البوليساريو.. وتباطؤ الساعة الأخيرة تسربت في الآونة الأخيرة أخبار تتعلق بصراع داخلي نشب وسط جبهة البوليساريو، كما انتشرت في هذا السياق تدوينات وفيديوهات على مواقع التواصل الاجتماعي. وهو أمر ليس بالمستغرب ولا بالمستجد، فمنذ تأسيسها في بداية سبعينيات القرن الماضي (1973)، حملت جبهة البوليساريو داخلها علامات التفكك، وبالتالي بوادر الاندثار، حيث لم تجتمع العناصر المؤسسة على هدف موحد بوضوح، بشأن السعي صوب الانفصال عن المغرب وتأسيس دولة صحراوية مستقلة. لم يكن ذلك واردا في البداية، على اعتبار استحالة خلق كيان دولة من الفراغ، بمنطقة تفتقر لمقومات إنشاء دولة حقيقية فوق مساحة شاسعة من الرمال، تكاد تكون شبه خالية. ولم يكن تعداد ساكنة الصحراء الغربية آنذاك يزيد على المئة ألف نسمة إلا قليلا. لذلك كان هدف المؤسسين هو تحرير الأرض من الاستعمار، والمنطقة من الاستبداد والتبعية للغرب الاستعماري، بواسطة حرب العصابات. هكذا، في عام 1972، استغل بضعة من الشباب، إقامة موسم العادات والتقاليد المحلية بمدينة طانطان الجنوبية، وقادوا مظاهرة في أزقة البلدة، رافعين مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية مشروعة، ومنها مطلب طرد المستعمر الاسباني وتحرير كامل أراضي الصحراء. وقد تعرض جل المتظاهرين الشباب للاعتقال والسجن والتنكيل، بأوامر صادرة بشكل مباشر عن الجنرال محمد أوفقير، هو نفسه الانقلابي الذي كان وراء محاولة إسقاط النظام الملكي في 1971، وقاد شخصيا محاولة 1972. بعد إطلاق سراحهم، نزح أولئك الصحراويين إلى الجوار الجزائري، ولم يكونوا يتعدون الثلاثين شابا. هناك، تبلورت لديهم أولى إرهاصات تأسيس حركة تحرير ثورية. وبالمناسبة، فلم تكن الحركة هي الأولى بالصحراء، إذ سبق لأحد أبناء عمومة أول زعيم للبوليساريو، (مصطفى الوالي السيد)، أن أسس في 1969 حركة تحرير صحراوية، تحت مسمى "الحركة الثورية للرجال الزرق" (الموريهوب)، وهو محمد الركيبي المشهور باسم إدوارد موحا، الذي بعد سنة واحدة فقط على إنشاء البوليساريو، هرب من المخابرات الجزائرية إلى المغرب سنة 1974، وفي العام نفسه وقف إدوارد موحا على منبر الأممالمتحدة معترفا باسم حركة "الموريهوب" بمغربية الصحراء. *** عند ولادتها، نالت جبهة البوليساريو مباركة وتأييد مؤسس المنظمة السرية خلال الفترة الاستعمارية بالمغرب، أحد قادة جيش التحرير، والمعارض الشرس لنظام الحسن الثاني، الفقيه محمد البصري، الذي كان يعيش وقتها منفيا في الجزائر، برفقة أعداد من المنتمين للتيار الثوري داخل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، حزب الزعيم اليساري المهدي بنبركة (اغتيل في 1965 بباريس). في مستهل السبعينيات من القرن الماضي، سيتجدد اللقاء بين الفقيه البصري والشباب المتحدرين من الصحراء، وجلهم كانوا تلامذة بثانويات سلاوالرباط وطلابا بجامعة محمد الخامس، سبق للفقيه محمد البصري أن تعرف على أغلبهم في بداية الستينيات، لما جاؤوه مدثرين بحماسة الشباب وثورية الكفاح، معلنين رغبتهم في الانخراط في مشروع تحرير الأراضي الصحراوية من الاستعمار الاسباني، فاحتضنهم الفقيه البصري ضمن خلايا الشبيبة الاتحادية، وحرص على تأمين المأوى لهم في منطقة "دار التوزاني"، المتاخمة للأحياء الشعبية: عين الشق وسباتة وابن امسيك بمدينة الدارالبيضاء. كان الفقيه البصري رئيسا للمجلس الوطني للمقاومة، وبعد استقلال المغرب سنة 1956، انتقلت قوات جيش التحرير المغربي إلى الجنوب، بغاية استكمال "الاستقلال الناقص"، عازمة على تحرير الصحراء من الاسبان، وتمكنوا بالفعل من تكبيد هزائم لقوات فرنكو، بإخراجها من مدينة السمارة وإبعادها عن سواحل الأطلسي، قبل أن تحدث المؤامرة الكبرى، التي تعرف في الأدبيات التاريخية باسم "إيكوفيون" (وتعني "المكنسة" باللغة الإسبانية)، عندما استنجد الجيش الاسباني بالقوات الفرنسية، وبواسطة الدبابات والأسلحة المتطورة والطائرات الحربية، تم دحر جيش التحرير المغربي، في 10 من فبراير 1958. كانت عملية "إيكوفيون" بمثابة الشرارة الأولى للنزاع حول الصحراء، وقد اتهمت المعارضة وقتذاك، ولي العهد المولى الحسن (الملك الحسن الثاني) بالتواطؤ، بالسماح للجيش الفرنسي باستعمال التراب المغربي لمهاجمة أفراد جيش التحرير. كان لولي العهد موقف مختلف، يتمثل في عقد اتفاق سياسي مع اسبانيا، بدل اللجوء إلى السلاح، عبر إجراء مفاوضات للتوصل لنتيجة مماثلة لاتفاق "إيكس ليبان"، الذي منحت بموجبه فرنسا الاستقلال للمغرب. وهو ما سيحصل بعد 17 سنة، في ما يعرف ب"اتفاقية مدريد" (نوفمبر 1975)، التي وقعتها إسبانيا مع كل من المغرب وموريتانيا، منهية بذلك تسعة عقود من وجودها الاستعماري في الصحراء الغربية. *** لم يمض وقت طويل على تجدد اللقاء، في الجزائر العاصمة، بين زعيم المعارضة في الخارج الفقيه محمد البصري ومصطفى الوالي السيد، حتى أمسك زعيم "الاختيار الثوري" بيد الشاب الصحراوي (23 سنة)، ليقوده في سيارة تاكسي إلى قصر المرادية، ويتولى تقديمه إلى صديقه الرئيس الهواري بومدين. ثم رافقه بعدها إلى العاصمة الليبية، وزكّاه لدى صديقه الآخر، الرئيس معمر القدافي. فأصبحت ليبيا هي الداعم الأساسي للبوليساريو، حيث بادر القدافي بتسليح البوليساريو ودعمها بالمال، رغبة منه في إسقاط نظام الحسن الثاني. بينما كانت خلفيات الفقيه البصري هي خلق ما يسمى ب "البؤرة الثورية" من الجنوب، لخوض حرب تحرير شعبية، تبدأ ب"تحرير الصحراء ضمن وحدة شعوب المغرب العربي". بعد ستة عقود، سيقول السياسي محمد اليازغي في 2018، إن التحرير الكلي للصحراء كان في المتناول، لو لم يحدث قرار إدماج جيش التحرير بالجنوب ضمن القوات المسلحة الملكية، معتبرا ذلك "خطأً كبيراً"، ولو لم يساند الفقيه البصري البوليساريو، التي بنيت في الأول على قاعدة وحدوية، قبل نهجها الانفصالي بتأثير جزائري بيِّن. *** كان طبيعيا أن ينتج عن تحول الجبهة نحو الانفصال، نقاش وجدال كبيرين بين قيادتها المؤسسة، تبعته قرارات إقصاء وتصفيات جسدية، ويعتبر كثيرون مقتل رئيس البوليساريو مصطفى الوالي السيد، ضمن ذلك المخطط الذي رعته عن قرب المخابرات العسكرية الجزائرية. بعد تصفية الوالي (1976)، توسع الدعم الجزائري للبوليساريو بوضع الدبلوماسية الجزائرية في خدمة البوليساريو، وبواسطة الاستقطاب الجزائري اعترفت عدد من الدول ب"الجمهورية العربية الصحراوية الديمقراطية"، التي أعلنتها البوليساريو في 1976، وفي 1984 حصلت على عضوية منظمة الوحدة الافريقية، التي انسحب منها المغرب احتجاجا. سيعمر القرار الأممي بوقف إطلاق النار، حوالي ثلاثة عقود (من 1991 إلى 2020)، لم ينظم فيها الاستفتاء حول تقرير المصير، وتطور الأمر إلى بلورة مشروع الحكم الذاتي طرحه المغرب، وجلب مساندات من عدة أطراف، لكن الجزائر مع البوليساريو ترفضه. ورغم إعلان البوليساريو خرق قرار إطلاق النار بعد أزمة معبر الكركارات، فإن العمليات الحربية تكاد منعدمة. *** لم يبق المغرب مكتوف الأيدي، بل نجح في إقناع عدد من أبرز القيادات السياسية والعسكرية والدبلوماسية المعروفة في البوليساريو، بالعودة لدعم الوحدة الترابية المغربية، بعد خطاب للحسن الثاني في 1988، أطلق فيه عبارة: "إن الوطن غفور رحيم". من بين العائدين نذكر على سبيل المثال القياديون عمر الحضرمي وابراهيم حكيم والبشير الدخيل وكجمولة بنت أبى، حيث أسندت لبعضهم مناصب مهمة في الدولة والإدارة العمومية. ثم تواصل على مدى سنوات، التحاق أعداد كبيرة من أعضاء البولسياريو. وتبع ذلك تراجع جماعات ممن يطلق عليهم "انفصاليو الداخل"، المقيمين بمدن الصحراء، عن تبني سياسة وأفكار البوليساريو الانفصالية. ظل الإعلام الرسمي المغربي يطلق على رئيس البوليساريو محمد عبد العزيز، اسم "المراكشي"، كونه رأى النور بالمدينة الحمراء، وبقي والده يعيش بمدينة قصبة تادلة، حيث كان يعمل ضمن القوات المساعدة. وقبيل وفاته تسربت أخبار غير مؤكدة، حول عزم عبد العزيز العودة إلى المغرب، إلا أن ذلك لم يحصل، بسبب المراقبة الشديدة للاستخبارات الجزائرية. ويشكك آخرون في الوفاة الطبيعية لمحمد عبد العزيز، بفرضية تعرضه لتسميم بعد كشف نيته. ليطفو على السطح مرة أخرى التصدع داخل قيادة الجبهة، بين الطامعين في خلافته، وبعدما طرحت عدة أسماء، جرى استبعادها ليختار النظام الجزائري إبراهيم غالي الذي لم يكن يحظى بالإجماع. ولأن صحة رئيس البوليساريو هي شأن جزائري بامتياز، فقد تولت الجزائر نقل غالي إلى مدريد للتشافي من وباء كورونا في العام الماضي، إلا أن الاستخبارات المغربية كشفت نقله إلى الديار الاسبانية بهوية مزورة (محمد بنبطاش)، هو المطلوب للعدالة الاسبانية، حيث رفعت ضده دعاوى بتهم ارتكاب جرائم ضد الإنسانية، وقد عزا مسؤولون جزائريون، ومعهم المعني بالأمر، ابراهيم غالي، كشف السر إلى استخدام المغرب لتقنية التجسس بيغاسوس. *** نشات البوليساريو ضمن أجواء الحرب الباردة، وفي ظل انتشار المد اليساري بين شبيبة العالم، إلا أنه بعد سقوط جدار برلين وانهيار النظام السوفياتي، اهتزت البنية التي شكلت فوقها أرضية البوليساريو. وكان طبيعيا وصول جيل صحراوي جديد تمرد على الإيديولوجيات الشمولية، بل نجد بعض مقاتلي البوليساريو ذهبوا للتنسيق والقتال مع عناصر القاعدة في الغرب الإسلامي، كما سمحت قيادة البوليساريو بالتعاون مع حزب الله اللبناني، من خلال إشراف عناصر الحزب التابع لنظام الملالي في إيران، على تدريب وتأطير قوات البوليساريو، ولم تعد الجبهة حركة ثورية اشتراكية ولا يسارية، لأنه لم تعد مثل هذه الشعارات تجدي أو تتلاءم مع الحاضر. ثم وصل ترامب في نهاية سنة 2020، وفي أيامه الأخيرة بالبيت الأبيض، أعلن اعتراف أكبر قوة في العالم بسيادة المغرب على الصحراء الغربية، مقابل تطبيع الرباط مع إسرائيل. لم يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل ستتلقى البوليسارو وحاضنتها الجزائر، صفعة قوية، بتغيير اسبانيا، المستعمرة السابقة للإقليم، موقفها من النزاع حول الصحراء لصالح الرباط، بموافقتها على المشروع المغربي القاضي بالحكم الذاتي في أقاليم الصحراء الغربية. يضاف إلى كل هذا استمرار النزاع لما يقارب نصف قرن من الأعوام، لم تتحقق فيه الدولة الموعودة، التي لا وجود لأثرها على الأرض، إلا إذا اعتبرت منطقة تندوف بالجزائر هي الدولة والعاصمة، والساكنة المحتجزون في مخيمات تندوف هم الشعب الصحراوي. وسوى ذلك ليس إلا مؤسسات وهمية وبروباغاندا أضحت سهلة مع الأنترنيت وشبكات التواصل. بل كما صرح القيادي السابق في الجبهة البشير الدخيل، أن البوليساريو وجمهوريته المزعومة "هي عبارة عن قيادة فقط"، تتطاحن في صراعات بين أعضائها، و"ليست شعباً مثلما تدعي في وسائل الإعلام". نصف قرن تحولت فيه أوضاع القادة والمسؤولين الكبار بالبوليساريو بفضل البذخ والعيش بالرفاه، وسرقة المساعدات الإنسانية بالمكشوف، في الوقت الذي ظلت فيه أحوال ساكنة المخيمات على حالها، قاسية ولا إنسانية، بل زادت سوءا على سوء. لقد أمسى النظام في الجزائر يعاني من داء عضال، اسمه "البوليساريو"، وهو يرى أن العلاج في استمرار الداء، لأن الحل كيفما كان شكله في ثناياه أزمة معقدة للنظام العسكري الحاكم في الجزائر. والمتاح هو العمل على استدامة النزاع، ولو حساب تنمية المنطقة المغاربية، بل على حساب مصلحة الشعب الجزائري، الذي خرج يحتج في الحراك منددا بصرف المال العام على قضية لا تعنيه. *** وكما في كل مرة يتم فيها تسريب أنباء عن تصدعات داخلية وسط قيادة البوليساريو، يصارع مأذونون بالكلام من الجبهة، إلى النفي واعتبار ذلك ضمن الدعايات المغرضة المضادة، متحدثين عن "الديمقراطية"، هي الديمقراطية ذاتها التي يطبقها اليوم العسكر في الجزائر، وينعم بها الجزائريون. "من أين ذاك العسل؟ من تلك الجرة"، قال أعرابي. انطوت الأعوام والعقود، وطال الأمد. وتغيرت الحسابات والأشخاص والعقليات، ومنذ ارتهان البوليساريو للمخابرات العسكرية الجزائرية، سلب منها القرار بالكامل، وتحولت إلى كركوز يحرك بشكل قاس بخيوط من خلف، لكنها خيوط مرئية. والخلاصة أن قيادة البوليساريو هي أول من يعلم أنها تحولت من زمان إلى مجرد كائن مفخخ ذاتيا، يحمل داخله قنبلته الموقوتة التي ستنهيه حتما، مهما أبطأت دقات عقارب الوقت. *كاتب وإعلامي مغربي