"البق ما يزهق" مثل مغربي قديم "يؤرخ" لفترة كانت فيه تلك حشرة بق الفراش بطلة المنازل في الأرياف والمدن على السواء، ويحمل المثل حمولة شعبية وثقافية غنية، حيث يطلق على من يدقق بشكل مبالغ فيه لا يترك أية صغيرة ولا كبيرة. ويمكن مثلا أن يطلق على "نظام للمراقبة" لا يدع أية فرصة للمخالفات أو الغش، ويكفي أن يقال عنه "البق ما يزهق" ليعلم الجميع أن المقصود الصرامة في المراقبة ... وهذه الحمولة التي لذلك المثل الشعبي لا شك أنها مستمدة من ثقافة خاصة في فترة الانتشار الواسع لحشرة البق في المنازل وما شابهها، وتهم بعض الأسر التي تحارب بشراسة تلك الحشرة بحيث لا تفلت ولو واحدة منها (بالدارجة المغربية "ما تزهق")، في الوقت الذي تنتشر فيه في منازل أخرى بالمئات وحتى الآلاف. ومناسبة استحضار ذلك المثل الشعبي، الذي ما يزال مستعملا على نطاق واسع، هو البلاغ الصحافي الصادر عن وزارة الصحة يوم الثلاثاء الماضي (3 أكتوبر) والذي تعلن فيه، حسب وكالة المغرب العربي للأنباء، عن "تفعيل نظام اليقظة الصحية والرصد الاستباقي لمواجهة أي احتمال لتسرب حشرة بق الفراش إلى التراب الوطني". وذلك على خلفية قضية السفينة الفرنسية التي خضعت للتفتيش الدقيق "على إثر إنذار صادر عن ربان السفينة، بعد الاشتباه في وجود بق الفراش في مقصورة الطاقم". ولا شك أن تفعيل اليقظة والرصد الاستباقي في مثل هذه الأمور أمر هام جدا ومطلوب لحماية الوطن والمواطنين، وهو أمر تشكر عليه الوزارة ويسجل لها. ذلك أنه لو فعَّلت وزارة الفلاحة قبل سنوات مثل هذه اليقظة والرصد الاستباقي لما حرم المغاربة اليوم من أكثر الفواكه شعبية لديهم وهي "أكناري" أو "الهندية"، التي أجهزت عليها الحشرة القرمزية، ونحن نعيش اليوم على كارثة غير مسبوقة حرمت آلاف الأسر من أحد مواردها المالية الأساسية، وحرمت المغاربة من أفضل فواكه فصل الصيف عندهم. لكن بلاغ وزارة الصحة يقع في مفارقة واضحة، ويثير أسئلة كبيرة. وسنقارب ذلك من خلال الملاحظات التالية: الملاحظة الأولى، لغة البلاغ قد يفهم منها أن المغرب خال من حشرة بق الفراش، وأن المصدر الوحيد لتلك الحشرة سيكون عبر الحدود. وهذا غير صحيح، فالمغرب له بَقُّهُ الذي ورثه من القرن الماضي وما يزال منتشرا في بعض المناطق. وهو ما يعني أن هذه الحشرة لا تحتاج لأن تتسلل إلى التراب الوطني مع وجود "نسخة أصيلة" منه. الملاحظة الثانية، لم يعط بلاغ وزارة الصحة أية تفاصيل حول بق الفراش، هل تقصد الحشرة التي يعرفها جل المغاربة، وما تزال أجيال منهم سبق ودخلت في المعارك الليلية اليومية ضدها حية وفي مواقع المسؤولية؟ أم تقصد "متحورا" مفترضا لتلك الحشر ظهر في فرنسا ويقاوم المبيدات الحشرية التي يستعملها المغاربة عادة في غياب أي تدخل لا من المصالح الصحية ولا من مصالح الجماعات الترابية، ويمكن من خلال التسلل الحدودي أن ينتشر ذلك "المتحور" بشكل وبائي ويغزو الفنادق والمنازل والفيلات والإقامات و ...؟ فعلى الأقل لم نسمع بوجود متحور في البق يمكن أن يفسر ربط تفعيل اليقظة والاستباق بإبلاغٍ من طاقم السفينة الفرنسية لم يكشف فحصها عن وجود الحشرة فيها. الملاحظة الثالثة، تتعلق بأهمية اليقظة والاستباق كمنهج حيوي في الأمن الصحي للمواطنين والمواطنات. فإذا كانت إبلاغُ تبين أنه واهم قد أثار تفعيل تلك اليقظة والاستباق، فلماذا لا يكون حادث السفينة الفرنسية، وتأزم الوضع في فرنسا كأحد أكثر الدول تبادلا من المغرب، وخطر انتشار بق الفراش عبر التبادل عبر الحدود، ... لماذا لا يكون ذلك وغيره فرصة لتوجيه جهود الوزارة والسلطات المحلية للقضاء على ما تبقى من بؤر هذه الحشرة في عدد من المناطق بالمغرب. هل للبق الفرنسي خصوصية تفسر هذا أم أن الأمر له اعتبارات أخرى لا ندركها؟ الملاحظة الرابعة، تتعلق بمخاطبة الرأي العام بلغة البلاغ الذي يوصي المواطنات والمواطنين بإبلاغ السلطات الصحية والعمومية في حال رصدها لتلك الحشرة. فهل الدعوة موجهة فقط لسكان المدن التي توجد فيها مناطق التبادل مع الخارج من موانئ ومطارات وغيرها، وتوجد بها المناطق السياحية التي تضم الفنادق التي يرتادها السياح؟ أم أن سكان المناطق التي ما يزالون يعانون من انتشار حشرة بق الفراش معنيون أيضا؟ إن الملاحظات السابقة لا تنقص بأي شكل من الأشكال من الإجراء الحيوي الذي اتخذته الوزارة بقدر ما توجه عنايتها إلى تفعيل التنسيق مع السلطات المحلية لاستئصال حشرة بق الفراش وغيرها من الحشرات مثل القمل، في عدد من المناطق أيضا. قد لا يقبل البعض بالحديث عن "بق المغرب" في ظل التناول الإعلامي الساخر من "بق فرنسا" ومحاولة البعض ربطه بالمهاجرين، وبسبب الربط الآلي الخاطئ بين تلك الحشرة والفقر والأوساخ ...، وبسبب بقايا الخوف الذي تركته أزمة جائحة كورونا. مع العلم أن تلك الحشرة قبل أن تضرب في قلب العاصمة الفرنسية اليوم، كانت قد ضربت قلب العاصمة الأمريكية أيضا، بل وضربت مقرات الأممالمتحدة فيها. فخلال سنة 2010 عرفت نيويورك استنفارا غير مسبوق لمواجهة انتشار حشرة بق الفراش، ونقلت مصادر إعلامية خلال شهر غشت من تلك السنة عن شركة "تيرمينكس" المتخصصة في القضاء على الحشرة قولها "(ن نيويورك هي أكثر المراكز الحضرية إصابة بالحشرة في الولاياتالمتحدة ومن بين المدن الأخرى الأكثر إصابة فيلادلفيا وديترويت وشيكاغو). وحسب نفس المصادر وخلال شهر أكتوبر من نفس السنة كانت الحشرة قد اقتحمت مقرات الأممالمتحدة، حسب تصريحات مسؤوليها في تلك الفترة... فالأمر يتعلق بحشرة قد تنتشر وتنتعش في عواصم الدول العظمى المتقدمة أيضا. وبالعودة إلى بلاغ وزارة الصحة فقد أكد على أمر هام وهو أن التدابير التي اتخذتها الوزارة "تأتي في إطار حرصها على سلامة المواطنين والمحافظة على الصحة العامة، والحيلولة دون تسلل هذه الحشرة إلى التراب الوطني"، وهذا مما لا شك فيه، غير أنه إذا كان تفعيل اليقظة والاستباق موجهان إلى التهديد الخارجي المرتبط بحشرة بق الفراش، فينبغي بالموازاة تفعيل برنامج وطني لاستئصال ما تبقى من بؤر تلك الحشرة في المناطق التي ما تزال تنتشر فيها هي وحشرة القمل!