيها أجد سمو الكتابة، ورشاقة البلاغة، وأتطلع لآخر أخبار وطني، في قالب مفعم بالحرية ووثوق في المستقبل. لا أنكر كذلك، أني من المتتبعين للكتابات الصحفية "البوعشرينية". وأقول "البوعشرينية" تيمنا بروايات الأديب التشيكي كافكا، التي تحولت بعد وفاته، إلى مدرسة أدبية اسمها المدرسة "الكافكاوية". فقلم الصحفي بوعشرين، له خاصية متميزة، لا يدركها إلا من يُفرق بكل موضوعية، بين قلم وقلم في مجال الصحافة والبلاغة كذلك. رغم ذلك أقول إنني لم أر في تدوينة بوعشرين، على صفحة الفايسبوك، أي شيء سلبي وأي أمر يجعلني أنتقده على تغيير موقفه. علما أن تصحيح الرأي الخاطئ من شيم الكبار. أقول للصحفي الذي استرجع حريته، لا تكترث لمثل تلك التعليقات. فبيننا بشر من النوع الذي يجلس على كراسي المقاهي، ويُمجد في كل من دخل السجن بسبب رأي، ليس تضامنا، وإنما للاستمتاع أكثر بقهوته. إنه نوع لا يريد إلا أن يراك وراء القطبان، ليجد ملهاة يضعها في فمه، وتكون موضوع جذب أطراف الحديث وهو يرتشف قهوته، لإضفاء المزيد من المتعة على جلساته المسائية في المقاهي، ليطيب له النوم بعد ذلك، في فراشه الساخن. آنذاك لن يفكر ولو لهنيهة، عن كيف ينام في السجن، من طاب له الحديث عنه وهو في حميمة المقاهي. إنه النوع الذي تستهويه السباحة في المياه العذبة، ودفع الآخر للاحتراق في لهيب النيران. لا لشيء سوى ليزيد من منسوب استمتاعه بالسباحة، ويضاعف جرعة نشوته بنعومة الماء، وهو ينظر للآخر يحترق في النار. إنها السكيزوفرينيا بكل تجلياتها. إنه بشر يتحدث عن الرجل بتلك التعاليق التي تعكس بؤس أصحابها، وانتهازية كتابها. بشر في لمحة بصر، ورعشة برق، نسي تلك السنوات الطوال التي قضاها الصحفي في غياهب السجن، فاقدا لحريته، بعيدا عن زوجته وأبنائه وأحبابه. بشر لم تشفع في قلوبهم كل تلك الجراح، ورهبة كل تلك التضحيات، فانقلبوا بسرعة البُراق على السجين السابق، وكأن لسان حالهم يقول، إنهم لا يريدون رؤية بوعشرين سوى خلف القطبان، لينعموا بصفاء يومهم، ويستمتعوا بجلساتهم في المقاهي. ختاما أهمس في أذن الكاتب الصحفي توفيق بوعشرين، لأقول له إنني لحد كتابة هذه الأسطر، لم أجرب ركوب البراق، وما أعرفه عنه سوى حكايات وروايات حدَّثني عنها من سافر فيه، من الأصدقاء والأحباب. لكني لم أنتقد يوما هذا المشروع، بل كنتُ من المدافعين الشرسين عنه. وسبب موقفي هذا، هو أنني متشبع بنموذج المشاريع المندمجة في المشاريع التنموية. فالمغرب انخرط في مجال صناعات السيارات، واختار لتوطين هذه الصناعة محور برشيد-الدارالبيضاء- القنيطرة-طنجة. ولكي يكون مشروعا ناجحا، يجب أن يكون مندمجا في محيطه الاقتصادي. وهذا الهدف يتطلب، نقطة التصدير إلى الخارج، وهو ما يجسده ميناء طنجة المتوسط. يتطلب كذلك بِنية تحتية سريعة للمواصلات، تشجع المستثمرين، وُتيسر لهم التنقل بين وحداتهم الإنتاجية المتواجدة في محور برشيدالدارالبيضاءالقنيطرةوطنجة، وهو ما يجسده القطار السريع المسمى البراق حسب تعبير بوعشرين، وهو يتحدث للشرطة القضائية، كما قال على لسانه. لو توصل علم هؤلاء الذين انتقدوا الموقف الجديد للكاتب الصحفي توفيق بوعشرين من البراق، لما تجرأوا على تلك التعليقات، ولأدركوا أنهم هم المخطئون. أنتج صاحب القلم الصحفي المتميز، كنزا من الافتتاحيات القيِّمة، نتركها لمن تُسمى أمة اقرأ، حسب التعبير البوعشريني، لتجمعها بين دفتين، لعلها تجد من يعرف قيمتها، ويجعلها مادة تُدرس في علوم البلاغة والصحافة، كما تُدرس في علوم الإنسانيات المدرسة الكافكاوية. كما همستُ في أذن توفيق بوعشرين، أهمس في أذن أصحاب تلك التدوينات النشاز، لأنني أعرف أنهم سيقولون إن كاتب هاته السطور، لن يكون إلا ماسحا لحذاء صاحب افتتاحيات جريدة أخبار اليوم. وأقول لهم، إني لم ألتق أبدا، ولو في عبور طارئ، بمن أتحدث عنه في هذا المقال. وجهه لا أعرفه إلا من خلال صورته في جريدته، ولا أعرفه إلا من خلال افتتاحياته الصباحية. فلينعم بوعشرين بحريته المسترجعة بعفو ملكي سامٍ وحكيم، وليبحث أصحاب الاستمتاع بجلسات المقاهي، عن سجين آخر، يقضون به، أوقاتهم الحميمية على كراسي المتعة بمعاناة الآخر. * الكاتب والباحث سعيد الغماز