في هاته الحلقة التي سنناقش فيها مسألة مثارة بين النسقين ،النسق المحافظ والنسق الحديث رغم ان مسألة التحديث في التشريع الاسري المغربي يحتاج الى الزاد العلمي والخبراتي المرتبط بالتجربة القضائية الاسرية والاجتهاد الاسري ،وهنا يجب ان ننفتح على القضاء الاسري في اجتهاداته في مجال الانصبة والارث وتنزيل الاحكام المتعلقة بالإرث في مجال القسمة ،والدخول من باب التعصيب لإخراج إشكالات مرتبطة بالمساواة بين المرأة والرجل ،وهذا النقاش الذي سيجعل الجميع يقف مذهولا بين احكام ومسائل ارثية واضحة وبين مطالب بفتح الاجتهاد والتيسير حفاظا على الحقوق وخاصة للفئات الضعيفة منها المرأة والطفل . وهذه المسائل تحتاج الى التدقيق والتحقيق حتى تزول الغشاوة ،لأن الإرث بمسائله مضبوطة لايدخل الزيغ منها الا من في قلبه مرض او سوء فهم ولم يراجع جيدا . ولذلك قلت في مقال سابق ان فهم التشريع الإسلامي في مجال الإرث يحتاج الى دراسة قائمة على فهم النص وتنزيله في الواقع، وهذه المهمة لا يقوم بها أي شخص، بل هي اختصاص فقهاء واصوليين في المجال ، ويشيع عند دعاة التطور والحداثة الغربية ،أن الإسلام قد ظلم الأنثى في الميراث، وأنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين بإطلاق وتعميم. ولو فقه هؤلاء وهؤلاء أسرار التشريع الإسلامي في الميراث لعلموا أن الأنوثة والذكورة ليست هي المعيار في التفاوت بين أنصبة الوارثين. وإنما المعايير الحاكمة لذلك هي: 1- درجة القرابة بين الوارث والمتوفى, فكلما كان الوارث أقرب كان ميراثه أكبر, والعكس صحيح، دونما اعتبار لجنس الوارثين. 2- موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال, فالأجيال التي تستقبل الحياة وتستعد لتحمل أعبائها عادة يكون نصيبها من الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة وتتخفف من أعبائها, بل وتصبح أعباؤها عادة وشرعا مفروضة على غيرها، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة في الوارثين والوارثات, فبنت المتوفى ترث أكثر من أمه-وكلتاهما أنثى- وترث البنت أكثر من الأب، وكذلك يرث الابن أكثر من الأب، وكلاهما من الذكور. وفي هذا المعيار من معايير فلسفة الميراث في الإسلام حِكم إلهية بالغة، ومقاصد سامية تخفى على الكثيرين-وهي معايير لا علاقة لها بالذكورة ولا بالأنوثة على الإطلاق. 3- العبء المالي الذي يوجب الشرع الإسلامي على الوارث تحمله والقيام به إزاء الآخرين. وهذا هو المعيار الوحيد الذي يثمر تفاوتا-ظاهريا-بين الذكر والأنثى. لكنه تفاوت لا يفضي إلى أي ظلم للأنثى أو انتقاص من إنصافها، بل ربما كان العكس هو الصحيح. ففي حالة ما إذا اتفق الوارثون في درجة القرابة، وفي موقع الجيل الوارث- مثل أولاد المتوفى-يكون تفاوت العبء المالي هو السبب في تفاوت الميراث بين الأخ وأخته, ولذلك قالت الآية: (يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين) [النساء-11], ولم تقل يوصيكم الله في مطلق الوارثين. ذلك لأن الذكر هنا سيؤسس أسرة وينفق عليها. بينما الأنثى سيعولها ذكر، وسيكون ميراثها ادخارا لجبر الاستضعاف الأنثوي، وللتأمين ضد المخاطر والتقلبات. ولأن هذه هي فلسفة الإسلام في الميراث جاءت تطبيقها الواقعية امتيازا وتميزا للإناث على الذكور، فالاستقراء لحالات الميراث يقول لنا: أ-إن هناك أربع حالات فقط ترث فيها الأنثى نصف ميراث الذكر. ب-وهناك حالات أضعاف هذه الحالات الأربع ترث فيها الأنثى مثل الذكر تماما. ج-وهناك حالات عشر-أو تزيد-ترث فيها الأنثى ولا يرث نظيرها من الذكور. أي أن هناك أكثر من ثلاثين حالة ترث فيها الأنثى مثل الذكر, أو أكثر منه, أو ترث هي ولا يرث الذكر، في مقابل أربع حالات للذكر فيها مثل حظ الأنثيين!تلك هي الحقائق الكبرى لفلسفة الإسلام في الميراث. واذا اردنا ان نناقش بهدوء في موضوع الإرث ،فان الاتجاه الداعي الى تجديد وتغييره ، ينطلق من مدخل خلفي لنظام الإرث ،الا وهو التعصيب ، فقد طرح المجلس الوطني لحقوق الانسان في تقرير حول "النهوض بالمساواة والإنصاف بين الجنسين، حيث ركزعلى نقاط ضعف ما زالت قائمة، تشكل حالات من الميز المبني على النوع و بعضها فيه تمييز واضح ضد النساء، وحالات مرتبطة بالفقر والتهميش والهشاشة التي تمس شرائح واسعة من المغاربة وضمنهم النساء. والتوصية التي شكلت بداية لجدل عمومي بين مشارب مختلفة ،وهي تلك المتعلقة بالمساواة في الإرث، حيث جاء في التقرير بأن -المقتضيات القانونية غير المتكافئة المنظِّمة للإرث (تساهم) في الرفع من هشاشة وفقر الفتيات والنساء. رغم ان هذه التوصية تبقى غير سوية من مجموعة من النواحي ،حيث ان لحد الان نتحدث عن المساواة بين الجنسين بشكل افقي معتمدين على بعض القراءات والإحصائيات دون القدرة على طرح نقاش عام مع مختصين في مجالات متعددة لفهم التحول الاجتماعي الذي عرفه المغرب سواء من الناحية التاريخية المرتبطة بحالة المجتمع الذي كان يبنى على الثروة العائدة من الفلاحة وتقسيم الأراضي ،وكانت المرأة تعاني الامرين لغياب الحق في العدالة وكذلك نظرة المجتمع للمرأة بعد الاستقلال باعتبارها قد تؤثر على تماسك العائلة اذا ماطالبت بحقها في الإرث ،ولذلك كان من اللازم ان نفكك بنية المجتمع وفهمه للنص الديني مثلا ،أي هل مشكل المساواة بالمغرب هو مشكل مؤسسة كانت قانونا أو عرفا أو انه مشكلة عقليات تتغذى على الفردانية والاقطاعية البسيطة التي تسير على انتقال الحقوق الى أصحابها . ولذلك لم يكن سجال حاد في الموضوع بالمغرب ، على اعتبار ان النقاش فهم على انه سياسي وليس نقاشا علميا ،بل فقط مزايدات من تيار بعينه من اجل قضية محسوم في تفاصيلها ،واليوم يعاد طرحه بنفس حقوقي ومتحرر،لكن بصيغة أشمل بعد صدور تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة بتونس، الذي يعتبر "ثورة" غير مسبوقة في المنطقة، بالنظر إلى سياقه ومضامينه وحمولته الفكرية والحقوقية التي ينتظر أن يصل صداها إلى كل بلدان المنطقة بما فيها المغرب. كما ان الاعتماد على تقرير تونس في الانتصار للمساواة يعد مغامرة من تيار الحداثة بالمغرب ، فتونس في حد ذاتها تعيش مصالحة تاريخية مع القيم التراثية ورجوع المجتمع والشعب الى الديمقراطية من شانه ان يؤسس لثقافة الحوار التي هي اصل المشكل وليس مشكل قيم دينية تعد انتماء للجذور التاريخية ومكون حضاري لتونس . سواء في الحالة المغربية عقب صدور توصية المجلس الوطني لحقوق الانسان 2015، أو في الحالة التونسية عقب صدور تقرير لجنة الحريات الفردية والمساواة 2018، فإن الدعوة إلى مراجعة نظام الميراث في البلدين لإقرار مبدأ المساواة بين الجنسين خلفت ردود أفعال متباينة.. وخيرا فعلت النسوية الإسلامية حينما خرجت من فخ نقاش التعصيب لأنه ليس هو الطريق الذي نسلكه لتمكين المرأة وإتاحة المساواة في المجتمع ، لعدة اعتبارات أولها ،ان المشكل في المساواة هو مشكل في الحمولة الفكرية التي تحملها . ولذلك نحن امام هول وتضخم البيانات التي تأتينا تباعا كشلال رقمي ، اصبحنا نستهلك اكثر مما نبدع وحتى حينما نناقش تيار الحداثة الحقوقي ،فانه تيار تقليداني بعيد كل البعد عن الاجتهاد ،فهو لا يملك الوقت لكي يحرك خلايا عقله في قضايا ناقشها العقل الغربي نقاشا مستفيضا ،ولا هم له سوى ان يعطي انتاجا جاهزا للاستهلاك مثله مثل شطائر الهامبرغر أو البيتزاهت التي تمثل رونق المدنية الغربية المعاصرة او ما تسمى بزمن الحداثة السائلة . وإذا كان دعاة التوجهين الأول والثاني يعبرون عن تيارين بارزين يجسدان رأيين يخترقان المجتمعين المغربي والتونسي وغالبية مجتمعات المنطقة، أحدهما يوصف بالتيار الحداثي والآخر التيار الإسلامي، فإن دعاة التوجه الثالث يتكونون من خليط غير متجانس يضم عددا من الإصلاحيين والإسلاميين وحتى بعض الحداثيين، بمن فيهم بعض الأصوات النسائية/ النسوية، ينطلق كلٌ منها من اعتبارات ومبررات تبدو مختلفة بل وحتى متناقضة، ولكنها في نهاية المطاف تلتقي في حصيلة واحدة وهي تجنب الخوض في الموضوع في الوقت الراهن. وبالرجوع الى بواعث نقاش الإرث نجد اهم دافع تعتمد عليه النسائية، قراءة اجتماعية لوضع اجتماعي تعيشه المرأة العربية بصفة عامة ، فترى بعض المدافعين على اصلاح الإرث ، يركز على كون نظام المواريث الحالي ما هو إلا انعكاس للتركيبة العصبية للمجتمع الذي ظهر فيه ذلك التنظيم. وهذا الرأي غير دقيق علميا وتاريخيا ، أي ان نهاية الاستعمار في الوطن العربي كانت من نتائجه هذا الخلط بين النسق الوضعي الحمائي وبين نسق هوياتي يشكل الانتماء والإرادة ولذلك كان طبيعي ان تجد ان المجتمع يعيش حالة من الصراع الداخلي فيما بينه بسبب ازدواجية الانساق التي تمثل مدركات للمجتمع العربي ضحية الحماية والاستعمار الغربي . لذلك فمن نتائج هذا الوضع ان تجد غياب المساواة وعدم احترام الحقوق لأفراد المجتمع ، وكان من نصيب ذلك المرأة العربية التي عانت الامرين من هذا الامر. واهم ملاحظة نضعها للقارئ ان هذا السجال حول نظام الإرث عاطفي اكثر منه علمي ،ولذلك فبمجرد ان طرحت احداهن فكرة بإعادة النظر في نظام الإرث على قاعدة المساواة بين الرجال والنساء ،حتى انتشر جدال واسع بين طبقتين تقليديتين فئة ترى ان هذا المدخل أساسي في تكريس المساواة وفق مقاربة النوع والفئة الأخرى ترى ان هذا الامر فيه تطاول على الشرعية والمرجعية الإسلامية . مداخل لتصحيح بعض الأمور والمسائل : يتحدث الفقيه الحداثي بمنهج غريب قريب منه الى التشكيك وتعطيل الأصل بجلب الفرع وهذا امر لم يقله أي احد غيره ،وكأن بالرفيقي ينحاز الى منهج خالف تعرف في الإرث وهذا الباب باب العلم وليس باب الشهرة والبوز. وكان الاحرى ان يقدم رؤية واضحة لما يمكن ان يجود النص من خلا طرح او دراسة للموضوع ،لكن اختار منهج التطبيع مع ماقيل في وقت كان هو ينافح على فكر اكثر من اللامعقول في طرحه. ويبقى سؤال التعديل والتغيير مفتوح لكن بعلم وروية وساحاول ان اضع بعض مداخل التعديل في هذا الباب الذي هو باب صعب طرقه ،ومن دخله ضاع وأضاع . ففي مجال الانصبة وخاصة مدخل التعصيب يبقى الحال كما هو لكن يمكن ان يعطى للقاضي سلطة تقديرية في مجاراة بما يضمن حماية للمرأة في حال تبين سوء نية الورثة في عدم قسمة التركة بما يجعلها خارج الفريضة ،وهذا ابسط فعل ينحو اليه اولو التركة في حالة اتفاقهم على عدم قسمة التركة فيما بينهم وفق احكام المدونة ،لكن هذالفعل يبقى جرم والتساهل معه جرم اخر ،ولذلك يبقى القضاء سلطة الحماية للحقوق وفصل النزاع بين أصحاب الحق والباطل الى ان يرث الله الأرض ومن عليها . *رئيس مؤسسة تراحم للدراسات والأبحاث