في خضم الجدل الدائر بين الأغلبية والمعارضة بمجلس النواب، حول مناقشة حصيلة الوزراء داخل اللجان النيابية الدائمة، أكد البرلماني السابق، والباحث في المالية العمومية، عبد اللطيف بروحو، أن القضاء الدستوري حسم بشكل واضح عدم دستورية أية مناقشة لحصيلة العمل الحكومي داخل اللجان. وأضاف بروحو في مقال تحليلي توصلت به "العمق"، أن المحكمة الدستورية أكدت في عدة قرارات أنه لا يمكن للجان الدائمة ممارسة اختصاصاتها إلا وفق ما ينص عليه صراحة النظام الداخلي لمجلس النواب الذي لا يسمح لها بمناقشة الخصيبة الحكومية. إقرأ أيضا: مكتب مجلس النواب يتسلح بالدستور لرفض مناقشة حصيلة الوزراء داخل اللجان وسجل أن المحكمة الدستورية منعت على اللجان البرلمانية مناقشة التصريح الحكومي، لأن ذلك لا يندرج ضمن اختصاصاتها، فكيف يعقل أن يدّعي البعض بأحقيتها في مناقشة الحصيلة الحكومية، مشيرا إلى أنه عوض أن تبادر اللجان البرلمانية لاستغلال الآليات الرقابية المتاحة لها دستوريا وقانونيا، وهي كثيرة وذات وقع وأثر حقيقي، حصرت نفسها في مطالبات مخالفة للدستور، مما يؤدي بالضرورة لإضعاف المعارضة وإضعاف المؤسسة البرلمانية برمتها. فيما يلي المقال التحليلي للخبير في المالية العمومية، عبد اللطيف بروحو: عرف مجلس النواب خلال السنة الحالية حدثين استثنائيين ميزا عمله ووظائفه التشريعية والرقابية، يتعلق أولهما في إعادة انتخاب هياكله، وثانيهما تقديم الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة. وقد جاء تقديم هذه الحصيلة بمبادرة من رئيس الحكومة في منتصف ولايتها، مما أعطى زخما سياسيا استثنائيا للدخول السياسي الحالي. وإذا كانت عملية إعادة انتخاب هياكل مجلس النواب قد عرفت جدلا سياسيا ودستوريا يتعلق أساسا بالتمثيل النسبي وبرئاسة لجنة العدل والتشزيع، فإن تقديم الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة في منتصف ولايتها أعطى دينامية استثنائية للنقاش السياسي والمؤسساتي والإعلامي، وهو ما كان المغرب في أمس الحاجة إليه لتفكيك المعطيات المتعلقة بالقضايا الكبرى للمجتمع والإشكالات والتحديات التي تواجه المملكة. غير أن النقاش العمومي في كل مرة كان يتحول لجدل يركز على بعض الشكليات المسطرية التي تحجب المضمون أو تنحرف به كليا عما يهم الرأي العام الوطني، فضلا عن أن هذا الجدل ينطلق في الكثير من الأحيان من مطالب مخالفة للدستور أو القوانين التنظيمية أو النظام الداخلي لمجلس النواب. وهو ما قد يؤدي لانحراف النقاش العمومي نفسه عن المضمون وعن المعطيات والأرقام، وعن الأجوبة الحقيقية لتطلعات أو تساؤلات المواطنين. وفي هذا السياق تأتي إثارة الجدل حول الإمكانات المتاحة للفرق للبرلمانية أو للجان الدائمة لمراقبة العمل الحكومي كما هو محدد دستوريا، ليتم خلطها بشكل غريب ومستهجن بمناقشة الحصيلة الحكومية من قبل مجلس النواب، في حين أن أحكام الدستور واضحة وجلية في هذا السياق ولا تحتاج لتأويل، كما أن توجهات القضاء الدستوري بالمملكة كان حاسما منذ أكثر من عشر سنوات في منعه أي انحراف في ممارسة المهام الرقابية عما تنص عليه أحكام الدستور والأنظمة الداخلية للبرلمان. إقرأ أيضا: "انتكاسة ديمقراطية".. رفض محاسبة حصيلة الوزراء يستنفر قوى المعارضة بالبرلمان وعوض أن تجتهد الفرق واللجان الدائمة لمجلس النواب في ممارسة مهامها المحددة دستوريا، وهي كثيرة وتفي بالغرض، انخرط بعضها في مثل هذا الجدل الذي ينحرف بالنقاش العمومي ويفرغه من مضمونه الموضوعي الذي يهم الرأي العام وعموم المواطنين. فقد حددت أحكام الدستور بشكل دقيق وحصري مسطرة تقديم الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة ومناقشتها، وهي قواعد آمرة لا يجوز الاتفاق على تجاوزها أو مخالفتها، على اعتبار أن المقتضيات المتعلقة بها تندرج في إطار العلاقة بين السلطتين التشريعية والتنفيذية المحددة دستوريا، والتي لا يمكن التصرف فيها خارج ما ينص عليه الدستور أو ما يتضمنه النظام الداخلي الذي يتم التصريح بدستورية مقتضياته قبل دخولها حيز التطبيق. ويتضمن الدستور المغربي عددا من المجالات الحصرية التي لا يمكن تفويضها أو الحد منها أو تقييدها، سواء تعلق الأمر بالاختصاصات الحصرية المخولة لرئيس مجلس النواب (وبشكل خاص الفصول 44 و54 و59 و96 من الدستور)، والتي ينفرد بها دون باقي مكونات البرلمان، أو بالاختصاصات الموكولة حصريا أيضا لرئيس الحكومة والتي لا يمكن تفويضها لأعضاء الحكومة كما لا يمكن تجاوزها أو الحد منها. ويعتبر تقديم الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، المنصوص عليه في الفصل 101 من الدستور، أحد المجالات المشمولة بهاذا الوصف، إلى جانب اختصاصه بتقديم البرنامج الحكومي (الفصل 88)، أوبالجواب على الأسئلة البرلمانية المتعلقة بالسياسة العامة (الفصل 100)، أو باقي الاختصاصات المحددة حصريا بموجب أحكام الدستور. وإذا كان تقديم البرنامج الحكومي ومناقشته يخضعان لمسطرة دستورية واضحة تتعلق بالعرض أمام البرلمانبمجلسيه في جلسة مشتركة، ويُتبع بمناقشة داخل كل مجلس على حدة، فإن الأمر يبقى محصورا على هذا المستوى ولا يمكن تجاوز هاته المسطرة الدستورية والسماح للجان الدائمة بمناقشتها. وهي نفس الأحكام والمقتضيات التي يتعين تطبيقها على تقديم الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، والتي تخضع بدورها لنفس المسطرة تطبيقا لقاعدة توازي الشكليات. ولا يمكن هنا ادعاء ما يخالف ذلك بسبب غياب ما يمنع ذلك، على اعتبار أن ممارسة اللجان الدائمة لاختصاصاتها يجب أن يتم بشكل دقيق وحصري في إطار ما يسمح به الدستور والنظام الداخلي للمجلس، وهو ما أكده القضاء الدستوري في عدة قداسات خلال السنوات العشر الأخيرة، والتي تمنع بشكل قاطع تجاوز اللجان الدائمة لاختصاصاتها المحددة دستوريا أو في النظام الداخلي لأحد مجلسي البرلمان. وهو ما أكده قرار المحكمة الدستورية رقم 93 لسنة 2019، والمتعلق بالبت في دستورية النظام الداخلي لمجلس المستشارين، بحيث اعتبرت أن الاختصاصات المخولة للجان الدائمةإما أن تكون محددة بنص الدستور (الفصول80 و81 و102) أو بمقتضى النظام الداخلي، ومنعت توسيع مجالات عملها بقرار لمكتب المجلس. كما أن نفس القرار منع مجلس المستشارين من تخويل اللجان الدائمة اختصاص مناقشة البرنامج الحكومي وصرح بعدم دستورية المادة 272 التي خولت اللجان هذا الاختصاص، وهو موقف واضح من القضاء الدستوري المغربي الذي حرص على منع توسيع مجالات عمل اللجان الدائمة خارج أحكام الدستور نفسه. كما رفضت المحكمة الدستورية، بموجب نفس القرار، مناقشة اللجان الدائمة للتقارير المرفقة بقانون التصفية (تصريحها بعدم دستورية المادة 250)، واعتبرت الأمر تجاوزا غير مقبول للمسطرة عرض ومناقشة مشروع قانون التصفية. ولا يمكن في هذا السياق الاستشهاد بدور اللجان الدائمة على مستوى مناقشة مشاريع الميزانيات القطاعية، لأن الاختلاف الجوهري واضح بين الحالتين، على اعتبار أن مسطرة مناقشة مشروع قانون المالية السنوي تسمح، بموجب مقتضيات المادة 48 من القانون التنظيمي لقانون المالية، بتقديم مشاريع ميزانيات القطاعات الوزارية والبرمجة متعددة السنوات للجان البرلمانية المعنية. وبناء على هذا المقتضى، يفصل النظام الداخلي لمجلس النواب مسطرة المناقشة داخل اللجان الدائمة للمجلس لمشاريع الميزانيات القطاعية، وخاصة المادة 214 والتي صرحت المحكمة الدستورية بمطابقتها للدستور. وهو ما يؤكد بشكل واضح أن اللجان الدائمة بالبرلمان تمارس اختصاصاتها المتعلقة بمناقشة الميزانيات القطاعية بشكل حصري وفق أحكام الدستور والقانون التنظيمي للمالية ومقتضيات النظام الداخلي لمجلس النواب، وذلك خلافا لما يحاول البعض إسقاطه على مجالات أخرى يمنعها القضاء الدستوريعلى هاته اللجان، وبشكل خاص القرار رقم 93/19 سالف الذكر. وهنا يتعين الوقوف مليا على هذا القرار، على اعتبار أن المحكمة الدستورية منعت مكتب المجلس من منح اختصاصات إضافية للجان الدائمة خارج ما يحدده الدستور، كما منعتها من مناقشة محاور البرنامج الحكومي مع القطاعات الوزارية المعنية. وهو ما يعني بشكل واضح أناختصاصات اللجان الدائمة لا يمكن توسيعها ضمن النظام الداخلي، فأحرى أن يتم السماح لها بممارسة اختصاصات لا يتضمنهاالنظام الداخلي، ويتعلق الأمر هنا بمناقشة الحصيلة الحكوميةمع القطاعات الوزارية. وقد أكد القضاء الدستوري هذا لمنحى الواضح في عدة قرارات أخرى، خاصة على مستوى منع اللجان البرلمانية من ممارسة أدوارها الرقابية خارج ما تنص عليه أحكام الدستور ومقتضيات النظام الداخلي، وهو ما كان واضحا في قرار المجلس الدستوري رقم 929/13المتعلق بالمادة 55 من الداخلي لمجلس النواب، ثم قرار المحكمة الدستورية رقم 37/17 المتعلق بالمادتين 114 و115 من النظام الداخلي لنفس المجلس. وعلى هذا الأساس، وإذا كان القضاء الدستوري قد منع توسيع اختصاصات اللجان الدائمة خارج أحكام الدستور، أو تمكينها من تجاوز حدود اختصاصاتها الرقابية العادية المحددة في النظام لداخلي لمجلس النواب، فإنه من باب أولى منعها من مناقشة الحصيلة المرحلية لعمل الحكومة، والتي تعتبر موضوع حدث دستوري ومؤسساتي استثنائي. وهذا الجدل لذي برز فجأة حول إمكانية مناقشة الحصيلة القطاعية لعمل الحكومة داخل اللجان الدائمة إنما أدى لتغييب النقاش الحقيقي حول مضامين الحصيلة نفسها، وحول التحديات الكبرى التي تواجهها بلادنا وجواب الحكومة على إشكالاتها. وكان أولى ببعضالفرق البرلمانية التي أثارت هذا الجدل الشكلي أن تركز على الاختصاصات الرقابية الواسعة المخولةللجان الدائمة للبرلمان، والتي تسمح بها أحكام لدستور وتتضمنها مقتضيات النظام الداخلي لمجلس النواب. وفي هذا السياق يحق للجان الدائمة طلب عقد جلسات للاستماع للوزراء ومسؤولي المؤسسات العمومية، وذلك طبقا لأحكام الفصل 102 من الدستور، ويفصل النظام الداخلي فيها ويعتبرها آلية رقابية ذات طبيعة خاصة، وتتعلق بحق للجان الدائمة للمجلس في استدعاء الوزراء ومسؤولي المؤسسات والمقاولات العمومية لمناقشتهم في القضايا التي تهم مجالات اختصاصهم، وذلك دون أن تسقط هاته اللجان في أي خرق يتعلق بتجاوز أحكام الدستور. كما يحق للجنة مراقبة المالية العامة توجيه الأسئلة والاستفسارات للمجلس الأعلى للحسابات، والاستماع إلى تقاريره الموضوعاتية، وهي إحدى الأدوات الرقابية ذات الأهمية البالغة، والتي تتقاطع أيضا مع آلية برلمانية أخرى تتعلق بالتقييم المتعلق بالمالية العامة (وفقا لأحكام الفصل 148 من الدستور). كما تعتبر المهام الاستطلاعيةآلية رقابية هامة مخولة للجان الدائمة لمجلس النواب، وإضافة إلى لجان تقصي الحقائق التي أصبح تشكيلها أكثر يسرا وفق أحكام الفصل 67 من الدستور المغربي، بحيث يحق فقط لثلث أعضاء مجلس النواب تشكيل لجان تقصي الحقائق في وقائع أو أحداث معينة، أو للتحقيق في التدبير العمومي للمصالح الوزارية أو المؤسسات والمقاولات العمومية، وهذا النصاب المحدد في الثلث فقط يتيح للمعارضة في أي وقت تشكيل هذه الهيآت الرقابية ذات الطبيعة الخاصة. إن الإصرار على تحريف النقاش العمومي، عبر حصره في شكليات مخالفة للدستور وللنظام الداخلي لمجلس النواب،يؤدي بالضرورة لإضعاف الدور الرقابي للبرلمان، وهو أمر ذا مخاطر مؤسساتية حقيقية، على اعتبار أن حصر الجدل في ما هو مخالف للدستور يمنع التطرق لمضمون الفعل لرقابي نفسه، ويمنع المعارضة البرلمانية نفسها من استعمال الآليات لرقابة المتاحة -على أهميتها البالغة- لتتبع ومراقبة وتقييم الأداء الحكوم