ربما أكثر المتفائلين والمهتمين بالممارسة الحزبية والقارئين لفناجين الساحة السياسية الفرنسية لم يكن يتوقع التصويت بكثافة غير مسبوقة واستعجالية فاقت نسبة 65%، وتتويج غير مرتقب لجبهة اليسار التي أتت من بعيد لتظفر بأكبر عدد من مقاعد البرلمان خلال الدور الثاني من الانتخابات التشريعية المبكرة على حساب تيار الوسط الحاكم وقوى اليمين المتطرف. وما يزيد المشهد إثارة ودهشة تلك الطفرة المفاجئة في أنساق البنية السياسية لمكونات اليسار الفرنسي، والتي أضحت تقوم على أطروحة دخيلة وبخيلة تتعارض وأنماط صناعة التحالفات وبناء التنازلات وتدبير التناقضات المتعارف عليه داخل صالات الأحزاب الاشتراكية، حتى أنها استعجلت بشكل شبه شعبوي تشكيل جبهة يسارية اشتراكية موحدة وترشيحات مشتركة في زمن أكثر من قياسي (أقل من يومين) بعيدا عن تقليد مسائلة التصورات عبر جولات نقاش تقارب الرؤى والدوافع والغايات، وشروط الزمن التقني لإنسجام واندماج التنظيمات والمشاريع الإنسانية. وكأن هناك من يهش من بعيد بعصاه لحشد اليسار ضد اليمين لإنقاد الوسط الحاكم وتمديد فترة سماحه عبر مسرحية تجديد الثقة. إن القارئ المُدرك لتطورات الوضع الاجتماعي والثقافي بفرنسا يجد أن السواد الأعظم من المواطنين الفرنسيين لم تعد لديهم تلك الثقافة المُطَّلِعة بحس نقدي رفيع، بل أصبحت تكتفي فقط بالبحث عن ضالتها الانثروبولجية لنشأة الجمهورية وصكوك المواطنة، متصفحة القنوات الرقمية العمومية والشبه-عمومية (ك فرانس 24..) والخاصة لإستهلاك مواد صالات الجدال الزائف الفارغ من كل حمولة بناء إنساني وصناعة قيمية، والانتشاء الأعمى بالنقاشات الوهمية الحبلى بسردية كراهية العنصر الآخر والعداء لعقيدة الإسلام وتقديس آل السامية. أما القلائل من الفرنسيين المثقفين والمُتَمَسِّكون بالمناعة الهوياتية والانفتاح الايديولوجي والمُبْعدون عن بلاطوهات الدعاية الاعلامية الصهيونية العنصرية يحاولون جاهدين إيجاد تفسيرات عقلانية وموضوعية للوضع المعقد في فرنسا، وربطه بتطورات محيطها الإقليمي والدولي المتقهقر، من خلال بسط افكارهم رغم الاضطهاد الاعلامي عبر ما تيسر لهم من صحف ومنابر كانت إلى عهد قريب تناضل من أجل القضايا العادلة وتحارب التطرف وسرديات الكراهية، (ك ليبراسيون و لوموند و لوفيجارو..) واللتي مع الأسف أصبحت تحت إشراف شخصيات وازنة ثقافيا ومؤثرة اجتماعيا لكنها باعت القضية الإنسانية وحادت عن الخط التحريري الوسطي اليساري الصلد والمرن والعابر للحدود. علينا أن نعترف أن ما أحرزه اليمين المتطرف الجمهوري هو إخفاق مدروس، وما أنجزه اليسار الموحد المُوَسَّع يُصَنف في خانة النجاح المنقوص والانتصار المدسوس، وما أصعب الحفاظ على النجاح المنقوص في ظل مناخ جيوساسي متقلب يتأثر بإكراهات الداخل وتحديات الخارج وصدامات أطلال النرجسية الإفرنجية مع انتفاضات أجيال المهاجرين من براثين الدونية. فلم تكن القلعة الاشتراكية والجيوب اليسارية الفرنسية لتلعب يوما أدوارا وظائفية لتأثيت اللعبة السياسية، والتحايل عليها من قِبل التصويت العقابي والانتخاب الانتقامي، بل كانت صانعة للعقل السياسي الفرنسي وراسمة لأهم خططه الجيوستراتيجية المحلية والاقليمية والدولية ومحافظة على الدور الريادي لفرنسا وتوازن مواقفها الدولية. أعتقد أن فرنسا اليوم تؤدي غاليا ضريبة الانفصال البريطاني عن الجسم الأوروبي وتداعيات الحرب الروسية الاوكرانية وضعف نفوذها بالقارة السمراء، وتسير بخطى ثابتة نحو أضعف نسخة سياسية للجمهورية الخامسة خلال التاريخ المعاصر، وتؤسس بهذا للإنتقال نحو نموذج يعود بها لما بين الحربين العالميتين الأولى والثانية حين استطاع الرايخ الثالث التجوال في شوارع باريس بأرتاله العسكرية بعد بضعة أيام وساعات من بدء الغزو الألماني، عندها فقط سيكتشف المتعاطف مع اليسار الفرنسي بدهشة وغرابة أن جبهة اليسار الاشتراكي أكثر تطرفا من اليمين المتطرف. بيننا وبينكم الأيام وستنكشف الأوهام والأحلام، ولسنا أعداء لليسار الإفرنجي ولا داعمين لفرنسا اليمين لكن السياسة لا تؤمن بالسذاجة والحنين.