لم يتمكن اليمين المتطرف من الفوز في الانتخابات الجهوية الفرنسية في أي من الجهات ال13. وعكس الدور الأول الذي عرف شبه اكتساح للجبهة الوطنية التي تصدرت نتائج سبع جهات بنسبة تقارب 30.6 بالمائة من أصوات الناخبين، تقهقرت في الدور الثاني من الانتخابات، بعدما تمكن كل من اليمين واليسار المعتدلين من حصد 5 جهات لكل واحد منهما، مع ارتفاع في نسبة المشاركة التي وصلت إلى حوالي 50.54 بالمائة، مقابل 43.01 بالمائة في الدور الأول. وجاءت هذه النتائج رغم أن الوضعية التي مرت منها فرنسا مؤخرا جعلت العديد من المختصين في الشؤون السياسية يتوقعون نتيجة مغايرة للسنوات الماضية لصالح الجبهة الوطنية، خاصة بعد الاعتداءات الإرهابية بالعاصمة باريس في 13 من نونبر الماضي، إضافة إلى مشكل تدفق اللاجئين، والوضعية الاقتصادية المرتجة لفرنسا. إلا أن هزيمة اليمين المتطرف في الانتخابات الجهوية الفرنسية لا تنفي بروزه بشكل واضح في المشهد السياسي الفرنسي، ولو على مستوى المعارضة، وذلك على بعد حوالي 18 شهرا من الانتخابات الرئاسية. ويرى مصطفى الطوسة، الإعلامي والباحث السياسي المقيم في فرنسا، أن "تباين نتائج الانتخابات الجهوية الفرنسية بين الدورين يرجع إلى مجموعة من الأسباب، لعل أبرزها أنه في الدور الأول استطاعت الجبهة الوطنية أن تستغل قضية الهجرة الآتية من الشرق، وكذلك الأحداث الإرهابية التي هزت فرنسا، إلى درجة أن فرانسوا هولاند اتخذ إجراءات تصب في توجه اليمين المتطرف نفسه، ما أعطى قوة إضافة لحزب ماري لوبان، تصدر معها نتائج الدور الأول". "لكن الأمور تغيرت في الدور الثاني بعد استفاقة الشعب الفرنسي"، حسب المتحدث نفسه، وذلك "من خلال ارتفاع نسبة المشاركة، وكذلك الدعوة التي أطلقها بعض الاشتراكيون وبعض رموز اليمين المعتدل لقطع الطريق على الجبهة الوطنية، من خلال ما سمي "السد الجمهوري"..". وأكد الطوسة، في تصريحه لهسبريس، أن "مخاوف الجالية العربية والمسلمة من اليمين المتطرف ستبقى سارية، فالجبهة الوطنية استطاعت، من خلال الانتخابات الجهوية، كسب حوالي 7 ملايين فرنسي؛ ما يجعلها قوة منافسة في المشهد السياسي الفرنسي. كما أن خطر التطرف لازال قائما في فرنسا، وقد يستغله اليمين المتطرف لبسط أفكاره التي تعتمد أساسا على تخويف الفرنسيين من الأجانب، وخاصة من العرب والمسلمين". وأضاف المتحدث نفسه أنه "بالرغم من عدم فوز الجبهة الوطنية بأي جهة، إلا أنها أصبحت قطبا سياسيا ثابتا، بالإضافة إلى كل من القطب اليساري وقطب اليمين التقليدي". وكان من اللافت للأنظار ارتفاع نسب التصويت في الدور الثاني من الانتخابات الجهوية الفرنسية؛ وهو ما استدعته الضرورة حسب محمد واموسي، إعلامي وكاتب صحافي مقيم بباريس، "بحكم حملة التعبئة التي انخرط فيها الفرنسيون بمختلف انتماءاتهم السياسية والدينية والعرقية، إذ إن شريحة واسعة تعبأت ضمن جبهة موحدة لعرقلة فوز اليمين المتطرف في الجولة الثانية". المتحدث نفسه يرى أن "اليمين المتطرف لا يهدد وجود الجالية العربية والمسلمة فقط، بل يهدد كل فرنسا ومصالحها الاقتصادية وتوجهها الأوروبي وسياستها وموقعها الدولي؛ لأنه حين نلقي نظرة سريعة على برنامجه نجد فيه عدة نقاط وأهداف تضر بفرنسا وموقعها، في مقدمتها الخروج من منطقة اليورو وإلغاء اتفاقية شينغن، وإلغاء العمل باليورو، والعودة إلى الفرنك الفرنسي، دون حساب تداعيات ذلك". وأضاف المتحدث ذاته قائلا: "اليوم تعبأ الفرنسيون جميعا من أجل قطع الطريق على اليمين المتطرف الذي قد يقود البلاد إن فاز إلى ما يشبه حربا أهلية، كما وصف ذلك رئيس الحكومة الفرنسية مانويل فالس، خاصة في ظل أجواء الاحتقان التي لا تزال تعيش عليها فرنسا على خلفية هجمات باريس الأخيرة" . وأضاف واموسي: "أفكار الجبهة الوطنية تعد مسألة أكبر من مجرد تهديد حزب متطرف لأقلية مسلمة، رغم أن هذه الفئة لعبت دورا رئيسيا في سقوط حزب مارين لوبان، تماما كما حسمت فوز هولاند أمام منافسه نيكولا ساركوزي في انتخابات الرئاسة عام 2012؛ لكن لأول مرة في فرنسا شاهدنا أحزابا يسارية تنظم حملة انتخابية لصالح اليمين؛ ولأول مرة رأينا الحزب الاشتراكي الحاكم يسحب مرشحين لإخلاء المشهد لليمين المعارض، حتى يستطيع التفوق على حزب الجبهة الوطنية المتطرف". أما عبد العزيز أسوكا، مراسل صحافي وطالب سنة أولى ماجستير علوم اللغة بجامعة باريس السوربون، فيعتقد أن "بروز حزب "الجبهة الوطنية" اليميني المتطرف، خاصة خلال أولى جولات الانتخابات الجهوية، أمر طبيعي"، معتبرا أن الشعار الذي حمله الحزب حتى قبل أحداث باريس كان "وحدة الفرنسيين والحفاظ على الأمن من الجماعات المتطرفة". وحول وضعية الجالية العربية بعد بروز اليمين المتطرف، أكد أسوكا أن "المواطنين القاطنين في فرنسا من أصول عربية ومسلمة معنيون بخطابات اليمين المتطرف الإقصائية"، متسائلا: "كيف ستشعر إذا ما سمعت حزباً يقول رئيسه السابق "احلقوا اللحية لأنها من سلوكات المتطرفين وتنظيم القاعدة"...". أما إسلام عبد الولي، طالبة ماستر الإعلام الرقمي بجامعة اللورين شرق فرنسا، فعبرت عن خيبة أملها لما آلت إليه نتائج الانتخابات الجهوية، خاصة في دورها الأول، وتذمرها من تخلي شريحة واسعة من الشعب الفرنسي عن مبادئها المتفتحة والمتسامحة لصالح حزب متطرف. وأضافت إسلام أنه "حتى لو وصل اليمين المتطرف إلى سلطة القرار فمن المستبعد أن يتخذ إجراءات إقصائية في حق الجاليات العربية والمسلمة، التي تعتبر من أكبر الجاليات بفرنسا، وإلا ستسوء الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية أكثر بفرنسا". إسلام ختمت بالقول إنها غير متخوفة من أن يصل اليمين المتطرف إلى سلطة القرار، بقدر ما هي مستاءة من اختيار فئات واسعة من الشعب الفرنسي لحزب متطرف، مضيفة: "إن ساءت الأحوال فحضن بلداننا دائما مفتوح لنا". *صحافي متدرب