عرفت الساحة السياسية خلال الأيام الماضية نقاشا واسعا رافق إعادة تشكيل هياكل مجلس النواب في منتصف الولاية التشريعية، وهو نقاش صحي يعبر عن اهتمام الرأي العام بمكونات المجلس ووظائفه واصطفافاتها السياسية والحزبية. غير أن ما رافق ذلك من صراع بين مكونات المعارضة البرلمانية أصبح يشكل مخاطر حقيقية تتعلق بإضعافها وتشتت مجهوداتها. فبعد الخلاف على مبادرة الاتحاد الاشتراكي في موضوع ملتمس الرقابة ورفض باقي المكونات الانخراط معه فيها، ورفض زعمائها التنسيق المباشر، برزت خلافات أكثر حدة بخصوص رئاسة لجنة العدل والتشريع. ففي موقف مفاجئ وغريب، حاول الفريق الحركي التشبث برئاسة هاته اللجنة ذات الطبيعة الخاصة، مبررا موقفه بما أسماه "أحقيته في الاستمرار في هذه لرئاسة" خلافا للقواعد لدستورية والقانونية والسياسية التي يمكن الاحتكام إليها لحسم خلافه مع الفريق الاشتراكي الذي يطالب بها. وعلى الرغم من اختلافنا مع الفريق الاشتراكي في عدد من مواقفه الإيديولوجية والسياسية، إلا أن ذلك لا يمنع من التأكيد على احقيته الواضحة لرئاسة لجنة العدل والتشريع، وذلك استنادا على قواعد العمل السياسي وأحكام الدستور ومقتضيات النظام الداخلي وقرارات القضاء الدستوري. أولا: على مستوى أحكام الدستور: إن قاعدة التمثيل النسبي تجعل من نتائج الانتخابات التشريعية أساس تنزيل قاعدة التمثيل الديمقراطي، وذلك طبقا لمقتضيات الفصل 11 من الدستور. وهي نفس القاعدة التي ترتب آثارا دستورية أكثر أهمية تتعلق برئاسة الحكومة وبحقوق الفرق والمجموعات البرلمانية، وبحقوق المعارضة نفسها التي تمارس مهامها بشكل يتناسب مع تمثيليتها (الفصل العاشر من الدستور). وخلافا لما يعتقده البعض، فإن التمثيل النسبي لا يقتصر فقط على تشكيل مكتب مجلس النواب، وإنما يطال جميع مفاصل العمل البرلماني، باعتباره قاعدة دستورية آمرة وليست مُكمّلة. ويتعين الالتزام بهاته القاعدة في التوزيع الزمني وفي التمثيليات والتعيينات، وفي تشكيل جميع هياكل المجلس (العضوية في اللجان الدائمة والمؤقتة، رئاسة اللجان الدائمة، العضوية في الهيآت لتمثيلية، ممارسة المهام الرقابية والتقييمية...). وقد أكد القضاء الدستوري هذا الأمر في القرار رقم 924 لسنة 2013، والذي أكد بمناسبة بته في دستورية النظام الداخلي، على "ضرورة العمل بقاعدة النسبية فيما يخص حقوق وواجبات الفرق والمجموعات النيابية حسب عدد أعضائها، إعمالا لمبدإ مشروعية التمثيل الديمقراطي القائم على الانتخابات المقرر دستوريا، لاسيما في الفصل 11 من الدستور." ومن جهة ثانية، فإن التنزيل العملي لقاعدة التمثيل النسبي على مستوى رئاسة اللجان الدائمة للمجلس تنطلق بالضرورة من احترام التراتبية التي تتطلبها هذه القاعدة، ولا يمكن في هذا السياق القبول بأحقية الفريق الحركي في رئاسة لجنة دائمة في حجم العدل والتشريع بمبرر الرغبة في الاستمرار في رئاستها، على اعتبار أن تنازل الفريق الاشتراكي عن رئاستها في بداية الولاية لا يمنح أي حق مكتسب للفريق الحركي في الاستمرار في رئاستها مرة ثانية، أو فرض نفس التوافق الذي سبق. ثانيا: على المستوى القانوني: إذا كانت القاعدة العامة تسمح لجميع مكونات المعارضة بالترشيح لرئاسة لجنة العدل والتشريع بمجلس النواب، فإن النظام الداخلي تطرق بوضوح لحالة التوافق بين مكونات المجلس، ومنح إمكانية تقديم لائحة متوافق عليها (المادة 89 من النظام لداخلي)، وهو ما أجازه القضاء الدستوري واعتبره مطابقا للدستور. وإذا كانت هذه الإمكانية متاحة من الناحية القانونية الصرفة، فإن الممارسة العملية جعلت منها قاعدة مكمِّلة وتستند في تطبيقها على القاعدة الدستورية الآمرة والمتمثلة في التمثيل النسبي. وهنا يتعين التأكيد على أن إحداث آلية التوافق وتقديم لائحة وحيدة للتصويت كان ذا بعد سياسي وقانوني ومؤسساتي مهم جدا، فهذه الآلية القانونية تسمح بترشيد عملية الانتخاب على مستوى أعضاء المكتب ورؤساء اللجان الدائمة. كما أنها تمنع تحكم فريق برلماني بعينه أو جزء من مكونات مجلس النواب لغالبية المناصب على مستوى رئاسة اللجان، على اعتبار أن فتح المجال لتعدد الترشيحات سيؤدي بالضرورة لسيادة منطلق الأغلبية العددية، وهو ما يعني حصول من له أغلبية الأصوات على جميع المناصب الرئاسية باستثناء لجنة العدل والتشريع المنصوص عليها دستوريا. وهذه الحالة هي السائدة على مستوى الجهات وباقي الجماعات الترابية حيث تحتكر الأغلبية جميع الرئاسات وتتفق على ترك لجنة واحدة للمعارضة (الأغلبية هي من تحدد نوعية اللجنة ومن سيترأسها من المعارضة)، مما يمكن معه القول على أن غياب آلية التوافق عبر لائحة واحدة مبنية على التمثيل النسبي سيؤدي لنفس المشهد على مستوى مجلس النواب، وهو ما سمحت المادة 89 من النظام الداخلي بتفاديه، وضمنت بشكل واضح لجميع الفرق البرلمانية ترؤس اللجن الدائمة بشكل يتجاوز حقها الدستوري في التمثيل النسبي، غير أن هذا التوافق بقي مُحافِظا على الأولوية التي تفرضها هذه القاعدة الدستورية. وبالتالي فإن لتطبيق لعملي لهاته القاعدة يجب أن يخضع وجوبا للأولوية التي يفرضها التمثيل النسبي، وإذا كان الفريق الاشتراكي قد تنازل سابقا عن أولوية حقه في ترؤس لجنة العدل والتشريع عند بداية الولاية التشريعية، فإن أولوية حقه تبقى محفوظة عند التجديد النصفي وإعادة انتخاب الهياكل. ويتعين هنا التأكيد على أن عدم التوافق يفسح المجال لتعدد الترشيحات، والتي قد تحرم الفريق الحركي من رئاسة أية لجنة إذا صوتت باقي مكونات المجلس على منافسين لها من فرق ومجموعات نيابية معارِضة أو حتى من نواب غير منتسبين أعلنوا انتماءهم للمعارضة. وهو ما قد يشكل سابقة أكثر خطورة على مستوى تشكيل هياكل مجلس النواب، مما سيؤدي لمزيد من الإضعاف لموقع المعارضة البرلمانية ولتشتتها، وإلى حرمان الفريق الحركي نفسه من رئاسة لجنة دائمة أخرى، باعتباره كان سباقا لنقض هذا التوافق الذي كان يستهدف تنزيل قاعدة التمثيل النسبي. لذا فإن إصرار فريق برلماني على ضمان تعدد الترشيحات لرئاسة لجنة دائمة قد يؤدي لخلق سابقة خطيرة تتمثل في تعطيل مقتضيات المادة 89 من النظام الداخلي، وتوقيف الممارسة المؤسساتية التي كانت ناجعة في ضمان التوافق على أساس التمثيل النسبي (المادة 89 من النظام الداخلي)، وحرمان فريق معارِض أو أكثر من حقه في ترؤس لجنة دائمة، على اعتبار أن المجلس كله يصوت على المرشحين وليس فقط المعارضة. وبالتالي فإن القاعدة العامة المتوافق بشأنها على التمثيل النسبي تقضي بمنح الأولوية للفريق الاشتراكي لاختيار اللجنة الدائمة التي سيقدم الترشيح بشأنها، وذلك طبقا لأحكام لفصل 11 من الدستور ولمقتضيات المادة 89 من النظام الداخلي لمجلس النواب. ثالثا: على المستوى السياسي: إذا كان البعد الدستوري والقانوني واضح في مسألة انتخاب هياكل المجلس، فإن البعد السياسي يعتبر أكثر تعبيرا عن وضعية المعارضة البرلمانية التي يميزها التنازع والصراع بين مكوناتها عِوَض التعاون المطلوب منها في مواجهة الأغلبية البرلمانية. وقد تميز هذا الدخول البرلماني برفض عدد من زعمائها التنسيق المباشر، مما أدى لغياب العمل المشترك في مستوياته المعقولة. وبدأ التنافر يبدو أكثر حدة في ملفات سياسية كبرى، قبل أن يصل حد القطيعة بعد الخلاف حول رئاسة لجنة العدل والتشريع. وعوض أن تحرص المعارضة البرلمانية الحالية على ضمان مستويات عالية من التنسيق والتعاون لتمكين مكوناتها من ممارسة مهامها التشريعية والرقابية والتقييمية، فإننا نزعت للصراع الحاد على رئاسة لجنة دائمة، مما أدى لتركيز الرأي العام على تنازع المصالح الحزبية والصراع على الرئاسات، مما تسبب في إضعاف كبير للموقع السياسي للمعارضة. وهو أمر يصبح أكثر خطورة من الناحية السياسية والمؤسساتية إذا ما استحضرنا التوجيهات الملكية السامية التي تركز على تغليب المصلحة العامة والرقي بالمؤسسة البرلمانية وتمكينها من ممارسة مهامها التشريعية والرقابية بشكل أكثر فعالية ونجاعة. كما نستحضر أيضا تطلعات الوأي العام وانتظاراته من المؤسسة البرلمانية في هاته الظرفية الاستثنائية. وهذا الوضع إنما يؤدي لإضعاف المعارضة البرلمانية وتشتيت جهودها، في الوقت الذي تحتاج فيه المؤسسة للبرلمانية لمعارضة قوية تضمن ممارسة مهامها التشريعية والرقابية والتقييمية على أكمل وجه. ففي الوقت الذي كان فيه الرأي العام ينتظر مواقف المعارضة البرلمانية من القضايا الاقتصادية والاجتماعية الكبرى للمملكة، نجده يتفاجأ من صراع بين بعض زعمائها ورفضهم التنسيق السياسي والحزبي، وحالة الانتهازية التي تطبع باقي المكونات، ليصل الحد لتشبث الفريق الحركي بشكل هستيري بترؤس لجنة دائمة، وتهديدها بالطعن الدستوري في جلسة الانتخاب. رابعا: إمكانية الطعن أمام القضاء الدستوري: تتبعنا باستغراب شديد إثارة البعض لإمكانية الطعن أمام المحكمة الدستورية في حالة عدم حصول الفريق الحركي على رئاسة لجنة العدل والتشريع، خاصة وأن الإصرار على إلزام فريق آخر بالتنازل عن حقه كشرط لعدم الطعن يزيد من حدة الاستغراب. وهنا يتعين التأكيد على أن حالات اللجوء للقضاء الدستوري محددة بشكل دقيق وحصري في الدستور وفي القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، ولا يمكن في هذا لإطار تحويل الخلاف السياسي بين مكونات مجلس النواب إلى واقعة موجبة للطعن الدستوري. ولا يمكن في هذا السياق للمحكمة الدستورية أن تبت في نزاع سياسي أو قانوني خارج ما يحدده الدستور والقانون التنظيمي المنظم لها، وإلا فإن جميع الخلافات داخل مجلسي البرلمان ستتم إحالتها عليها، وهذا أمر غير منطقي ومخالف للمنظومة القانونية المغربية والمقارنة. فلا يوجد في أي دولة في لعالم ما يسمح بتحكيم القضاء الدستوري في كيفيات انتخاب الهياكل أو شكليات تطبيق مقتضيات النظام الداخلي المرتبطة بها، على اعتبار أن الاختصاص الوحيد المخول للقضاء الدستوري والمرتبط بالعمليات الانتخابية يقتصر حصريا على انتخاب أعضاء البرلمان نفسه، ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يمتد للسير الداخلي للمؤسسة التشريعية. وبالرجوع لمجموعة من السوابق المشابهة، فإننا نجد أن القضاء الدستوري المغربي كان حاسما في رفضه المطلق لفسح المجال لخرق القواعد المنظمة لحالات اللجوء إليه، بحيث نجده في قضايا أكثر أهمية قد رفض البت في أي نزاع لا يندرج في المجالات المحددة حصريا لمهامه واختصاصاته المحددة في القانون التنظيمي. ويمكن استحضار القرار رقم 826 لسنة 2012 الذي صرح فيه المجلس الدستوري بعدم الاختصاص في البت في النزاع المتعلق بانتخاب رئيس مجلس النواب، والقرار رقم 922 لسنة 2013 والذي رفض فيه القضاء الدستوري البت في الطعن في النظام الداخلي نفسه بسبب غياب أساس قانوني لهذا الطعن، وهو نفس الموقف الذي اتخذه في القرار رقم 924 لسنة 2013، بحيث اعتبر القضاء الدستوري أن غياب الأساس القانوني لرفع النزاع يمنعه من البت فيه. وباستحضار أبواب وفصول الدستور والقانون التنظيمي للمحكمة الدستورية، نجد القضاء الدستوري المغربي مختص حصريا في مجالات محددة تتعلق بالبت في الطعون المتعلقة بانتخاب أعضاء مجلسي البرلمان (دون غيره من عمليات الانتخاب الداخلية لانتخاب الهياكل) والتصريح بدستورية القوانين التنظيمية، والبت في الطعن في دستورية القوانين، إضافة إلى الحالات الأخرى المحددة بدقة. وبالتالي فإننا لا نجد أي مقتضى يُدرج في اختصاصات القضاء الدستوري المغربي إمكانية البت الطعن في كيفيات تطبيق مقتضيات النظام الداخلي أو انتخاب هياكل مجلس النواب... مما يجعل أي طلب في هذا الشأن غير قابل للبت فيه من قبل هذه الهيأة الدستورية. كما أن محاولة الزج بالمحكمة الدستورية في هذا النزاع يعتبر أمرا معيبا سياسيا ومؤسساتيا وسابقة غير محمودة في عمل المؤسسات، سواء تعلق الأمر بخلاف سياسي صرف بين فريقين، أو محاولة مجموعة نيابية الحصول على حقوق أكبر من حصتها الدستورية استنادا إلى قراءة متعسفة أو مُجتَزأة للنظام الداخلي، أو الضغط للحصول على رئاسة لجنة دائمة خارج منطق الفصل 11 من الدستور والمادة 89 من النظام الداخلي لمجلس النواب.