عدَّد أكاديميون وسياسيون مظاهر وخليفات الاختلاف والمشترك في النقاش العمومي بالمغرب، مستحضرين المفاهيم الفلسفية والفكرية المؤصلة للاختلاف وأبعاده ومعيقاته في المجال الثقافي والسياسي والجامعي والمجتمعي. وأجمع محاضرون على أن الاختلاف عنصر أساسي في تكامل كل مجتمع وحضارة على مختلف المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية، معتبرين أن عدم قبول الاختلاف والاعتراف بالآخر هو السبب الرئيسي لمعظم المشاكل والتحديات التي تعيشها المجتمعات، وعلى رأسها العنف. جاء ذلك في ندوة علمية نظمتها مؤسسة الفقيه التطواني تحت عنوان "النقاش العمومي بين المشترك والمختلف عليه"، في إطار برنامجها الجديد "مختلف عليه"، مساء أمس الأربعاء بمقر المؤسسة بمدينة سلا، وذلك تحت شعار "أحبك يا وطني". وشارك في الندوة كل من عبد الرحيم المنار اسليمي، أستاذ الدراسات السياسية والدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، محمد الساسي أستاذ باحث بكلية الحقوق، زهور كرام، رئيسة شعبة اللغة العربية وآدابها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس. كما شارك في الندوة كل من الرئيس السابق لجامعة ابن زهر بأكادير، عمر حلي، والكاتب والفاعل الحقوقي، أحمد عصيد، ومحمد الدكالي، المفكر والباحث وأستاذ التعليم العالي، فيما سير الجلسة رئيس المؤسسة بوبكر الفقيه التطواني. منظومة تربوية ترفض الاختلاف الكاتب والفاعل الحقوقي، أحمد عصيد، انتقد بشدة المدرسة المغربية في علاقتها بالاختلاف، معتبرا أن المقررات الدراسية تسعى إلى التنميط ولا تربي الأجيال على قبول الاختلاف. واعتبر عصيد في مداخلته خلال الندوة، أن المغرب لا يتوفر على تربية على الحرية والاختيار والحق في الاختلاف، لافتا إلى أن "ما يحدث في فيسبوك ويوتيوب هو نتاج سوء استعمال الحرية التي لم نتربى عليها، ولو تربينا عليها سنُحسن استعمالها ولن يكون هناك عنفا لفظيا". وأبرز المتحدث أن الثقافة المغربية الناجمة عن منظومة التعليم المبنية على التنميط، ترى في المختلف شخصا أقل قيمة، وهو ما يجعل من العسير مد الجسور بين المختلفين، كما يتم اعتبار المختلف خارج النسق، نظرا لكونه يشكل تهديدا على النسق الطاغي بالمجتمع، وهو نسق مغلق من الأفكار. وأضاف: "كما نعتبر أن المختلف متؤامر وأنه مدفوع من جهة ما لكي يمس بالنظام والمنظومة، إلى جانب وصفه بالتآمر وهو ما يفسد النقاش العمومي ويقوم بتسطيح التبادل والأفكار في المجتمع". وبحسب المتحدث، فإن المختلف يتم وسمه بالفضيحة، خاصة مع نوع من الصحافة التي تتعامل مع مظاهر الاختلاف بهذا الشكل من أجل خلق ما يسمى ب"البوز"، مشددا على أن هذا المنظور يفسد التبادل والاختلاف الذي في أصله يعتبر قيمة مضافة وصيغة أخرى لوجود الذات. وأشار في هذا الصدد إلى أن المسملين اهتموا بمفهوم الاختلاف في الفكر المعاصر من زاوية محاولة التحرر من الهيمنة الغربية التي تفرض أنساقا مغلقة ونظرة أحادية للأشياء، لكنهم وقعوا في نفس المشكل من حيث أرادوا الاختلاف مع الغرب دون أن يهتموا بالاختلاف الداخلي، وبالتالي عوضوا نسقا مغلقا بآخر مماثل، وفق تعبيره. في نفس السياق، يرى عصيد أن التسامح هو قبول الشخص الآخر دون الاعتراف به بالضرورة، مشيرا إلى أن التربية على الاختلاف وقبوله هو الاختلاف الذي يتأسس من خلال الاعتراف المتبادل. وأضاف: "يجب علينا الانتقال من التسامح إلى الاعتراف، إذ يمكن أن تكون متسامحا مع شخص ما ويمكن أن تقبل وجوده بجانبك فقط دون الاعتراف به، والاختلاف يعني الاعتراف". ووفق عصيد، فإن الطبقة الثقافية والفكرية بالمغرب تبقى أكثر تصلبا من الطبقة السياسية في مفهوم الاعتراف بالمختلف، لافتا إلى أن الحياة السياسية بالمملكة تطورت من النبذ والتجريم إلى الاعتراف دستوريا وبالقوانين. وخلص إلى أنه يستحيل أن يلعب المغرب أدوارا استراتيجية، مغاربيا وقاريا ودوليا، بينما بيته الداخلي غير مرتب بإتقان، مشددا على ضرورة قبول الجميع والتحاور، وهو أمر غير ممكن بدون تغيير النظام التربوي الذي يحاول تشكيل شخصية التلاميذ ضمن نمط واحد، يقول عصيد. الاختلاف السياسي وعلى المستوى السياسي، يرى محمد الساسي، القيادي اليساري البارز في فيديرالية اليسار الديمقراطي، أن الاختلاف هو وجود أكثر من حل لأي مشكلة سياسية، مشيرا إلى أن السياسة تتسم بالصراع لكن يمكن أن تشكل وحدة بين فرقائها. واعترف الساسي أنه تصرف أحيانا مع الآخر بعنف ورفض أفكاره، لافتا إلى ذلك كان في الساحة الجامعية أساسا حيث يسود التنميط ورفض الآخر، مشددا على أن الاختلاف هو الاعتراف بأن جزء من خطاب الآخر يمكن أن يكون صوابا. وكشف المتحدث في مداخلته أن الحقل الحزبي في العالم كله قائم على التمييز على أساس الإيديولوجية، حيث يوجد يمين ويسار، بينما التمييز في المغرب كان في البداية قائما على أحزب الحركة الوطنية، والأحزاب الإدرية المقربة من السلطة. وأشار إلى أن الأمر انتقل بعد ذلك من معادلة ثنائية إلى ثلاثية مع ظهور الحركة الإسلامية التي حركت الكثير من المعطيات، مضيفا أنه لا يمكن اعتبار تنزيل التمييز القائم على "يمين ويسار" في المغرب لعدة أسباب، أبرزها وجود حركة تماهي متبادل بين الأحزاب، وعدم تحقيق انتقال ديمقراطي يتم فيه التناوب بين المشاريع المجتمعية. وتابع قوله: "في المغرب ننتقل الآن من الأحزاب المختلفة في أفكارها وتوجهاتها ومشاريعها وتنظيماتها، إلى فكرة الحزب الوحيد بأسماء متعددة، والقاسم المشترك هو أن فكرة السيادة الملكية التي تكتسح مساحات داخل عقلية مختلف الحزبيين في المدارس الثلاثة". واعتبر أن الأحزاب الإدارية كانت في الماضي تترك القصر يفكر عوضها ويختار قيادتها، الأمر الذي يُنتج برامج هجينة، بينما الآن تركز على برامجها بدقة وتختار الكفاءات، مع جرعة في السياسة والشعارات والبرامج عوض التركيز على الأشخاص والمرشحين كما كان سابقا. ويرى الساسي أن من بين أسباب توجه الأحزب نحو فكرة الحزب الوحيد، هو إقصاء حاسة النقد، والقول ب"العام زين، وعدم أسبقية الديمقراطية في عقلية الطبقة السياسية، لافتا إلى وجود مكونات أخرى ليست حزبية لكنها تمارس السياسية وتعمل من أجلها، كجماعة العدل والإحسان. وأبرز أن أحزاب اليسار غير المشارك في الحكومات والذي يسمى "يسار رادكالي، حافظت إلى حد الساعة على جزء من تراث الأحزاب الوطنية لكنها انشقت عن الأحزاب اليسارية دون أن تستطيع أن تكون بديلا عنها، كما أنها تعيش مشاكل الوحدة بسبب مطامع الزعامات الذاتية من جهة، وبسبب مشاكل متعلقة بالموقف من النظام والصحراء والانتخابات. وبخصوص المكون الإسلامي، أشار المتحدث إلى وجود 4 أنواع، وهم المشاركون من خلال حزب العدالة والتنمية، وغير المشاركون المتمثولن في جماعة العدل والإحسان كفاعل سياسي، والسلفيون، ثم المقربون من اليسار كحزبا الأمة والبديل الحضاري. ويرى القيادي اليساري أن الإسلاميين بالمغرب يجمعهم شعار تطبيق الشريعة الإسلامية، لكنهم يختلفون في نسبة التطبيق والموقف من النظام وحرية المعتقد، واصفا الإسلاميين ب"اليمين المتطرف رغم رفضهم لهذا الوصف. ولفت الساسي إلى أن الإسلامين بالمغرب يعطون الأسبقية للهوية الوطنية على كل شيء، ويتبنون الليبرالية، ويعارضون الإجهاض ويؤديون الإعدام، مع دعمهم للتشدد والقبضة الحديدية، وهي المواصفات التي تتسم بها أحزاب اليمين المتطرف في العالم، على حد قوله. "الأزمة الجامعية" في نفس السياق، يرى عبد الرحيم المنار اسليمي، أستاذ الدراسات السياسية والدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن النقاش العمومي الذي يعيش أزمة بالمغرب هو النقاش العمومي السياسي، معتبرا أن العصر الذهبي للأحزاب انتهى لكن المجتمع ظل يتطور. وقال اسليمي إن هناك تعددا واختلافا واضحا بالمغرب، مشيرا إلى أن محاولات تأطير هذا الاختلاف لم تعرف انزلاقات كثيرة إلا في مراحل قليلة جدا، مضيفا: "نتذكر في مرحلة معينة حين كان النظام السياسي مغلق والحوارات كانت تتم في فضاءات محددة كمقرات الأحزاب الوطنية". إلا أن المحلل السياسي أوضح أن الشرخ الإسلامي-العلماني نتجت عنه أحيانا مشاكل كبرى بالمغرب، خاصة في ظل ضربات إرهابية كان هناك تحميل مسؤولية معنوية عنها لبعض الأطراف، حسب قوله. ويرى اسليمي أن وسائل التواصل الاجتماعي، بكل مشاكلها، قامت بدمقرطة الحوار والاختلاف في الوقت الراهن، حيث كل من له هاتف أصبح يعبر عن رأيه بكل حرية، في وقت تقلصت فيه فضاءات الحوار في البرلمان والمدرسة والجامعة والتنظيمات السياسية. وعلى مستوى الجامعة، انتقد المتحدث بعض مظاهر التدريس التي تؤدي إلى النميط وتعاكس قيم الاختلاف، متسائلا: "كيف يعقل أن يقوم أستاذ بعرض دروسه بطريقة الإملاء حتى اليوم، ويرفض أن يسأله الطالب، ويطرح في الامتحان الأسئلة بصيغة: تحدث عن...". وكشف الأستاذ الجامعي أن هناك بعض الأساتذة يحفظون الدروس ويلقنونها للطلبة والتلاميذ بطريقة تلقائية، بمن فيهما أساتذة الرياضيات، ورغم ذلك نحمل الطالب المسؤولية، على حد قوله. بدوره، تساءل الرئيس السابق لجامعة ابن زهر بأكادير، عمر حلي، عن سبب عدم جعل الجامعة فضاءً للاختلاف، معتبرا أن الأمر الخطير هو كون الاختلاف لم يعد اليوم مطروحا كسؤال في الجامعة، لافتا إلى أن "التطور التكنولوجي والتقني يبدو وكأنه قد لبى ما كنا نصبوا إليه، وحين جاءت الشبكات الاجتماعية قلبت المعادلات". وحذر حلي من أن استعمال الأدوات التكنولوجية والأنترنيت والشبكات الاجتماعية أصبح يتم بغرض تكريس الكراهية ونبذ الاختلاف، لافتا إلى أنه لم تعد هناك إمكانية لخلق فكر نقدي داخل المدرج، في وقت أصبح فيه الطالب يستهزء بأستاذه أحيانا لأنه يتلقى المعلومة قبل الأستاذ عبر الأدوات الرقمية. وأضاف: "في السابق كان للأستاذ الجامعي مكانة اعتبارية، إذ كان يقوم بمهمة التدريس في الجامعة ثم توجيه الأحزاب وتسيير اتحاد كتاب المغرب وهيئات المجتمع المدني وغيرها، في وقت كانت الجامعة مشتلا لإنتاج الأفكار" على حد قوله. وأردف: "لدينا في الجامعات مدارات مغلقة، وانتقلت "الأنا" لإثبات الذات من مواقع التواصل الاجتماعي إلى التكوين، فأصبحنا نسمع ماستر فلان ودكتوراه فولان إجازة فولان، حتى أن الأستاذ أصبح اليوم هو من ينشر إعلان مناقشة بحث طالبه، ويتم في الخطاب الرسمي وصف شهادة الدكتوراه بالكارطونة". وحذر حلي من "أننا اليوم نسير بسرعتين في الجامعة، ففي الوقت الذي نملك في جامعات وكليات متطورة على غرار جامعة محمد السادس، تظل جامعات أخرى غير مواكبة للركب وتقتل الاختلاف". التعقل وغياب الإديولوجية من جهته، اعتبر محمد الدكالي، المفكر والباحث وأستاذ التعليم العالي، أن الاختلاف هو الأصل في كل شيء، مشيرا إلى أن القبول بالحوار والنقاش هو تلقائيا تخلي عن العنف، مشددا على أن من شروط النقاش ألا يكون فيه خداع ونفاق وادعاء وخبث. ويرى الباحث أن التعقل يُكتسب لدى الإنسان، ومن بين أسباب اكتساب التعقل، النقاش الرزين والحوار الجاد، معتبرا في هذا الصدد أن الأفارقة مغرقون في اللاتعقل، في حين أن شمال إفريقيا وبفعل الاستعمار، اكتسبت نوعا ما التعقل. وأشار محمد الدكالي إلى أن الوحدة المنشودة هي وحدة كل الأشياء، بما فيها المتناقضة، مشددا على أن عدم الاتفاق لا يعني الخصام، وأن الحوار والنقاش عملية متواصلة وليسا منتج جاهز. وأبرز في هذا الإطار أن المدرسة المغربية تتجه للتخلي على التمارين في القسم، في حين أن الحوار والنقاش والاختلاف يقوم على الاحتكاك اليومي مع التلاميذ عبر تحصيص أغلبية الوقت للتمارين والحوار معهم، لكن الحاصل اليوم هو الانغماس في الكم عوض الكيف، حسب قوله. نفس المعظمة أشار إليها الدكالي فيما يخص واقع الجامعات المغربية، معتبرا أن اختفاء الحركة الطلابية في ظل مشاكل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب وتوقف مؤتمراته، جعلت الطالب الجديد يعيش التيه، مضيفا: "أخاف أن تغرق الجامعة في التفاهة". في نفس الإطار، تيرى زهور كرام، رئيسة شعبة اللغة العربية وآدابها كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس بالرباط، أن الاختلاف بارز جدا بين جيلها والجيل الصاعد حول الحوار والنقاش والاختلاف، مشيرة إلى أن جيلها كان أكثر قدرة على الحوار وتناول القضايا الكبرى. وذكرت مقولة للأديب غابرييل غارسيا ماركيز "كنت أحمل أفكارا رائعة وأرتدي ثيابا رثة، والآن أخشى أن يكون العكس"، معتبرة أنه "إذا أردنا أن نسقط المقولة على فكرة الأجيال، فالأمر مرتبط بالإديولوجيا التي فقدت أسنانها منذ مدة طويلة". وأشارت الكاتبة والباحثة الجامعية، إلى أنه "بعدما كنا جيلا نستهلك الإديولوجيا بشكل كبير، خاصة مع الإدلويوجية اليسارية، أصبح الجيل الحالي لا يستهلك أي أديولوجيا" وفق تعبيرها. وتابعت قولها: "حماسنا في جيلها على البحث عن الثقافة والقيام بالمسرح والموسيقى ضمن نهضة مرتبطة باليسار بشكل خاص، لم نعد نراه في الجيل الحالي"، مضيفة: "يجب البحث عن ماذا يقع وفهم تأثير التحولات الكبرى على واقعنا في المغرب".