أول ردة فعل يعبر عنها البعض حيال كل فاجعة تحل بهذا البلد السعيد هو إطلاق عنان التشكيك المرضي في كل شيء. التشكيك في أسباب ما وقع وفي المعطيات المتعلقة به، التشكيك في قدرة المؤسسات الرسمية على احتواء الموقف وإيجاد الحلول، التشكيك في نوايا المتدخلين أشخاصا وهيئات، التشكيك في أشكال الدعم ومصادره ومآلاته، ... وهي آفة خطيرة لا علاقة لها بالمطلق بالتعبير عن الرأي والموقف في معظم الحالات، مهما رفع أصحابها شعارات حرية التعبير والرأي. وهذه الآفة التي انشترت مؤخرا في ظل أجواء الحزن والألم اللذان ألما بالشعب المغربي جراء فاجعة زلزال الحوز المدمر، سبق وسجلت حضورها البارز في مختلف الأزمات والفواجع التي حلت بالشعب المغربي، سواء تعلق الأمر بفواجع عامة مثل انتشار وباء كوفيد، أو بأحداث محلية ناتجة عن الكوارث الطبيعية من فيضانات أو انهيار بنايات وغيرها. بل لا تنجو من مخالب هذه الآفة البغيضة حتى بعض الأعمال الإنسانية الحيوية مثل التبرع بالدم! وأخطر ما في هذه الآفة اليوم هو تشكيكها في جهود الدعم المالي الموجه لإعادة إعمار المناطق المنكوبة. وتسجل مواقع التواصل الاجتماعي وبعض المواقع الالكترونية انتشار خطابات التشكيك المرضي التي تتخذ لها أشكالا متنوعة وتدور كلها حول التبرعات المالية. ونقصد بالتشكيك المرضي كل تشكيك يستبق الأحداث ويتهم النوايا بدون وجه حق، ويعمم الأحكام السلبية بدون حجة. ولابد من تسجيل أمر هام ومفارق في نفس الوقت، وهو ملاحظة أنه كلما كانت هناك أموال تجمع لفعل الخير، سواء من طرف الجهات الرسمية أو من طرف المجتمع المدني أو فاعلين اجتماعيين كلما كانت هناك شكوك مرضية ميزتها المبالغة وانعدام المسؤولية ... وتتخذ آفة التشكيك المرضي في جهود جمع التبرعات المالية لإعادة إعمار المناطق المنكوبة عدة أشكال، أخطرها ما يكون على شكل أسئلة تبدو بسيطة لكنها سامة وغير بريئة ومدمرة، مثل سؤال: لمن سنقدم الدعم؟ وهو سؤال استنكاري ينزع الثقة من الأصل عن الجهات الرسمية التي تتولى جمع التبرعات المالية، وخاصة الصناديق المحدثة بشكل رسمي لذلك الغرض. وتجريد الجهات المشرفة والمدبرة للتبرعات المالية من عنصر الثقة الذي يعتبر أساسيا في مثل هذه الأمور يصيبها في مقتل. فحين تنعدم الثقة في جهة ما أو تضعف أو يلحقها تشويش فإن النتيجة هو العزوف عن التعامل معها فكيف بتقديم التبرعات لها. وفي حالات أخرى يطرح سؤال: وهل من ضمانات حول وصول أموالنا إلى مقصدها الإنساني؟ وهو سؤال يتمم "التشرميل" الذي يكون السؤال الأول قد أحدثه في وجه المؤسسات أو الجهات المشرفة على عمليات جمع الدعم المالي الموجه لتداعيات الكوارث المعنية. وهو سؤال يفترض انعدام الضمانات الأخلاقية وضمانات الحكامة الرشيدة في الجهات المشرفة على جمع أموال الدعم والتبرع. مما يعني تعريض تلك الأموال لتلاعبات المفسدين. وفي حالات تحاول إضفاء المصداقية على خطابها تطرح الأسئلة حول مصير ما تم جمعه من أموال في محطات ونوازل سابقة، والتي تتم إحاطتها بالشكوك من خلال العديد من الأساليب وخاصة السؤال عن كشف الحساب، وادعاء غياب الشفافية وغير ذلك. وهي مقاربة خطيرة لا تكتفي بإطلاق التهم والتشكيكات بل تحاول تعزيز خطابها بمحاولة إضفاء الطابع الموضوعي من خلال "تجارب" لترجيح احتمال تعرض التبرعات لما يزعم ذلك الخطاب أن تعرضت له مثيلاته من قبل. وكيفما كان الأسلوب المتبع، وسواء وعى بذلك المشككون أم لم يعوا، فهو في النهاية نوع من التأطير السيكولوجي للراغبين في التبرع والذي ينتج عنه الإجهاز على الأسس النفسية لسلوك التبرع لديهم، وذلك بقتل الدافعية إليه ودفع المستهدفين إلى الامتناع عن التبرع كلية أو التردد أو التبرع الشحيح على أقل تقدير. والأمثلة السابقة هي فقط لإبراز المقصود من التشكيك الذي نتناوله في هذا المقال، وهي كافية لإعطاء صورة مركزة عن الوقع السلبي الذي تحدثه لدى المتلقين وعن النتيجة الطبيعية والكارثية التي تتسبب فيها على أرض الواقع. إن ما سبق لا يعني أبدا أن جهود جمع وتدبير التبرعات المالية تشرف عليها الملائكة، فقد تحدث بعض الانزلاقات وبعض المخالفات، لأن القائمين على ذلك بشر في نهاية المطاف، وما وقع من حالات متفرقة يقع مثلها حتى في الدول العظمى المتقدمة. لكن كيفما كان الحال فتلك الحالات لا تتجاوز حدودا تبرر شيطنة أعمال التبرع المالي للمؤسسات الرسمية والوقوف ضدها والعمل على تثبيطها على حساب الغرض الأصلي منها. إنه حين ينهمك شخص في إنقاذ غريق فإن الاشتغال بالتشكيك في جهوده لا يعني إلا شيئا واحدا: من جهة، منعه من عمله أو تثبيط عزيمته، أو التشويش عليه. ومن جهة ثانية، تثبيط جهود دعمه ومساعدته من طرف الآخرين. والنتيجة عدم إنقاذ الغريق أو تأخيره والمخاطرة بحياته. ذلك أن واجب الوقت يفرض بالعكس الإسراع إلى مساعدته وتشجيعه، والعمل على تدارك النقص الذي قد يعتري جهوده، ... وحتى حين لا تكون مقارباته مناسبة أو غير إنسانية أو تشوبها شوائب ما فإن استحضار أن هناك حياة في خطر يفرض التعامل بحكمة وذكاء يقومان الاختلالات دون التأثير سلبيا في أصل الجهود أي إنقاذ الغريق. وبنفس المنطق فإن التشكيك المرضي في مصير التبرعات وفي الجهات المشرفة عليها ليست له سوى نتيجة موضوعية واحدة وهي عزوف الناس عن المبادرة إلى التبرع والدعم. ويمكن المجازفة بالقول إن خطاب التشكيك المرضي تحمله ثلاثة أصناف من الناس. الصنف الأول أناس يجهلون تداعيات نشر خطابات التشكيك في جهود جمع التبرعات لإعادة إعمار المناطق المنكوبة، ويعتقدون خطأ أنهم يعبرون عن موقف سياسي أو إصلاحي، أو أنهم يقومون بواجب النصح أو النقد والمحاسبة، في الوقت الذي يجهلون فيه أن ما يقومون به هو في الواقع أخطر بكثير من الفساد الذي يظنون أنه سيلحق ويمحق التبرعات. كما يجهلون أن المحاسبة لا تكون قبل العمل بل خلاله وبعده، وأن طبيعة الفاجعة تتطلب ترك الأسئلة حول حجم الأموال وطرق صرفها وأوجه ذلك الصرف والشفافية في كل ذلك إلى حين مباشرة أعمال الإعمار، لأن واجب الوقت الآن هو توفير المبالغ المالية الكافية لإعادة الإعمار بأسرع وقت ممكن. الصنف الثاني، هم ضحيا خطابات التشكيك المرضي، الذين أصابتهم عدواه، وانخرطوا بحسن نية في ترويج تلك الخطابات المشككة في التبرعات، وهم أيضا يجهلون النتائج العكسية النهائية والخطيرة لممارساتهم على ضحايا الزلزال وعلى أوضاعهم. فخطورة خطابات التشكيك المرضي هو في انتشارها السريع والواسع، والقابلية لدى البعض لتصديقها والامتثال لها. والصنف الثالث، أشخاص هم في الواقع ليس لهم استعداد للتبرع ولا رغبة لهم فيه، لا لخلفية سياسية أو إديولوجية، بل فقط وبكل بساطة لأنهم في حقيقتهم بخلاء، ويبحثون لأنفسهم عن مصوغات، فلا يجدونها سوى في التشكيك في جهود جمع التبرعات، لتبرير تقاعسهم وإرضاء ما تبقى من ضمائرهم، وإثارة ما يكفي من الغبار حول جمع التبرعات. والصنف الرابع، وهو الخطير، أناس واعون بنتائج تصرفاتهم، وهم لا يرغبون في نجاح جهود الإعمار لأسباب سياسية وغيرها مختلفة، وهم عديمو الحس الإنساني، أو أنهم يغلبون المقاربات السياسية المتطرفة على المقاربات الاجتماعية والإنسانية. هذه الأصناف الأربعة، هل يمكن تصور أن أحدا منهم سوف يساهم بالتبرع المالي في جهود إعادة إعمار المناطق المنكوبة؟ لا أبدا إنهم لا يتبرعون بأموالهم، ولكنهم في نفس الوقت لا يتركون من يتبرع، وكل حسب خلفيته ودوافعه. إن تداعيات الكوارث الطبيعية، مثل زلازل الحوز، تتجاوز على المدى القريب والمتوسط أعمال الانقاذ وتقديم الإسعافات الأولية وتوفير الإيواء المؤقت والغذاء وغيرها من ضروريات الحياة، والتي تتطلب التدخل المستعجل والفعال. فهذا المستوى من التدخل السريع والحيوي سجل فيه الشعب المغربي ملحمة فريدة حين هب من كل جهات المملكة ليقدم الألبسة والأفرشة والتغذية بل والمتطوعين لمباشرة جهود الإنقاذ. غير أن التداعيات التي تستوجب إعادة إعمار المناطق المنكوبة تتطلب، من بين ما تتطلب، أموالا ضخمة ووقتا معتبرا. فهذا المستوى من معالجة تداعيات الزلزال يعتبر المال عموده الفقري. وبقدر ما تتوفر الأموال الكافية بقدر ما تتم جهود إعادة الإعمار بشكل فعال وسريع. إن المطلوب بعد نجاح التدخل في المستوى الأول المتعلق بالإغاثة والإيواء المؤقت، ليس مجرد إعادة البنايات إلى ما كانت عليه بل توفير بنية تحتية أساسية تقاوم الزلازل وباقي الكوارث الطبيعية، مما يتطلب النظر إلى المجال المنكوب نظرة تنموية مستدامة تحوله إلى مجال قد فُكت عزلته وعولج خصاصه من حيث المؤسسات التي تقدم الخدمات الاجتماعية مثل المدارس والمستشفيات، وتم تجهيزه بالماء الصلح للشرب والإنارة و... وهذا بالضبط ما يقف خطاب التشكيك المرضي في وجهه بمنعه أو إضعافه أو التشويش عليه.