توطئة: سبق أن انخرطت في النقاش الذي أثارته توصية المجلس الوطني لحقوق الانسان الداعية إلى المساواة بين المرأة والرجل في الميراث، وأعود مرة أخرى لأسهم في إثراء نقاش القضية نزولا عند رغبة أخ صديق غال (م. ب. م) ألح علي مشترطا أن يكون التناول تنويريا صِرفاً تعميما للفائدة، وتصحيحا لأفهام المغرر بهم من أبناء المسلمين ممن راحوا يشككون في قيم الإسلام وأسسه، ذلك أن "من الشبهات ... شبهة التمايز بين الرجال والنساء في الميراث، والتي يزعم مثيروها أنها دليل على انتقاص الإسلام من مكانة المرأة وكرامتها، وانتفاء المساواة بين النساء والرجال..."(1)، مستندين في ذلك إلى الاتفاقية الصادرة عن الجمعية العامة للأمم المتحدة بتاريخ: 1976.12.18 وما تلاها من توصيات هيئات ومنظمات ومؤتمرات دولية تنهل من الاتفاقية الأم التي تعرِّف مادتها الأولى التمييز ضد المرأة بأنه: "أي تفرقة أو استبعاد أو تقييد يتم على أساس الجنس ... وعليه يجب تساوي الرجل والمرأة في الحريات الأساسية في الميادين السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية أو في أي ميدان آخر ...". محددات الميراث وآلياته: ليست الذكورة والأنوثة محددا في المواريث، بل تتأسس على ثلاثة معايير: "أولها: درجة القرابة بين الوارث ذكرا كان أو أنثى وبين المُورِّث المتوفّى فكلما اقتربت الصلة زاد النصيب في الميراث. ثانيها: موقع الجيل الوارث من التتابع الزمني للأجيال... فالأجيال التي تستقبل الحياة عادة يكون نصيبها في الميراث أكبر من نصيب الأجيال التي تستدبر الحياة، وذلك بصرف النظر عن الذكورة والأنوثة للوارثِين، فالبنت ترث أكثر من الأم وكلتاهما أنثى بل وترث أكثر من الأب! والابن يرث أكثر من الأب، وكلاهما من الذكور.! (2) ثالثها: العبء المالي الذي يوجب الشرع على الوارث القيام به حيال الآخرين، وهذا هو المعيار الذي يثمر تفاوتا بين الذكر والأنثى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين"، لأن الذكر الوارث هنا في حالة تساوي درجة القرابة والجيل مكلف بإعالة زوجة أنثى بينما الأنثى الوارثة إعالتها فريضة على الذكر المقترن بها وحالات هذا التمييز محدودة جدا (أربع حالات) إذا قيست بعدد حالات المواريث".(3) 2. للمواريث في الإسلام آليتان: الفرض والتعصيب. فالفرض هو ما أثبته النص القرآني أو السنة النبوية(4)، حيث يحدد نصيب الميراث بالثلثين أو النصف أو الثلث أو الربع أو السدس أو الثمن. أما التعصيب فهو توزيع ما بقي وفضُل إن فضُل عن أصحاب الفروض بين الوارثين، وهو أي التعصيب ثلاثة أنواع: تعصيب بالنفس: لكل ذكر ليس بينه وبين المتوفّى/المُورِّث أنثى. تعصيب بالغير: ويكون لأنثى صاحبة نصف إذا اجتمعت مع وارث بالتعصيب بالنفس. تعصيب مع الغير: لا يكون إلا لأنثى مع أنثى. وضعيات ميراث المرأة: بعد هذه التأطير التأسيسي لموضوع ميراث المرأة في الإسلام نعرض بكثير من الإيجاز الحالات المختلفة لميراث المرأة، وهي أربع: أولا: الحالات التي ترث فيها المرأة نصف الرجل، وهي أربعة فقط وتقتضي: وجود البنت مع الابن، لقوله تعالى: "يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثلُ حظ الأنثيين" وجود الأب مع الأم ولا يوجد أولاد ولا زوج ولا زوجة، لقوله تعالى: "فإن لم يكن له ولد وورثه أبواه فلأمه الثلث". وجود الأخت الشقيقة أو الأب مع الأخ الشقيق أو الأب، لقوله تعلى: "وإن كانوا إخوة رجالا ونساء فللذكر مثل حظ الأنثيين". حالات حظ الأنثيين، لقوله تعالى: "ولكم نصف ما ترك أزواجكم إن لم يكن لهن ولد فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد وصية يوصين بها أو دين ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم من بعد وصية توصون بها أو دين". ثانيا: ما الحالات التي ترث فيها المرأة مثل الرجل فتتجلى في خمس حالات من أبرزها: ميراث الأب مع الأم مع وجود ولد ذكر أو بنت أو بنتين أو أكثر، مع التنبيه إلى تسجيل: تساوي الأب والأم مع وجود بنت إذا كان المتوفى امرأة. تنال الجدة مثل الأب مع كونها جدة للأم مع كونها أبعد من المتوفى. ميراث الإخوة لأم مع الأخوات لأم، لقوله تعالى: "وإن كان رجل يورث كلالة أو امرأة وله أخ أو أخت فلكل واحد منها السدس فإن كانوا أكثر من ذلك فهم شركاء في الثلث". تساوي الرجل والمرأة عند انفراد أحدهما بالتركة. ثالثا: الحالات التي ترث فيها المرأة أكثر من الرجل: ترث المرأة عموما بالفرض أكثر من الرجل، وللتدقيق نورد هذا التصنيف من أجل المزيد من التوضيح: الثلثان أكبر فرض تحظى به المرأة دون الرجل. النصف يظفر به الرجل الزوج في حالة غياب فرع وارث، وهي حالة نادرة، ويبقى للمرأة في أربع حالات. الثلث تناله اثنتان من النساء: الأم والأخوات، ولا يناله الإخوة لأم إلا في حالة عدم وجود فرع وارث أو وجد أخ لأم مع أخت لأم. (لاحظ التنصيص على المرأة كشرط ليستفيد الرجل) السدس يذهب لخمسة من أصل ثمانية للمرأة. الربع يستفيد منه الرجل/الزوج إذا وجد فرع وارث للزوجة، ويذهب للمرأة/الزوجة بنفس الشروط. الثمن تناله المرأة/الزوجة إذا وجد فرع وارث للرجل/الزوج. مما سبق، يتضح أن المرأة ترث في سبع عشرة (17) حالة، مقابل ست (06) حالات للرجل، وهذا يعني أن المرأة ترث من الرجل أكثر مما يرث منها. رابعا: الحالات التي ترث فيها المرأة ولا يرث الرجل: تتعدد الحالات وتبقى أبرزها حالة ميراث الجدة دون الجد. وللإشارة فميراث الجدة هو الذي تفردت بتحديده السنة النبوية دون بقية الفروض التي تم التنصيص عليها في آيات الإرث في سورة النساء. خلاصات: إن منظومة الإرث تُحصي أكثر من ثلاثين (30) حالة تتساوى فيها المرأة والرجل، وعشر (10) حالات ترث فيها المرأة أكثر من الرجل، وحالات ترث فيها المرأة دون الرجل، مقابل أربع (04) حالات فقط ترث فيها المرأة نصف الرجل "إذا تضاعفت أوجه كفالتها بشكل يجعلها في مأمن من العوز والحاجة...".(5) إن منظومة الإرث شرعٌ إلهيٌّ مقصده صيانة كرامة الانسان بصرف النظر عن جنسه وضمان أسباب هذه الكرامة بتوزيع عادل للثروة مع تمييز إيجابي لصالح المرأة، "لا ظلما للذكر، وإنما لتكون للأنثى ذمة مالية تحميها من طوارئ الأزمان والأحداث وعاديات الاستضعاف"(6)؛ تمييز إيجابي لصالح المرأة يمكنها من الاستقلال المالي ويجعلها "أحظى منه الرجل مراعاة لضعفها عن مسايرة الرجل في التكسب والتربح...".(7) 2. إذا كان الانسان عدو ما يجهل إذا سلِمت النوايا فإن اللائمة لا تقع على دعاة إنصاف المرأة وتساويها مع الرجل في الإرث موظفين توظيفا انتقائيا النصوص القرآنية لحالات معينة في موضوع ميراث المرأة للاستدلال من غير وجه حق على انتقاص الإسلام من مكانة المرأة وتحقيرها، بل اللائمة تقع على الهيئات والمجالس الإسلامية الرسمية والمراكز البحثية وعموم علماء المسلمين ومفكريهم الذين لم يأخذوا على عاتقهم التعريف بالإسلام رسالة للعالمين ومنظومة قيم وميثاقا للتعاون والسلم العالميين، ولو فعلوا لهللت البشرية لعدالة الإسلام وسمو مبادئه ورحبت به عوض معاداته عن جهل مشروع عمران أخوي بديلا لواقع الصراع والتطاحن. 3. لعل من حسنات توصية المجلس الوطني لحقوق الانسان، أن حفزت على البحث والتنقيب في موضوع يعتبر الإلمام به فرض كفاية، وإن كان لا يليق بهذه الهيئة إصدار هكذا توصية/زوبعة قبل البحث والتروي. وكما يقال: "رب ضارة نافعة". وصدق الله العظيم إذ يقول: "وعسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم"(8). والحمد لله رب العالمين. الهوامش: 1د. محمد عمارة في تقديمه لكتاب "ميراث المرأة وقضية المساواة" للدكتور صلاح الدين سلطان ص: 3 وما بعدها. 2شارة لطيفة في تقديم جيل الأبناء على جيل الأمهات والآباء في الميراث، إنها مستقبلية الإسلام. 3نفسه ص:4 4حُددت الفروض في آيتي الإرث (12،11) من سورة النساء ما عدا ميراث الجدة الذي حددته السنة النبوية. 5"ميراث المرأة وقضية المساواة" للدكتور صلاح الدين سلطان ص:12 6الدكتور محمد عمارة في تقديمه لكتاب "ميراث المرأة وقضية المساواة" للدكتور صلاح الدين سلطان ص:5 7"ميراث المرأة وقضية المساواة" للدكتور صلاح الدين سلطان ص:12 8سورة البقرة: 214