اختتمت يوم 23 يوليوز الجاري "الجامعة" الصيفية للبوليساريو، التي احتضنتها جامعة بومرداس الجزائرية، بتأطير مادِّي وسياسي من حُكَّام الجزائر. الجلسةُ الافتتاحية "للجامعة" تُليَت فيها الرسالة التوجيهية الجزائرية الرسمية، بتوقيع رئيس مجلسِ الأمّة الجزائري السيد صالح قوجيل، ضمَّنها كل ما كُلِّف به من هجوم على المغرب وتحريض ضِدَّه. الخطابُ هو نُسخة، غيرُ مَزيدة وغير مُنقَّحة، من قاموس حكام الجزائر الحاضِن والراعي للتَّخريب الانفصالي ضدَّ المغرب... وهو القاموس الذي شاخَ وشَحُبَ من فرْط اسْتِعْماله... والأفصحُ من كلِّ ذلك، على فُقدانه للصَّلاحية وعلى عُقْمِه، هو أنه وعلى مدى حوالي 50 سنة تبخَّر في الفضاء السياسي الدولي... خَائِرَ الجاذبية الإقْناعية، حتى مع قوَّة الدّفْع "الغازية" للجزائر في علاقاتها الدولية... الخطاب ذاك، مهجورٌ ومعزولٌ في شبَكة التلقّي المفاهيمي للقضايا الدولية، مُفرداته فَقَدَت قوّتها "الإبْرائية" منذ عقود... السيد قوجيل وزملاؤه في القيادة الجزائرية يرْطِنون بهذيان ضد المغرب لا تُعيره مواقع القرار الدّوْلي أيَّ اهتمام... بدليل قرارات مجلس الأمن، التابع للأمم المتحدة، النظيفة من التحريض الجزائري على المغرب... اجتماع أطُر البوليساريو في جامعة بومَرداس، وبتأطير جزائري مُعلَن وشَديد الرَّسْمية، ليس له من "الملتقى الدراسي"، إلا التَّستر على المرْمى الحقيقي للاجتماع... كما أن "اللجنة الجزائرية لدعم البوليساريو"، المُشرفة على "المُلتقى"، ليست سوى الاسم الحرَكي للآلية التنفيذية للمخابرات العسكرية الجزائرية... هو مُحاولة لترميم التشقُّقات التي تسري في نسيج عصابة البوليساريو... وُلدت البوليساريو بداية سبعينيات القرن الماضي، حركة ثورية وطنية مغربية، أسّسها مناضلون مغاربة من الأقاليم الجنوبية الصحراوية المُحتلة آنذاك من طرف إسبانيا... مناضلون كان آباؤهم، في أكثريتِهم، مُجاهدون في جيش التحرير المغربي للجنوب، الذي تصدّى بقوّة للاحتلال الإسباني، وكاد أن يسترجع للوطن المغربي تلك الأقاليم، لو قبل آنذاك بتسوية مُقترحة من الجنرال فرانكو، الرئيس الإسباني، تُقايض الاعتراف المغربي بإسبانية سبتة ومليلية مُقابل استعادة المغرب لسيادته على الأقاليم الصحراوية المُحتلة... رفضت قيادة جيْش التحرير العرض الإسباني... من مُنطلق عدم التفريط في السيادة الوطنية المغربية على أي جزء من الوطن... المناضلون المؤسِّسون للبوليساريو كانوا مُوزَّعِين في أنشطتهم السياسية، وهم شباب أكبرهم لا يتجاوز الأربعة والعشرون سنة من عمره، على حزبي الاستقلال والتحرر والاشتراكية، وكانوا على تماسٍّ مع بعض خلايا اليسار الماركسي اللينيني الجنينية، في بداية سبعينيات القرن الماضي... ويُشْهَد لهم بأنّهم في الاجتماعات الحزبية العامة كانوا يتدخلون مُطَالِبين باستنهاض القِوى المغربية لاسترجاع الأقاليم الصحراوية.... كانوا وحدويين، بوطنيتهم الأصلية وحتى بثقافتهم التي اكتسبوها من "مدارس التعليم الأصيل"، مثل مجموعة مدارس محمد الخامس بالرباط، وكان مديرها المرحوم عثمان جوريو من الوطنيين البارزين الموقعين على وثيقة المطالبة باستقلال المغرب في يناير 1944... في تلك المدارس، ومثيلاتها بمدن مغربية أخرى، وفي أجواء الحراك الوطني والديمقراطي المغربي الساخن وحتى العنيف، تأثروا بأفكار عروبية قومية ووحدوية، الناصرية والبعثية... الوالي مصطفى السيد، السيداتي ماء العينين، محمد الشيخ بيد الله، عبد العزيز (المعروف بالمراكشي)، عمر الحضرمي، محمد ماء العينين، ماء العينين العبادلة... وآخرون، تداعوا إلى مظاهرة سنة 1971 بمدينة طانطان المتاخمة للحدود مع الأقاليم الجنوبية المحتلة، لإثارة الانتباه إلى حركتهم الوطنية، ورفعوا فيها شعارًا قويًا ودالا، يقول كل معنى وطنيتهم، وردَّدوا... "مع الحسن نُحرر الوطن"... بعضُهم توقّفت صلاته بالبوليساريو من واقعة تلك المظاهرة، واستمر فاعلا وطنيا وحدويا في النّسيج السياسي المغربي، والبعض الآخر أبعدهم وزير الداخلية المغربية آنذاك، المعروف بالسّفاح، الجنرال أوفقير إلى داخل الأقاليم المحتلة، ومنها سيُكملون مسيرتهم الوطنية الوحدوية... ولكن لسنوات قليلة قبل دخول الرئيس الجزائري هواري بومدين على خط القضية و"ينتزعُها" من قبضة العقيد معمّر القذافي... القائد الليبي تعرّف على مصطفى الوالي، وبارك مَطمَحه الوحدوي هو ورفاقه، تمنى عليهم خلق "بؤرة ثورية"، بالتعاون مع حركة "الكادحين"، اليسارية، الشِّبه سرية، الموريتانية، ووعدَهم بالمال والسلاح بلا حساب... حساب العقيد كان هو فقط!!! إسقاط نظام الحسن... شباب البوليساريو، لم يكن في خلفية تفكيرهم ما يُسَوّغ لهم التعبئة لإسقاط "نظام الحسن"... فهم على بعد سنتين فقط كانوا يرددون "مع الحسن نحرر الوطن"... وجّهوا السلاح الليبي إلى جيش الاستعمار الإسباني، للضغط عليه، ليُوقِف مسعاه إلى إعلان دولة انْفصالية بهوى إسباني في الأقاليم المغربية المُحتلة... كانوا يخشوْن إنشاء "إسرائيل" جديدة في الصحراء... وذلك ما كان يخشاه أيضا الملك الحسن الثاني نفسُه، ويتصدى له بأسلوبه الديبلوماسي في التعامل مع الجنرال فرانكو... وهو الأسلوب الذي سيقوده، في نوفمبر 1975، إلى تنظيم المسيرة الشعبية السلمية والخالدة إلى الأقاليم المحتلة والتي أدت إلى استرجاعها إلى الوطن الأصل والكبير... وإلى دحْر مَسعى جنرالات الاستعمار الإسباني إلى تشكيل دولة، بشهيتهم ومقاساتهم، في تلك الأقاليم... الرئيس الجزائري هواري بومدين، انقلب على رفاقه في حرب التحرير، ثم اتّجه إلى التحلل من الوفاء للمغرب الداعم الأول للكفاح الاستقلالي الجزائري... كان يحلم بجزائر تعلو على المغرب... حلمٌ مستحيل التحقُّق بحقائق الجغرافيا والتاريخ والمُمكنات الاجتماعية والاقتصادية... دولةٌ وطنيةٌ تتأسس في الجزائر لأوّل مرة في تاريخها لن تعلو أبدا على دولة مستقلة، ممتدة على قرون وكانت الجزائر في دائرة حُضنها لقرون... العقيد بومدين كان يحلم فقط... ولكنه حاول تصديق حلمه، فسَرق البوليساريو من نفوذ العقيد معمر القذافي وأيضا من نفسها... حرَّضها على إشهار الانفصال بالأقاليم الجنوبية عن المغرب... أغراها بتمثيل "شعب" صحراوي، لم تكن قيادة البوليساريو قد زعمت بوجوده وادَّعت تمثيله... وهو نفسه السيد بومدين كان لا يجهل وحدة الشعب المغربي في أراضيه المُستقلة نهاية خمسينيات القرن الماضي وأراضيه المحتلة لسنوات... ولم يكن السيد الرئيس مُهتمًّا بتقرير مصير شعب ما... همُّه الأول والأخير أن يقطع الامتداد الجغرافي الإفريقي على المغرب... عبْر دوَيْلة جزائرية المبنى والوظيفة بين المغرب وموريتانيا... كان يحلم فقط... وورثتُه في الحكم الجزائري اليوم يواصلون استهلاك نفس الحلم الذي طاله التقادُم وبُليت خطوطه وعشَّشت فيه العناكب، بحيث هو الآن كابوس جاثم على طمأنينة وسداد توليد القرار الجزائري... كان لا بد أن يغير هواري بومدين تلك البوليساريو... أراد استخدامَها بمعرفته ومشيئته ورجاله فيها... خنَقها، أوقف الحس الوطني الثوري المغربي فيها... وكانت البداية بأن تقتل المخابرات الجزائرية المؤسس الوطني للبوليساريو الوالي مصطفى السيد في يونيو 1976، لتبدِّل الهوية الأصلية للبوليساريو، وأيضا لتُنْتِج منه "شهيدا" تتاجر بذِكراه عصابة البوليساريو الجديدة... من يومها، والبوليساريو تتعرّض لعوامل "التعرية" من هويتها الأصلية بفعل إعادة تركيبٍ لها، قامت بها وترعاها المخابرات العسكرية الجزائرية... من قادتها الأصليين اللذين انخرطوا في التوجُّه الجزائري لسنوات قليلة، فرَّ منها من فَرَّ عائدا إلى وطنه المغربي وغادرها إلى منفى طوَعي منْ غادر، وانْزوى بعضهم حتى داخل المخيمات بعيدا عن المشاركة في القيادة... اليوم تخترق البوليساريو تيارات غاضبة، متسائلةً أو حيرى حُيال مصير حركة فاقدة لصلاحية الوجود السياسي، ومعه المُبرِّر العسكري... تفقد أطرَها التي تستفيد من التعليم العالي في دول أوروبية، أو في كوبا، لأنّ المخيمات لا تُوَفِّر لهم لا شروط العمل ولا شروط دنيا للحياة الكريمة، فضلا عن أن قيادة البوليساريو نفسُها لا تمثِّلهم سياسيا ولا اجتماعيا... والمساحة الدولية التي تُتيحها فعالية الجزائر ضيِّقة جِدًّا وتضيق أكثر، أمام فعالية الدبلوماسية المغربية... البشير مصطفى السيد (أخ الوالي مصطفى السيد) صرَخ مُطالبا "بندوة وطنية للحوار" حول الوضْع في المخيمات، من حيث قيادة البوليساريو ومن حيث الآفاق المسدودة أمام المسعى الانفصالي... هي صرخة من واحد له وزنه في الحرس القديم للبوليساريو، صرخة من مرجعية علاها غبار التقادم... قيادة الجزائر تُحاول بملتقى "جامعة بومرداس" التنفيس عن تآكل دواخل البوليساريو... من جهة، هي أيّام دراسية مفتوحة لأطر البوليساريو للمناقشة... ومن جهة أخرى هي مناسبة لتشخيص الوضع التنظيمي الداخلي للبوليساريو، لإعادة تركيب مفاصله وتَرْسِيمٍ جَديدٍ للمَمرات والمعابر داخلها... البوليساريو ليست متحكمة في قراراتها حتى تسمح لأطرها بحرية المناقشة حول آفاق المستقبل... على هامش ملتقى بومرداس، في كواليسه وفي مُسامراته الجانبية، لا يُمكن تجاهل الفشالات الجزائرية الديبلوماسية والتي حولت معها حركة سياسية إلى مجرد عصابة تقتات من المتاجرة بالمساعدات الإنسانية ومن الفساد في إدارة مصالح مُتَنَفّعين من زعم دويلة، نفوذها لا يتجاوز البطش بساكنة مخيمات اقتِيدوا إلى كابوس في حياة لم يختاروها وهم عُزّل عن الابتعاد عنه... همسا أو علنا لا يمكن للمجتمعين في جامعة بومرداس الالتفاف عن استحضار مقترح الحكم الذاتي المغربي، ضده أو معه... وضده أو معه هو ما حرك البوليساريو وهزّها وأنبت داخلها أسئلة الوجود وأسئلة المآل لأن مقترح الحكم الذاتي واقعي، عملي، حلٌّ صادر عن ملك حكيم يُقدر قيمة أن يتحقق الحق الوطني سلميا، وبما يضمن الكرامة للجميع... وأول الجميع أولِئك الذين اشتغلت بهم الجزائر ليكونوا ذلك القليل من المغاربة الصحراويين المُعادين لمصلحتهم... وللجميع... *عن جريدة "العرب" الصادرة من لندن.