اختلالات مالية بالجملة، سوء التدبير الإداري والمالي، فشل في تنزيل الأهداف المسطرة، عناوين لخلاصات تقارير المجلس الأعلى للحسابات على كثرتها، التي قد تنافس عدد الإصدارات الثقافية والأدبية في بلادنا، مسلطة الضوء عن واقع التدبير في المؤسسات العمومية. بمجرد صدور لائحة المؤسسات العمومية التي ستخضع لزيارة قضاة المجلس الأعلى للحسابات للفحص والتدقيق، فإن مدرائها ومسؤوليها، لن يتوانوا في شد أيديهم على قلوبهم، لأن نتائج التقارير لا محالة سترسم صورة قاتمة عن تلك المؤسسات، وهي قاعدة صارت مألوفة في السنوات الأخيرة. إنه مشهد مثير للقلق، و يرسم صورة عن حجم توغل الفساد في تدبير الأموال العمومية، ويعطي الانطباع بأن الفساد هي قاعدة عامة بنيوية وهيكلية في بلادنا، تختلف فقط في درجة استفحالها من قطاع لأخر. لا شك، أن تقارير عدد كبير من الملفات الخاصة بالمجلس الأعلى للحسابات موضوعة في الأرشيف على الرفوف، تنتظر تحريكها منذ سنوات، لكن من يحركها يبقى هو صلب المشكل الكبير، فالقضاء مازالت يداه غير ممدودة بالشكل الكافي لفتح جميع الملفات، لأن الأمر قد يدخلها في متاهة عويصة، تجعل أغلب المسؤولين على مقصلة القضاء للمحاكمة نتيجة لسوء التدبير والتسيير. لذلك، لن نجد في تاريخ المحاكمات المتعلقة بملفات المجلس الأعلى للحسابات المعروضة على القضاء، سوى عدد قليل منها، تثير القيل والقال، وتدخل حسب رأي البعض في باب السياسة الانتقائية، تهدف إلى معاقبة الأصوات المعارضة، دون غيرها، خصوصا إذا كان وزير العدل ينتمي لحزب سياسي معين، فيصبح متخوفا من تداعيات تحريك الملفات على حزبه وعلى التحالفات الحزبية، فتصير مسألة رهينة حتى بالمواعيد الانتخابية. وبالتالي، فإنه إذا كانت كل تقارير المجلس الأعلى للحسابات التي يستحق المسؤولون عن اختلالاتها تقديمهم للقضاء قصد المحاكمة، لا تتم، فإن الأمر قد يفهم منه، بأن تلك التقارير تصبح أداة تستغل لأغراض سياسية. وهنا يحضرني جواب يحمل أكثر من دلالة لمسؤول حزبي وسياسي يشغل منصب رئيس مجلس تشريعي، أثناء استضافته في برنامج تلفزي حواري، عندما سئل عن موقفه من تورط أعضاء من حزبه في فساد انتخابي معروض على القضاء، قال بأنه يرفض مبدأ الانتقائية، حيث أنه تساءل لماذا هذا الأمر يخص أحزاب سياسية دون غيرها، وهو بذلك بدون أن يشعر يعترف بفساد عدد كبير من النخب السياسية، ويبقى الفرق فقط في المغضوب عليهم من غيرهم. من جهة أخرى، يمكن القول بأن هناك تحفظات على طبيعة الشخصيات التي تترأس المجلس الأعلى للحسابات، فبنظرة بسيطة، نجد أن آخر رئيسين، هما أحمد الميداوي وادريس جطو، يشتركان في كونها وزيرين سابقين للداخلية، بمعنى أنهما يخبران و يعلمان دواليب عمق الدولة، وبالتالي قد تبدو الأمور مفهومة، وحدود تحركات أجهزتهما الرقابية مرسومة سلفا، لذلك ما زالت بعض المؤسسات العمومية الحساسة بعيدة عن الرقابة من قبيل المكتب الشريف للفوسفاط وصندوق الايداع والتدبير، فضلا عن مراقبة وتقييم السياسات العمومية التي تكون جد مكلفة، قد تتجاوز بشكل كبير تدبير الميزانية في حد ذاتها، وبالتالي هل يمكن للمجلس الأعلى للحسابات تصويب الرقابة القضائية على مخطط المغرب الطاقي أو المغرب الأخضر أو المغرب الرقمي مثلا، ناهيك عن طبيعة المسؤولية السياسية لرئيس المجلس في فترة تقلده لمنصب وزير أول، وعن إمكانية تورط مؤسسات عمومية في ملفات الفساد في عهده. أجل، الجميع يعلم بأن محاربة ملفات الفساد مرتبطة أساسا بالإرادة السياسية، وهي غير متوفرة لا في الحكومات السابقة ولا الحالية، هذه الأخيرة اعترفت بعجزها في مواجهتها، بل اختيار لسياسة التعايش معها، حتى تضمن بقاءها واستمراريتها في المشهد السياسي. في هذه الأثناء يشهد العالم زوبعة كبيرة، احدثتها تسريبات وثائق بنما، تكشف عن حجم الأموال المهربة إلى الخارج، وبالطبع وردت أسماء لشخصيات مغربية متورطة، ستجد نفسها مطمئنة،حيث لن يسألها أحد، لأننا لم نتمكن من تعقب أموال الداخل المنهوبة فما بالك بأموال الشعب المهربة للخارج.