النسيان حالة يتصف بها الإنسان بطبيعته التي فطره الله تعالى عليها، ومن بين ما يقال أن الإنسان سمي إنسانا لأنه معرض للنسيان، لكن هذا النسيان ينقسم إلى نوعين، نوع طبيعي وآخر مرضي؛ فحينما ينسى الإنسان شيئا أو موضوعا أو واقعة كلها أو جزء منها يكون قد مر عليها وقت من الزمن، فهذا قد يعتبر أمرا طبيعيا، بل أن البعض الذين يتصفون بالقدرة على التذكر بشكل كبير لما يعيشونه من أحداث ووقائع بتفاصيلها الدقيقة ولفترة كبيرة يعتبرون أناسا خارقون ويتمتعون بقدرات تفوق الطبيعة البشرية، لذلك يمكن أن نعتبر النسيان في هذا الاتجاه أمرا طبيعيا، بينما يعتبر النوع الثاني من النسيان مرضيا حينما يتصف شخص ما بالنسيان الكثير، وقد يكون ذلك حتى في ما يحدث خلال فترة قصيرة، ليصل إلى الحالة المرضية القصوى التي يطلق عليها مرض " ألزهايمر ". الجديد عندنا في المغرب هو النوع الثالث من النسيان، الذي اشتغلت حكومة أخنوش على تطويره، وهو النسيان بفرض الأمر الواقع، وللأمانة فهذا النوع الثالث ليس من إحداث هذه الحكومة ولكنه من اكتشافاتها الكبيرة خلال هذه الولاية التي قاربت على إكمال نصف مدتها، ذلك أنها اكتشفت في عدد كبير من المغاربة أنهم بوعي وبغير وعي يخضعون ويستسلمون لظاهرة النسيان التي يقودها عامل الزمن فيما يمكن أن يصيبهم من ضرر، وفيما يمكن أن يقيموا الدنيا ولا يقعدوها في بداية الأمر رفضا له، لكن ذلك لا يدوم إلا فترة محددة من الزمن ليطويه عامل النسيان ويجعلهم يستسلمون له ويخضعون في النهاية للأمر الواقع، وهذا ما جعل حكومة أخنوش تنتبه لهذا الأمر وتدخله في سياستها التدبيرية لمختلف الملفات والقضايا التي تدخل ضمن اختصاصاتها، بل عملت على تطوير عامل النسيان من خلال توظيف آليات أخرى مساعدة على تركيزه واختصار مدة تأثيره، بالاعتماد في هذا الاتجاه على تحريك بعض وسائل الإعلام المأجورة وبعض من يسمون ب "المؤثرين"، وبالهروب من المواجهة مع الشعب حينما تغضبه بعض سياساتها وقراراتها، ارتكانا إلى مقولة " كم من حاجة قضيناها بتركها "، وهو ما يترجمه الضعف الكبير إن لم نقل شبه منعدم في السياسة التواصلية لهذه الحكومة؛ ومن أبرز مظاهر هذا الأمر ما نلحظه في تعامل الحكومة مع موضوع غلاء الأسعار في المغرب، الذي انطلق كالنار في الهشيم يشعل كل المواد التي يحتاجها المواطن المغربي في معيشه اليومي، وصلت بشكل غير مسبوق حتى إلى المواد الأساسية التي تسد رمق الفقراء والمحتاجين من أبناء هذا الوطن، وبالطبع لا يمكن هنا إلا أن نخص بالذكر الارتفاع المتوالي لأسعار المحروقات باعتبار تأثيرها المباشر على أسعار كل المواد والمجالات الأخرى، والتي يعتبر رئيس الحكومة من أهم المستثمرين فيها، هذه الزيادات التي لم تفلح الأقلام والأشخاص المنخرطين في لعبة النسيان الحكومية في الإقناع بمبرراته، هذا الغلاء أشعل الاحتجاج في صفوف كل الفاعلين، وخلق حالة من الغليان الشعبي والاستنكار الغير مسبوق الذي انخرطت فيه فئات من أبناء الشعب لم تكن في السابق تعير اهتماما للسياسات الحكومية ولا لتأثيراتها على الحياة العامة ما دامت تتحرى عدم المساس بأساسيات قوتها اليومي البسيط، لتجد نفسها بين عشية وضحاها أمام ارتفاع كبير للمواد الأساسية ( الزيت – الخضر – الخبز – الشاي – التنقلات – الخدمات ... )، وقد تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي احتجاجات وصراخ النساء وبكاء الرجال ويئس الشباب، بسبب الأوضاع الاجتماعية المزرية التي خلفها غلاء الأسعار؛ هذا الغليان الذي وصفناه بشكل مقتضب، ما فتئ أن يخمد ويهدأ بعد فترة قصيرة رغم أن بواعثه ومسبباته ما زالت قائمة بل وفي ازدياد مستمر، وآخره الزيادات الأخيرة في أسعار المحروقات، دون امتلاك الشركات المستثمرة في هذا المجال وعلى رأسها شركة السيد رئيس الحكومة لأي مبررات محلية أو دولية تسند إليها تجبرها هذا وطغيانها على الشعب المغربي دون حسيب ولا رقيب، وهو أمر طبيعي ما دام المستفيد من الاغتناء من جيوب المغاربة هو نفسه المفروض فيه حمايتهم والدفاع عنهم. ومن هذا المنطلق، يتبادر إلى الذهن سؤال عريض – ما الذي أطلق العنان لجرأة هؤلاء الشركات وغيرها على الزيادات تلو الزيادات، دون أي توجس للفاعلين السياسيين منهم ( وخاصة من يتقلدون المناصب المتقدمة في تدبير الشأن العام ) من تأثير ذلك على شعبيتهم التي عادة ما يحرص الفاعل السياسي على ضمانها، أو على الأقل الحفاظ على قدر معتبر منها؟ الجواب تسوقه التجارب السابقة التي وقفنا خلالها غير ما مرة على مراجعة بعض القرارات الكبرى التي كانت تظهر مؤشرات تهديدها للسلم الاجتماعي، بينما الواقع الحالي يظهر " بالعلالي – كما يقول المغاربة " الجشع والتمادي في القضاء على الفئات الفقيرة والمتوسطة من أبناء الشعب المغربي نتيجة تضارب المصالح بين من هو في نفس الوقت الفاعل الحكومي والمستثمر الاقتصادي، والخلاصة أن الحكومة وظفت لعبة النسيان بفرض الأمر الواقع، مطمئنة أن سياساتها في عدد من الملفات، وخاصة فيما يتعلق بالسيبة التي يعرفها مجال تحديد الأسعار، لن يدوم الاحتجاج عليه ولن يكون لذلك أي تأثير، ولن تستطيع هذه الاحتجاجات مقارعة لعبة النسيان والخضوع لفرض الأمر الواقع، الذي أظهرت هذه الحكومة أنها تجيد لعبها لحد الآن، لكن في النهاية لا بد من التذكير أنه كم من الناس وصل بهم الحال إلى فقدان الذاكرة وليس مجرد النسيان، لكنهم تماثلوا للشفاء بسبب صدمات تعرضوا لها، فكفاكم من الصدمات لأن الشعوب رغم كل ذلك أثبتت على مر العصور أنها قد تصبر وقد تتجاوز، لكنها ترفض التغول في احتقارها والمس بكرامة عيشها.