المحاور الأساسية: � مقدمة � أولا أهمية هذا المقصد وإبراز الشاطبي له . � ثانيا : وسائل تحقيق هذا المقصد عند الشاطبي � خاتمة
المقدمة: من المقاصد المرتبطة بالجانب التربوي والتعليمي مقصد رعاية الموهوبين، وتوجيه الكفاءات. وهو مقصد اصيل نبت وترعرع على عيني النبي عليه السلام، واستمر مع القرون الثلاثة الهجرية الأولى المتصفة بالخيرية. ثم ازدهر هذا المقصد بشكل كبير في أوج الدولة العباسية، وبالأخص خلال عهدي هارون الرشيد وابنه المأمون، حيث نشطت الحركة العلمية وحرص العلماء على احتضان المواهب والكفاءات ورعايتها. وحين انطلقت الخلافة الإسلامية في الأندلس اعتنى الأمراء بالعلوم والفنون، وساهم ذلك في ظهور المواهب والكفاءات في مختلف التخصصات. ثم ما لبث أن خفت هذا المقصد وضعف، حين تراجعت أحوال الأمة وتقهقرت. وكان الشاطبي ممّن سعوا إلى إحيائه، وبيان دور الأمة في النهوض به خلال القرن الثامن الهجري (ت790ه) الموافق للقرن الرابع عشر الميلادي. وهذا البحث محاولة لتقريب إسهامات الشاطبي في إبراز هذا المقصد، والثمار المرجوة منه في تحقيق نهضة الأمة، واستعادة ريادتها . وقد تطرق لهذا المقصد في مباحث متعددة من كتاب الموافقات، بدء من مقدمات الكتاب ، ومرورا بمسائل الحكم التكليفي وخاصة مبحث الفروض الكفائية، وأخيرا في مسائل متفرقة من كتابي المقاصد والاجتهاد. عاش الشاطبي في مرحلة عصيبة من تاريخ الأندلس، بدأت فيها حضارة المسلمين في الأفول، حيث الانقسامات السياسية، والنزاعات بين المماليك، لكنه تحدى كل ذلك وأبدع نظريته في المقاصد وتجديد الكتابة في أصول الفقه، إضافة إلى نظريات أخرى في الشأن التربوي والإصلاح المجتمعي. وليس من غرض البحث التعريف بالشاطبي فالعَلَم لا يعرّف. وقد توّقف كثير من المعاصرين على سيرته الذاتية وعصره، منهم الشيخ عبد الله دراز رحمه الله في تحقيقه للموافقات، وكذلك الدكتور أحمد الريسوني في نظرية المقاصد. كما خصّص الدكتور أيت الحسين سعيد المجلد الأول (1/8) من تحقيق الموافقات، لدراسة الواقع الاجتماعي والسياسي لعصر الشاطبي، ثم السيرة الذاتية له، حيث عرّف بشيوخه وبتلامذته وبتراثه. ظهر الشاطبي كعالم مجدد في وقت كانت الأمة فيه في طريق الانحدار، فلم تستفد من فكره ولا من آرائه التجديدية في مجالات متعددة ، وبقيت أغلبها حبيسة المخطوطات، إلى أن تنبّه لها بعض علماء القرن التاسع عشر كالشيخ محمد عبده وتلميذه الشيخ رشيد رضا، فنفضوا عن بعضها العبار وشرعوا في تحقيقها ودراستها. ويلاحظ أن جانب النهوض بالتربية والتعليم ظل مغمورا عند من تناولوا الشاطبي بالدراسة والتحليل، ولم يُكتب له البروز كما هو الشأن فيما أبدعه في علم المقاصد. ورأى بعض المعاصرين أنه إضافة إلى النذرة والشح في تناول هذا الموضوع عند الشاطبي فإن بعض من كتب حوله لا يُنسبه لصاحبه ولا يحيل عليه. ومن العلماء الذين التفتوا مبكرا إلى هذا الجانب عند الشاطبي الدكتور يوسف القرضاوي في محاضرة ألقاها بالجزائر ضمن المهرجان العلمي الذي أقيم للإمام أبي اسحاق الشاطبي في مدينة الجزائر سنة 1991 وتم طبعها بعد ذلك في سلسلة محاضرات قيمة للدكتور يوسف القرضاوي. والكتيب رغم صغره، إذ هو لا يتجاوز الخمسين صفحة من الحجم المتوسط، إلا أنه تضمّن إشارات تربوية وتعليمية، تضمّنت بعض الإشارات لعناية الشاطبي برعاية المواهب وتكوين من يصلح للفروض الكفائية. وتوصل القرضاوي من خلال تأمله فيما كتبه الشاطبي إلى أنه ليس مجرد أصولي مجدد، بل إنه إلى جانب ذلك مرب عظيم وأستاذ من أساتذة علوم التربية، له فلسفته التربوية ونظرته الخاصة التي سبق بها زمانه في بعض النواحي. ورأى القرضاوي أن الشاطبي قرّر إحدى القواعد التربوية الأساسية التي انتهى إليها فلاسفة التربية في العصر الحديث. وهي قاعدة مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين. وهو ما جعل بعض المؤسسات التعليمية تنشئ فصولا خاصة بالمتفوقين. واهتم المركز التربوي الجهوي بمدينة وجدة ( المغرب) بهذا الجانب عند الشاطبي أيضا حيث أصدر ضمن سلسلة بحوث تربوية محكمة كتاب : "خصائص التعليم الفعال عند أبي إسحاق الشاطبي تأصيل الرؤية وتجديد النظر" للباحث الحسن فايدة سنة 2016. أشار فيه إلى أهمية رصد الميولات لدى الأطفال منذ الصبا؛ لأن التخصص كامن في الفطرة والغريزة، ولا يحتاج إلى أكثر من أن يثار بحكمة؛ فيخرج بإذن ربه بحسب ما قدره. وتطرق للموجهات البيداغوجية انطلاقا مما كتبه الشاطبي بالمقارنة مع علماء الديداكيتك والتربية المعاصرين. ووقفت أيضا على بعض المقالات المتفرقة تشير إلى جهود الشاطبي في الإصلاح التربوي والتعليمي من ذلك مقال " من جهود الإمام الشاطبي في الإصلاح التربوي" لعبد المجيد بلبصير، في مجلة المحجة، عدد 306 ، سنة 2008 . ومقال آخر المقاصد العليا للتربية وتربويات الإمام الشاطبي، لمحمد الصاوي، ضمن مجلة المعرفة، عدد، 167 ، سنة 1430 ه موافق 7/2/2009 م. كما قام بعض الباحثين أيضا بتتبع الجانب التربوي التعليم عند الشاطبي، وأعدوا رسائل صغيرة لكن جلها مقتبس مما سبقت الإشارة إليهم، ولم يتوسعوا في الجانب الذي نحن بصدده. وقسمت هذا البحث إلى هذه المقدمة التي حاولت فيها التعريف بمن تتبّع إسهامات الشاطبي في جوانب التربية والتعليم عموما، ومقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفايات على وجه الخصوص. أما الفصل الأول فقد خصّصته للتأصيل الشرعي للمقصد وبيان أهميته، وتناولت في الفصل الثاني إبداع الشاطبي في تناوله للموضوع ومقترحاته للنهوض به، ثم خاتمة أجملت فيها أهم النتائج. أولا أهمية هذا المقصد وإبراز الشاطبي له: 1 أهمية ومكانة المقصد : إذا كان المقصد العام من التشريع حسب تعبير العلامة محمد الطاهر ابن عاشور هو :" حفظ نظام الأمة واستدامة صلاحه بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان. ويشمل صلاحه صلاح عقله، وصلاح عمله، وصلاح ما بين يديه من موجودات العالم الذي يعيش فيه". فإن تحقيق هذا المقصد رهين بوجود الكفاءات اللازمة، واتخاذ الأسباب الموصلة لتحقيق ذلك. ومن ثم تبرز أهمية العناية برعاية المواهب، وبتحقيق الكفاية من الفروض الكفائية التي تحتاجها الأمة. لقد رجّح عدد من العلماء والمفكرين إلى أن المواهب إلى جانب كونها عطيَّة من الله توجد بنسب متفاوتة عند كل الناس، لكن إبرازها واستواؤها يعود بنسبة كبيرة إلى الجهد المبذول لأجل اكتشافها وصقلها، ثم نموها وحفظها، وخاصة خلال فترة الطفولة. وهذا ما يؤكد الحاجة إلى تظافر جهود الأسرة والمؤسسات التعليمية وغيرها في رعاية المواهب، وحسن توجيه الكفاءات. إن الأطفال يولدون غير عالمين بمصالحهم، لكن عندهم نواة لكثير من المواهب والمهارات تحتاج فقط إلى بصيرة نافذة وقدرة واعية، تقوم على اكتشافها وحسن توجيهها لتبرز وتنمو بشكل ايجابي. وإذا كانت الموهبة تُعرف بأنَّها الاستعدادُ الفطري غير الطبيعي الذي يُبديه الفرد مع قدراتٍ استثنائية يتمتَع بها عن غيره ممّن هُم في مثل خصائصه، فإنها تحتاج إلى صقل ورعاية لتستوي وتخرج ثمرتها على الصراط المستقيم. وإنّ عملية تحويل الموهبة إلى مهارة والمهارة إلى قدرة عملية، ليست بالأمر السهل، لأنّه كلما زاد العلم بموضوع ما، زادت تعقيداته وتفاصيله، لذا إنّ عملية أن يصبح الفرد ماهراً في موهبته تتطلب الالتزام بتعلّم كلّ شيء حول الموهبة من أجل تحويل الموهبة إلى حقيقة. ومن جهة أخرى فإن الكفاءات الفردية مطلوب توفّرها في الأمة على وجه الإجمال، وينبغي أن تحظى بالرعاية والاهتمام. لقد خلق الله الناس عيالا على بعضهم البعض، وما ألهم هذا غير ما وُفق له الآخر. قال الله تعالى : {نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [الزخرف: 32].وإذا كان بعض المفسرين رأوا أن الآية تفيد معنى التسخير إلى جانب معنى الاستهزاء، فإن الطبري وابن عَطِيَّةَ رأوا أنها قاصرة على معنى التَّسْخِيرِ وَأنه لَا تَدَخُّلَ لِمَعْنَى الْهُزْءِ فِيها. واوضح ابن عاشور أن جانب التسخير في الآية يؤكد على مدنية الانسان وحاجته للاجتماع: " أَيْ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ، أَيْ أَسْبَابَ مَعِيشَتِهِمْ لِيَسْتَعِينَ بَعْضُهُمْ بِبَعْضٍ فَيَتَعَارَفُوا وَيَتَجَمَّعُوا لِأَجْلِ حَاجَةِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ، فَتَتَكَوَّنَ مِنْ ذَلِكَ الْقَبَائِلُ وَالْمُدُن،ُ وَعَلَى هَذَا يَكُونُ قَوْلُهُ: بَعْضُهُمْ بَعْضاً عَامًّا فِي كُلِّ بَعْضٍ مِنَ النَّاسِ إِذْ مَا مِنْ أَحَدٍ إِلَّا وَهُوَ مُسْتَعْمِلٌ لِغَيْرِهِ وَهُوَ مُسْتَعْمَلٌ لِغَيْرٍ آخَرَ". واهتم الشاطبي قبل ابن عاشور ببيان اختلاف الناس وتفاوت قدراتهم، وأن منهم من يصلح للرياسة والإمامة، كما أن منهم من يبرز في المهن البدنية كالجندية والخدمة وغيرها حيث قال:" فترى واحدا قد تهيأ لطلب العلم وآخر لطلب الرياسة وآخر للتصنع ببعض المهن المحتاج إليها وأخر للصراع والنطاح إلى سائر الأمور هذا...". ولقد تضمن الكتاب والسنة من الأحكام والتوجيهات ما يؤكد العناية بالكفاءات وحسن توجيهها. وحين دعا القرآن الكريم الأمة إلى النفير العام حيث يكون المجتمع مهددًا في وجوده، فإنه في نفس الوقت دعا إلى نفير خاص؛ يتمثل في اضطلاع فئات من الأمة بمهام خاصة، وهو ما بلوره الفقه الإسلامي حين ميز بين الفروض الكفائية والفروض العينية، قال الحق تعالى: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}[التوبة:122]، إشارة إلى ضرورة نفير طائفة للتخصص في وظيفة من الوظائف، وهي في هذه الحالة التفقه في الدين، والعلم بأحكامه من أجل تعليم الناس، وإثراء حياتهم بالمعارف والعلوم النافعة. ومن جهة أخرى فقد كان النبي عليه السلام موجها وراعيا للكفاءات، ومستثمرا للمواهب التي تحتاجها الأمة فلم يُعامل أصحابه معاملة واحدة. فقد حرض بعضهم على المرابطة والنبوغ في الجهاد البدني كخالد بن الوليد، لكنه أبقى أبا بكر مستشارا ووزيرا، وحين رأى موهبة الحفظ والإتقان عند زيد بن ثابث خصّه بكتابة القرآن وتعلم لغة اليهود. أما حسان فقد رشّحه للمداومة على رجز الشعر والجهاد بلسانه. 2 إبراز الشاطبي لمقصد رعاية المواهب وتوجيه الكفاءات: أشار الشاطبي في بحث لطيف من كتاب المقاصد في المسألة العاشرة إلى اشتراك عموم أفراد الأمة في بعض ما خص به النبي عليه السلام من المزايا والمناقب وقال : " كما أن الأحكام والتكليفات عامة في جميع المكلفين على حسب ما كانت بالنسبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا ما خص به، كذلك المزايا والمناقب، فما من مزية أعطيها رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى ما وقع استثناؤه إلا وقد أعطيت أمته منها أنموذجا، فهي عامة كعموم التكاليف..." وسرد أمثلة متعددة لبعض المواهب والعطايا التي تميز بها الصحابة وشاركوا فيها النبي عليه السلام. والذي يُستنبط من ذلك أنه يجب على المسلمين أن يعلموا أن سنة الله في الخلق ماضية، وأنه لن يُعدم زمان من وجود كفاءات ومواهب وعلماء ربانيين يرتقوا بأُمتهم، وما على أهل الفضل والصلاح إلا أن يُنقبوا عنهم، ويحتضنوا مواهبهم لتخرج على الصراط المستقيم. وختم الشاطبي المسألة العاشرة قائلا: " ومن تتبع الشريعة وجد من هذا كثيرا [مجموعه] يدل على أن أمته تقتبس منه خيرات وبركات، وترث أوصافا وأحوالا موهوبة من الله تعالى ومكتسبة". وإذا كان علماء المقاصد ومنهم الشاطبي قد حصروا المصالح التي جاءت الشريعة برعايتها في الكليات الخمس، فإن حفظ هذه الكليات وديمومتها في الأمة، لن يتحقق ما لم تتكامل جهود الأمة في العناية بالفروض الكفائية التي تحصنها وتحميها. فحفظ الدين يحتاج إلى العلماء الراسخين في العلم، الذين يدرؤون عنه تحريف الغالين و انتحال المبطلين، ويجتهدون في بيان أحكام الشارع فيما يستجد من الأقضية والنوازل. أما حفظ النفس والعقل والنسل فإنها تحتاج بدورها إلى مهن وتخصصات وإختراعات وإبداعات تحفظ للأمة بيضتها وسلامتها وعافيتها ونسلها، ولا يكون ذلك إلا بتوجيه الكفاءات لسد ثغرات هذا الجانب. أما حفظ المال وتحقيق الأمن المالي للأمة فلا يستغني لتحقيقه عن تكوين وتأهيل وإعداد خبراء في الاقتصاد والمالية الإسلامية. إن المقاصد الأصلية حسب الشاطبي تنقسم إلى المقاصد الأصلية العينية التي تحفظ الكليات الخمس، وإلى المقاصد الأصلية الكفائية وهي القيام برعاية المصالح العامة، وحماية الحقوق لجميع الخلق. وهذه الأخيرة تتعلق في جانب كبير بإنهاض أفراد من الأمة لسد ثغرات الواجبات الكفائية، وايجاد القائمين عليها. وبإعمال قاعدة ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، فإن مقصد توجيه الكفاءات يصبح من الواجبات الشرعية الكفائية. وهكذا فالبناء على المقاصد الأصلية " ينقل الأعمال في الغالب إلى أحكام الوجوب؛ إذ المقاصد الأصلية دائرة على حكم الوجوب، من حيث كانت حفظا للأمور الضرورية في الدين المراعاةِ باتفاق.....". وهذا لا يمنع أن بعض الواجبات الكفائية تتعلق بحظ المكلف، لكن ذلك من رحمة الله بالخلق، وهو لا يعارض أصلها الكلي؛ بل إن ذلك يكون من باب الإعانة والتحفيز على القيام بها وإتقانها. إن الله عز وجل هيأ الناس للحياة الاجتماعية، وجعل فيهم استعداداً للعمل المنتج القائم على التعاون مما يثري واقع الحياة الدنيا في هذا العالم الدنيوي الذي لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب. وإذا كانت الشريعة قد جعلت الاحتراف والتكسب على الجملة مطلوباً طلب ندب أو إباحة لا طلب وجوب ، فإنه كما ذهب الشاطبي، لو فرضنا أخذ الناس لذلك كأخذ المندوب حيث يسعهم الترك لأثموا لأن العالم لا يقوم إلا بالتدبير والاكتساب. وهكذا فحكم الاحتراف والاكتساب هو حكم المندوب بالجزء الواجب كفاية بالكل، فيصبح التأثيم بترك الكل مع كونه مندوباً بالجزء . وأكد الشاطبي أن الاكتفاء بالإباحة أو الندب في بعض الواجبات الكفائية، وأحيانا إحاطتها بمجموعة من الضوابط التي تمنع من اتباع الهوى فيها لا يقتضى القول بعدم وجوبها بالكلية لأنه : " الشريعة كلها دالة على أنها في مصالح في مصالح الخلق من أوجب الواجبات". وخصص الشاطبي مبحثا نفيسا للواجب الكفائي. وأثبت قول العلماء بأنه متوجه على الجميع، لكن إذا قام به بعضهم سقط عن الباقين، واعتبره صحيحا من وجه، لكنه رأى من جهة جزئية أن الطلب وارد البعض فقط ممن فيه أهلية القيام بذلك الفعل المطلوب. وأيد هذا الرأي من جهة المعقول حيث أن الطلب لا يتوجه على من لا يحسنه، وإلا فهو تكليف بما لا يطاق، وكذلك من جهة النقل حيث ثبت عن النبي عيه السلام أنه وجّه بعض أصحابه لترك مزاولة أعمال جليلة من فروض الكفايات كالإمارة وغيرها لأنهم لا يستطيعونها. وأبدع الشاطبي بعد ذلك في بيان حقيقة توجُّه الخطاب من فروض الكفايات إلى الأمة جمعاء، حيث رآه دعوة إلى العناية بمقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفاءات لسد الخصاص فيما تحتاجه الأمة من المصالح المجتمعية وقال:" قد يصح أن يقال: إنه واجب على الجميع على وجه من التجوز، لأن القيام بذلك الفرض قيام بمصلحة عامة، فهم مطلوبون بسدها على الجملة، فبعضهم هو قادر عليها مباشرة، وذلك من كان أهلا لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها- قادرون على إقامة القادرين، فمن كان قادرا على الولاية؛ فهو مطلوب بإقامتها، ومن لا يقدر عليها؛ مطلوب بأمر آخر، وهو إقامة ذلك القادر وإجباره على القيام بها؛ فالقادر إذًا مطلوب بإقامة الفرض، وغير القادر مطلوب بتقديم ذلك القادر؛ إذ لا يتوصل إلى قيام القادر إلا بالإقامة من باب ما لا يتم الواجب إلا به، وبهذا الوجه يرتفع مناط الخلاف؛ فلا يبقى للمخالفة وجه ظاهر". ثم شرع الشاطبي في بيان حقيقة تقديم القادر، وذلك بإعمال مقصد رعاية المواهب وحسن توجيه الكفاءات، لسد ثغرات الواجبات الكفائية التي تحتاجها الأمة. وانطلاقا من مبدأ قرآني مفاده أن الناس يولدون جاهلين لا يعلمون شيئا، لكن عندهم الاستعداد – على تفاوت- لتلقي العلوم والفنون واستيعابه وقال: " إن الله -عز وجل- خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم، لا في الدنيا ولا في الآخرة، ألا ترى إلى قول الله تعالى: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئًا} [النحل: 78]، ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية؛ تارة بالإلهام كما يلهم الطفل التقام الثدي ومصه، وتارة بالتعليم..." والانسان يسعى في ذلك لتحقيق مصلحته أصالة، لكنه يقوم بمصالح الغير عرضاً. ثانيا وسائل تحقيق هذا المقصد حسب الشاطبي : وإذا كان لمقصد توجيه الكفاءات ورعاية الموهوبين تلك الأهمية فإن رعايته، والسعي في تحقيقه، يقع على عاتق الأمة جمعاء. لقد وقع خلل كبير في واقعنا المعاصر ألقى فيه الناس مسؤولية توفير حاجيات الأمة الأساسية على الدولة، وأهمل دور الأفراد ومؤسسات المجتمع المدني. وكتب الدكتور الريسوني رسالة صغيرة سمّاها " الأمة هي الأصل" بين فيه أن تضخيم دور الدولة ووظائفها انحراف وانحطاط سواء بالميزان الشرعي أو بالميزان السياسي. وقد نبّه الشاطبي قبله إلى أن تحقيق الفروض الكفائية مسؤولية جماعية، تتطلب رعاية الموهوبين وتشجيعهم على المرابطة فيما ظهر عليهم من ميولات ومواهب فقال: " إن الله عز وجل خلق الخلق غير عالمين بوجوه مصالحهم لا في الدنيا ولا في الآخرة ... ثم وضع فيهم العلم بذلك على التدريج والتربية ... وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه ...." . إن الإشراف على مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفايات يقع على عاتق أطراف متعددة يمكن ترتيبها كالآتي: الأسرة، الأساتذة ومؤسسات التربية والتكوين، أولوا الأمر ومؤسسات المجتمع المدني، ثم المعنيون بالكفاءة أو الموهبة أي طلبة العلم على اختلاف تخصصاتهم. أولا: الأسرة والاكتشاف المبكر للموهوبين ورعايتهم وحسن توجيههم. اهتم الشاطبي برعاية هذا المقصد وهو لازال بذرة لم تتميز بعد، حيث أطلق على هذه الفترة بسن ما قبل التعقل، وهي مرحلة عمرية يكون الطفل ألصق فيها بوالديه وقال :" وفي أثناء العناية بذلك يقوى في كل واحد من الخلق ما فطر عليه وما ألهم له من تفاصيل الأحوال والأعمال فيظهر فيه وعليه ويبرز فيه على أقرانه ممن لم يهيأ تلك التهيئة فلا يأتي زمان التعقل إلا وقد نجم على ظاهره ما فطر عليه في أوليته....". فهذا النص من الشاطبي يؤكد أن المجهودا ينبغي أن يبذل من طرف الأسرة قبل سن التعقل، خاصة وأن جزءا كبيرا من هذه المرحلة يقضيها الولد في بيته مع والديه وإخوانه. وإذا كانت القابلية للتعلم، ولاكتساب الفنون والصنائع موجودة بالقوة عند كل طفل، فإن الذي يقوم باكتشافها إليها، وتوجيه الطفل إلى العناية بها هم أفراد الأسرة بدرجة أولى. لقد حمّل علماء التربية المسلمين الأسرة هذه المسؤولية، وألزموها بها. قال الغزالي: " اعْلَمْ أَنَّ الطَّرِيقَ فِي رِيَاضَةِ الصِّبْيَانِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ وَأَوْكَدِهَا والصبيان أَمَانَةٌ عِنْدَ وَالِدَيْهِ وَقَلْبُهُ الطَّاهِرُ جَوْهَرَةٌ نَفِيسَةٌ سَاذَجَةٌ خَالِيَةٌ عَنْ كُلِّ نَقْشٍ وَصُورَةٍ، وَهُوَ قَابِلٌ لِكُلِّ مَا نُقِشَ، وَمَائِلٌ إِلَى كُلِّ مَا يُمَالُ بِهِ إِلَيْهِ، فَإِنْ عُوِّدَ الْخَيْرَ وَعُلِّمَهُ نَشَأَ عَلَيْهِ، وَسَعِدَ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وشاركه في ثوابه أبوه وَكُلُّ مُعَلِّمٍ لَهُ وَمُؤَدِّبٍ، وَإِنْ عُوِّدَ الشَّرَّ وَأُهْمِلَ إِهْمَالَ الْبَهَائِمِ، شَقِيَ وَهَلَكَ وَكَانَ الْوِزْرُ في رقبة القيم عليه والوالي له " . وأكد الحاجة إلى رعاية ما ظهر عليه من علامات التميز الخلقي أو الابداعي فقال : ".....ثُمَّ مَهْمَا ظَهَرَ مِنَ الصَّبِيِّ خُلُقٌ جَمِيلٌ وَفِعْلٌ مَحْمُودٌ فَيَنْبَغِي أَنْ يُكْرَمَ عَلَيْهِ وَيُجَازَى عَلَيْهِ بِمَا يَفْرَحُ بِهِ وَيُمْدَحُ بَيْنَ أَظْهُرِ النَّاسِ..." . وأكد الحسن قايدة على عناية الشاطبي بإبراز دور الأسرة في رعاية الموهبة وتوجيه الكفايات فقال: " فالتعليم والتعلم بهذا عملية واعية تستهدف استخراج ما أودعه الله في الطفل من قدرات ومهارات وذكاءات توجد في حالة الكمون، تنتظر من يقدح زنادها لتخرج وتتفتق؛ فالشاطبي يعتبر هذه الغرائز الفطرية ، والمطالب الإلهامية، كالأصل الذي تبنى عليه تفاصيل العلم والعمل، فهي عبارة عن برنامج جاهز للاشتغال، وإنما يحتاج الخبير الذي يعرف كيف يستعمله بما أوتي من حكمة وخبرة وتجربة". إن التسليم بدور الأسرة في رعاية هذا المقصد يقتضي أن يتلقى الآباء فنون التربية ورعاية المواهب من خلال دورات تكوينية قبل الزواج وبعده أيضا. وأن ينخرطوا بقوة في العناية بالأبناء، ون تكون حواسهم مرهفة قصد التقاط كل موهبة، أو ميل لكفاءة معينة تحتاجها الأمة، ثم إحاطتها بالتوجيه والتحفيز. ولقد أعطى العلماء المسلمون نماذج في العناية بالأبناء وحسن توجيههم وتحفيزهم، وإعطاء القدوة من أنفسهم في سد ثغرات الواجبات الكفائية. ثانيا: المربون والأساتذة رأى الحسن قايدة أن الشاطبي اهتم بسن ما بعد التعقل في التوجيه ورعاية الكفاءات، لأن الطفل في تلك المرحلة أصبح مهيأ تمام التهيئة للتخصص. وعزز رأيه بقول الشاطبي: " لا يأتي زمان التعقل، إلا وقد نجم على ظاهره ما فُطر عليه في أوليته، فترى واحدا قد تهيأ طلب العلم، وآخر لطلب الرياسة، وآخر للتصنع ببعض المهن". إن هذا النص الثمين يظهر سبقا عند الشاطبي في العناية بما يُطلق عليه في زماننا بمسالك التكوين المهني أو الحرفي، والتي يوجه لها التلاميذ ابتداء من سن التعقل أي الثالثة عشرة تقريبا، وهي نهاية التكوين الأساسي الإلزامي. وألمح القرضاوي بدوره إلى مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفاءات من خلال استنباطه لقواعد التوجيه التربوي من الشاطبي، والتي تختلف حسب القدرات الذهنية والبدنية ، وحسب الاستعدادات الفطرية والميول المهنية. كما وضح أهمية رعاية جل الكفاءات التي تحتاجها الأمة فقال:" إنما الكلام هنا هو في فرض الكفاية الواجب على مجموع الأمة فيما يتعلق بالعلوم والصناعات التي تحتاج إلى تخصص، ويمكن أن ينجح فيها بعض الأفراد دون بعض، بل أن يبرز بعضهم ويتفوق، إذا وضع في المكان المناسب، واختير له ما يوافق مؤهلاته الفطرية. والشاطبي هنا يركز على ضرورة إقامة فروض الكفاية الواجبة على الأمة بإقامة القادرين على أدائها، وتهيئتهم للقيام بها على الوجه المرضي.." واعتمدت بعض الدول اليوم كالمغرب إطار مستشار التوجيه والتخطيط، حيث يُعين مستشارا لكل مجموعة مدارس، لكن الذي يلاحظ أنه يقوم فقط بالمهمة الادارية المتمثلة في تعريف التلاميذ والطلبة بالشعب، ومسالكها ومخارجها. ولعل المطلوب العناية برجل التعليم في كل المراحل وخاصة الأساسية ( إلى 16 سنة) وتزويده بالمهارات اللازمة التي تجعل منه المربي الحكيم، الذي لا يكتفي بالتعليم ، بل يتعداه إلى رعاية الكفاءات، والعناية بالمواهب، وحسن التنقيب عليها ورعايتها. ولقد نبه الشاطبي في كتاب الاجتهاد من الموافقات إلى أن مقام الاجتهاد يحصل فيه ما وصفه بالرباني أو المجتهد الحكيم الذي يُوجه ويُفتي كل فرد بما يناسب مؤهلاته وميولاته. ونرى أن ذلك لا ينبغي أن يقتصر على علماء الشريعة؛ بل يجب أن يتعداهم إلى كل مشتغل بالتربية والتعليم. إن قدرة المعلم والمربي على رعاية هذا المقصد، تتطلب عناية الدولة بتكوين المربين، وتزويدهم بالمهارات والقيم والمبادئ التي تؤهلهم لمرتبة المربي الحكيم. ولن يتم ذلك فقط بالتكوين النظري، بل لابد أن يصاحبه ملازمة للقدوات ، وتدريب على أيديهم. : "مِنْ أَنْفَعِ طُرُقِ الْعِلْمِ الْمُوَصِّلَةِ إِلَى غَايَةِ التَّحَقُّقِ بِهِ: أَخْذُهُ عَنْ أَهْلِهِ الْمُتَحَقِّقِين بِهِ، عَلَى الْكَمَالِ وَالتَّمَامِ". كما حصر أبو إسحاق صفات المربي الحكيم في ثلاثة أحدها العمل بما علم والثاني أن يكون رباه الشيوخ في ذلك العلم والثالث الاقتداء بمن أخذ عنه والتأدب بأدبه . إن الكشف المبكر عن المواهب، وإيقاظهم لما جُبلوا عليه وتفرّدوا به لن يقوى عليه إلا النخبة من أهل التربية، ممن لهم فراسة لا تخطئ، ومن الأمثلة على ذلك قصص بعض الأئمة مع تلامذتهم كأبي حنيفة النعمان مع أبي يوسف، وربيعة بن عبد الرحمان مع مالك وغيرهم. وبحث الشاطبي ما سماه بتحقيق المناط الخاص، ورأى أن صاحبه يحتاج إلى نور من ربه يعرف به :" النفوس ومراميها وتفاوت إدراكها، وقوة تحملها للتكاليف، وصبرها على حمل أعبائها أو ضعفها، ويعرف التفاتها إلى الحظوظ العاجلة أو عدم التفاتها، فهو يحمل على كل نفس من أحكام النصوص ما يليق بها، بناء على أن ذلك هو المقصود الشرعي في تلقي التكاليف، فكأنه يخص عموم المكلفين والتكاليف بهذا التحقيق". فقد يكون عند المكلف ميل لكفاءة معينة، أو موهبة خاصة، لكن صبره على أن تثمر قليل، وتحمله لمشاقها ضعيف، فلا يُوجه لها لأنها قد تفسد عليه دنياه وآخرته. واستدل الشاطبي لهذا التحقيق بأمثلة متعددة من السنة النبوية تتضمن توجيهات مختلفة للأفراد بحسب أحوالهم وقدراتهم ( نصيحة النبي عليه السلام لأبي ذر بترك الولاية ولو صغرت كالولاية على مال اليتيم ). إن مقصد الشاطبي من تحقيق المناط الخاص النظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية، بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان، ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة، حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف، مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخل، هذا بالنسبة إلى التكليف المنحتم وغيره. ونرى أن مراعاة الحظوظ لا ينبغي أن يقصر على الجانب السلبي ( الحظوظ والأهواء)، بل لابد من مراعاة أهمية الحظوظ كمقاصد تبعية في استنهاض همة الطالب، وتحفيزه على الانخراط الكامل فيما ظهر عليه من الميول، التي تخدم جانبا من جوانب الواجبات الكفائية. وهنا يبرز دور المربي الحكيم في حمل النفوس على ما يصلح لها، ويناسب استعدادها. ورأى الشاطبي أن التكليف غير المنحتم – ولعله يريد به فروض الكفايات- يحتاج إلى نظر أعمق عند المربين، يمكّنهم من مراعاة: " ما يصلح بكل مكلف في نفسه، بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص، دون شخص إذ النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك، فرب عمل صالح يدخل بسببه على رجل ضرر أو فترة، ولا يكون كذلك بالنسبة إلى آخر". لقد أكّد الشاطبي على أهمية اختيار من يرعى المواهب ويحتضنها، وطالب القائمين على الشأن العام بالإلتفات إلى تلك الجهات وحسن توجيهها وقال: ".. ويتعين على الناظرين فيهم الإلتفات إلى تلك الجهات فيراعونهم بحسبها ويراعونها إلى أن تخرج في أيديهم على الصراط المستقيم ويعينونهم على القيام بها ويحرضونهم على الدوام فيها حتى يبرز كل واحد فيما غلب عليه ومال إليه من تلك الخطط ثم يخلى بينهم وبين أهلها فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها". إنها خطط وتخصصات وفنون تنفع الأمة، وتحتاج إلى المربي الكفء الذي يُعين أصحابها، ويشجعهم على التخصص فيما ظهر فيهم من المؤهلات، والسعي لبلوغ المرتبة القصوى منها. وقد يكون من لوازم ذلك تكوين أقسام وشعب خاصة ببعض الموهوبين والمتفوقين، أو ببعض الكفاءات ( ولو كانت حرفية) تُمكن من إخراج الموهبة والكفاءة على أحسن الوجوه. ويتم ذلك وفق برامج دقيقة نظرية وتطبيقية . وتذكر كتب التاريخ أن بعض الخلفاء المغرب والأندلس رتّبوا مدارس نتخصصة لتخريج الموظفين، وأخرى للأمراء وإدارة شؤون الدولة. ثالثا العلماء أولو الأمر وقادة المؤسسات المدنية والجمعيات الاجتماعية: إذا تأكدت أهمية المربين في تحقيق مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفاءات، فإن التربية لا يختص بها المعلمون في المدارس؛ بل يشاركهم فيها العلماء وأئمة المساجد، والقائمون على المؤسسات الاجتماعية وجمعيات المجتمع المدني. إن الفرد يقضي جزءا من وقته في المسجد أو الكُتّاب، وجزء آخر في المراكز الثقافية والجمعيات، أو في فضاءات الترفيه والوقت الثالث، وهي كلها مؤسسات صالحة في زماننا للقيام على هذا المقصد وحسن رعايته وتحقيقه. إن جمعيات المجتمع المدني التي تشتغل مع الشباب واليافعين، وتقيم لهم الأنشطة والرحلات الاستكشافية، والمخيمات الصيفية، يمكنها من خلال كل ذلك أن تكتشف المواهب، وأن ترعى الكفاءات، وتُسهم في تخريج القادة والزعماء. ويكون ذلك بتدريب المؤهلين على القيادة وتزويدهم بالمهارات اللازمة، وكذلك باحتضان بعض من يصلح للعمل الخيري الانساني. وقد يتجلى في تدريب من يصلح لفنون الجدل والمناظرة والرد على خصوم العقيدة بطريقة علمية دقيقة.... ومن جهة أخرى فإن الشركات والمصانع والإدارت تضطلع حسب الشاطبي بمهمة تدريب الفرد فيما مال إليه، واستيعابه ليتمرن مع أهل تخصصه ممن سبقوه إلى الميدان. وفي ذلك يقول الشاطبي: ".. .. ثم يخلى بينهم وبين أهلها فيعاملونهم بما يليق بهم ليكونوا من أهلها". ومن ثم فإنه يجب على الدول أن تضع خُططا لما يُسمى بالتكوين المهني، وأن يتم ذلك من خلال مد الجسور مع الشركات والمصانع وإلزامها بتدريب نسبة معينة من الطلبة حسب إمكانياتها، مع إمكانية إدماجهم في العمل لاحقا. ثم إن دور هذه المؤسسات ينبغي أن يكون جادا، وألا يقتصر على إطلاع المتدرب على طريقة العمل؛ بل ينبغي أن يشمل التكليف بأمور محددة، وإنجاز أعمال في صلب التخصص تحت إشراف الخبراء. لقد كان للشاطبي نظر شمولي فيما يجب الاهتمام به من التخصصات والكفاءات، وأورد أمثلة صالحة لزمانه باعتبارها أصول الخدمات التي تحتاجها الأمة كالعرافة والنقابة والجندية والإمامة. ولا شك أن واقعنا المعاصر أفرز تخصصات جديدة لم تكن من قبل، وظهرت أعمال ومهن تحتاجها الأمة وتعتبر من فروض الكفايات كالمهن الطبية وشبه الطبية، وبعض الصنائع المبتكرة وغيرها من فنون الإدارة والإعلام والاتصال والتواصل. ويجمع ذلك القاعدة الذهبية التي قال فيها الشاطبي: " يتربّى لكل فعل هو فرض كفاية قوم". ومن ثم فإن تحقيق الكفاية في كل ذلك يتطلب جردا أوليا له، ثم وضع مسالك محددة توصل إلى تحقيق الكفاية منه، وتطويره وفق المستجدات والتطورات العلمية. رابعا: الطلبة والمرشحون لتغطية الفروض الكفائية وتُلقى على عاتق الشاب الذي وصل مرحلة البلوغ والرشد، والذي حدّد اختياراته وميولاته مسؤولية البروز فيما نذر نفسه له، والاجتهاد للتمكن منه وتقديم خدمة لنفسه ولأمته في ذلك. لقد حمّل الشاطبي من خلال نظريته في التوجيه وسد حاجيات الأمة الطلبة أنفسهم، حيث رأى أنه ينبغي أن يتوجه كل منهم إلى طلب ما هو مهيء له ومناسب لاستعداده، وما يرى نفسه أنه سيبرز فيه على أقرانه ويقدم به نفعا لأمته . كما رأى الحسن قايدة في كتابه التعليم الفعال عند الشاطبي أنه : " عندما يصل الطالب إلى هذه المرتبة؛ تكون وجهته قد حددت، وخطته قد رسمت، فإنه يتعين عليه قبل غيره أن يستشعر مسؤولية إنهاض ما نهض فيه ، وإتمام ما فطر عليه. وهو ما عبر عنه الشاطبي بقوله : " فعند ذلك ينتهض الطلب على كل مكلف في نفسه من تلك المطلوبات بما هو ناهض فيه " . أي أن الطالب نفسه يكابد ويجتهد ويرعى ما ظهر فيه من موهبة أو كفاءة، ويسعى كي يستولي على الملكة ويحيط بمبادئها وأصولها ويُصبح متخصصا فيها. ويكون الطالب في هذه المرحلة قد انتقل من الجدذع المشترك الذي كان يشارك فيه غيره إلى الدراسة والتكوين المتخصص. خاتمة: تنبهت الحضارة الغربية في عصرنا إلى أهمية هذا المقصد وراكمت فيه كسبا مهما، هو الذي يوجه اليوم كبريات المدارس والمعاهد، ويُسهم في إعداد القادة والكفاءات. لقد فقه الغرب المصالح المادية التي يحتاجها الانسان، وتحقق فيه قوله تعالى " {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا. انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا} [الإسراء: 20، 21] إن تفعيل أمتنا لهذا المقصد، بالضوابط الشرعية التي وضعها الشاطبي، وبالقيم التربوية التي يقوم عليها كفيل بتحقيق نهضة شاملة لأوطاننا، بسبب ارتكازه على البعد الغيبي والمسؤولية الايمانية في تحقيق الواجبات الكفائية. لقد خلص هذا البحث إلى أمور محددة نجملها في الآتي: أولا: مقصد رعاية الموهوبين وتوجيه الكفاءات نما وترعرع في البيئة الاسلامية، وكان الشاطبي رحمه الله ممن أبرزه وجعله أصلا لحفظ كثير من المصالح التي تحتاجها الأمة من خلال إيجاد وتكوين الكفاءات القادرة على سد حاجيات المجتمع. ثانيا: توصل البحث إلى أن رعاية هذا المقصد حسب الشاطبي مهمة مشتركة بين الأسرة ( ما قبل التعقل وبعده) وبين المربي في المؤسسات التعليمية وغيرها من مؤسسات المجتمع المدني، وكذلك قادة الدولة المسلمة والقائمين على الشأن التعليمي والتربوي. ثالثا: تأكد من خلال هذا البحث عناية الشاطبي بالقائم على رعاية هذا المقصد، وبضرورة أن يكون مربيا حكيما، قدوة للطالب وللمتلقي، ولاشك أن هذا الأمر يحتاج إلى إعادة النظر في مؤسسات تكوين المربين، وفي تمكين الآباء والأمهات من المهارات والقيم التي تعينهم على حسن رعاية المواهب وتوجيه الكفاءات. رابعا : الفرد حسب الشاطبي مسؤول عن رعاية كفاءته، وعن الاجتهاد في تحقيق ما يستطيعه من ذلك. وهذا الأمر يحتاج إلى فهم مقصد الشارع في إخراج المكلف عن داعية هواه، بحيث لا يكتفي بالحظوظ العاجلة فيما يأتي بل ينظر إلى مصالح أمته وفيما نذر له نفسه من الفروض الكفائية، ويسعى للتبريز فيها. المراجع والمصادر : بالإضافة غلى القرآن الكريم وتفاسيره، وكتب السنة وشروحها من موقع الشاملة، وكذلك المواقع الإلكترونية لبعض المجلات المتخصصة فقد اعتمد البحث على المصادر والمراجع التالية: ✓ الأمة هي الأصل، أحمد الريسوني، سلسلة اخترت لكم 6 ، مطبعة طوب بريس، سنة 2000 م. ✓ التربية عند الشاطبي، القرضاوي، سلسلة محاضرات قيمة للقرضاوي، دار الصحوة ودار الوفاء، ط1 ، 1415 ه موافق 1994 م . ✓ خصائص التعليم الفعال عند أبي إسحاق الشاطبي تأصيل الرؤية وتجديد النظر، الحسن فايدة، نشر المركز الجهوي لمهن التربية والتكوين بوجدة، سلسلة بحوث تربوية محكمة 1، مكتبة قرطبة وجدة، ط 2016. ✓ كتاب الموافقات لأبي إسحاق الشاطبي، تحقيق وتعليق الحسين أيت سعيد، مراجعة وتنسيق محمد أولاد عتو، منشورات البشير بنعطية، فاس ، المغرب، ط 1، 1438 ه موافق 2017 م . ✓ الموافقات في أصول الشريعة لأبي إسحاق الشاطبي، شرحه وخرّج أحاديثه الشيخ عبد الله دراز، دار الكتب العليمة، بيروت ، لبنان ط 3 ، 1424 ه موافق 2003 م . ✓ فتاوى الإمام الشاطبي، تحقيق وتقديم محمد أبو الأجفان، مكتبة العبيكات،ط 4، 2001 ه. ✓ إحياء علوم الدين، أبو حامد الغزالي، دار التوزيع والنشر الإسلامية، ط1، 2005. ✓ لفتة الكبد في نصيحة الولد، ابن الجوزي، تقديم مروان قباني، المكتب الإسلامي، ط3، 1988. *د. الحسين الموس، باحث في أصول الفقه ومقاصد الشريعة