منذ أكثر من عقد من الزمن، وبما لا يعد ولا يحصى من الخرجات الإعلامية، وبمناسبة وبغير مناسبة، وبالدموع والانتحاب أحيانا، وبالانتفاخ والزهو أحيانا أخرى، لم ينفك يردد عبد الإله ابن كيران، الأمين العام لحزب العدالة والتنمية، أنه هو شخصيا وحزبه معه من بعده، هم من أنقذوا النظام السياسي المغربي، أي النظام الملكي، عندما انطلقت حركة 20 فبراير سنة 2011، موجة ضمن أمواج الاحتجاجات الشعبية في الأقطار العربية، التي اندلعت متتالية ومتزامنة في ما سمي بحراك الربيع العربي، وتساقطت بسببه أنظمة عربية، واضطربت الأوضاع ولا تزال في دول عربية أخرى. ومؤدى ادعاء وكلام بنكيران وحزبه، إذ ينطقه هو تلميحا تارة، وتصريحا ملء الأشداق تارة أخرى، ويكاد ويود لو ينحته على صخور الجبال والهضاب والوهاد، من كثرة ترديده والتسبيح به، أن الربيع العربي المغربي مجسدا في حركة 20 فبراير، كاد أن يعصف بالبلاد وبالنظام، لولا أنه هو ومن معه، تصدوا لحمايته من هذا البأس المزلزل!! فهل هذا صحيح؟ أم أنها المغالطة والتضليل، أم أنه الوهم الغبي الكبير إن أحسننا الظن بأصحابه، أم أنه الافتراء على التاريخ، على طريقة اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، لكن التاريخ عنيد فطن أن يناله مدع بالاستغباء، والواقع صلب حديد أن يستهين به أحد يروم لي أعناقه. ولنبدأ الحوار بسؤال منهجي، ماذا لو كان قد انضم بنكيران وكل حزبه وكل العاطفين معهم، إلى شوارع المنتفضين وفي كل المدن المغربية حتى؟ هل كان سيغير هذا الانضمام من حجم الشوارع المحتجة شيئا، وما قيمة حجم أعضاء حزب العدالة والتنمية آنذاك حتى ولو أجلبوا على تلك الشوارع بكل خيلهم ورجلهم وقضهم وقضيضهم؟. الحقيقة الساطعة والصادمة، هو أن الحجم الضئيل الذي كان عليه حزب العدالة والتنمية تنظيميا، زمنئذ، حين خروج حركة 20 فبراير، لم يكن ليضيف وزنا وازنا إلى تلك الشوارع المحتجة، حتى ولو انضمت معه الأحزاب التي على شاكلته. وإذن ماذا فعل بنكيران وصحبه إذ يدعي ويردد وبالنواح والبكاء، ماذا فعل عمليا حتى يحمي البلاد وينقذ النظام كما يزعم من بأس حركة 20 فبراير؟ هل كان قد خرج يتزعم شوارع مضادة ومعاكسة ومواجهة للحركة؟ التاريخ سجل أنه في الوقت التي كانت فيه الحركة عملية وعلى الأرض تحشد جماهيرها وتنظم شوارعها وتصدح في الأجواء بأصواتها تصكها بشعاراتها ضد الفساد، كان بنكيران ومن على شاكلته من أشباه زعماء سياسيين ربوا وغذوا من خيرات النظام، كان مجرد ظاهرة صوتية مبحوحة ومحتشمة، تنطلق على استحياء، من وراء الجدران, ظاهرة صوتية لم تسمع حتى الأتباع والحواريين الذين كانوا يتركون بنكيران وراء جدران مكتبه أو منزله، وينزلون إلى الشوارع مع من نزلوا إليها، يرددون بأصواتهم ما تردده الشوارع، متمردين على سلطة التنظيم الحزبي، ومتصاممين عن سماع الظاهرة الصوتية للزعيم المتخلى عنه. ولنسائل أيضا بنكيران ومن معه إذ يزعم ويدعي حماية النظام وإنقاذه، من احتجاجات حركة 20 فبراير، هل كانت الشوارع المغربية التي تؤطر احتجاجاتها هذه الحركة، تشكل تهديدا للنظام؟ هل كانت شعاراتها تنادي بإسقاط النظام، كما نادت به شوارع عربية أخرى ضد أنظمتها فأسقطتها؟ ألم تكن الشعارات المرفوعة لا تتجاوز المطالبة بإسقاط الفساد والاستبداد، أي المطالبة بالإصلاح الديموقراطي فقط؟ ألم يكن هذا هو السقف السياسي الاحتجاجي الذي حددته الحركة وبعد نقاشات واعية وناضجة وعميقة؟ وإذن فلم يكن النظام مهددا من أي خطر ما، ولم يكن مستهدفا من أي قوة أو حركة ما, ماعدا أن خيال بنكيران كان مبدعا لأوهام التخويف، وظل هذا الخيال الكاذب وفيا لهذا الإبداع لا يستنكف عنه ولايفتؤ يجتره . وقد أثبت التاريخ في تجارب عديدة ومتعددة أن الذين يمتهنون تخويف الحكام من الشعوب ويصطنعون للأنظمة مخاطر وهمية، إنما يفعلون ذلك لابتزاز الحكام ويستدرجون الأنظمة لمصادمة الشعوب، ويدعون الحماية قصد تحسين مواقعهم واحتصاد مغانمهم. ولنهمس في أذن بنكيران عسى أن ينفع ذلك في تصحيح أوهامه، الحقيقة التالية: إن الذي حمى وأنقذ البلاد والأوضاع والنظام هو ما تجلى من عبقرية الأمة المغربية، التى تتجلى دائما في المنعطفات التاريخية الصعبة، فتتميز بها الأمة المغربية بالاستثناء الذي تتمنع به عن المصارع والمزالق. عبقرية الأمة المغربية في طرفيها الأساسيين: الشعب والملك. الشعب المغربي، والذي حينما خرجت طلائعه المشكلة لحركة 20 فبراير، والملتفة حولها، خرجت تفرز إبداعا احتجاجيا ومطلبيا راقيا وعمليا وواقعيا ومنتجا، وذلك بتقييد حركة الشوارع المحتجة والمنتفضة والثائرة حتى، بتقييدها بسقف مطلبي سياسي واجتماعي محدد ومضبوط يتوخى الإصلاح من داخل النظام، وينادي بإسقاط الفساد والاستبداد. في توافق وانسجام بين كل التعبيرات السياسية والمدنية اليسارية والإسلامية، التي شاركت وانخرطت ونزلت إلى الشوارع, في الوقت الذي خرجت فيه الشوارع العربية تنادي فيه الشعوب بإسقاط الأنظمة، ورددت شعار: الشعب يريد إسقاط النظام. وعبقرية الملك محمد السادس الذي تجاوب سريعا مع الشعب، وتفاعل وبقوة وبسخاء مع المحتجين، فكانت مبادرته الاستراتيجية بالخطاب الملكي التاريخي يوم التاسع من مارس، إيذانا بإقلاع المغرب نحو توجه جديد، يلتحم فيه الملك بالشعب ويلتحم فيه الشعب بالملك، ويوطد لتقاليد جديدة في علاقة الملك بالشعب، بالحوار المباشر والصريح والبناء, الحوار المباشر بين مطالب الشارع وشعارات المحتجين التي تؤطرها طليعة من طلائع الشعب ممثلة في حركة 20 فبراير، كوجه مغربي للحراك العربي الواسع في عموم الوطن العربي، وبين الوعد الملكي الدستوري الواضح المعالم والبرامج المحدد لفلسفة وآفاق وقواعد الإصلاح السياسي والدستوري الشامل والمتقدم. وقد كان هذا الحوار الفعال والبناء بين الملك والشعب مباشرا ودونما حاجة أو لجوء لوسطاء ومتدخلين وحجاب، سواء كان هؤلاء الوسطاء قوى سياسية أو مؤسسات أو مبادرات أو شخصيات رسمية وغير رسمية. وإذن فقد كان هذا الحوار التاريخي بين الملك والشعب، بين الشارع المطالب بالإصلاح، والخطاب الملكي المستجيب للمطالب والواعد بالإصلاح، المحدد لآفاقه، كان مستقى ومستوحى من جوهر وعمق وطبيعة التقاليد التاريخية للنظام السياسي المغربي، التي يسود الاحتكام إليها في المحطات التاريخية الصعبة، حينما ترتفع الوسائط بين الملك والشعب، فلا مكان ولا موقع حينئذ للانتهازيين والمرجفين والمبتزين مصالحهم من النظام بافتعال الأزمات والعوائق واصطناع المخاطر. والذين يدعون حماية النظام ويتملقون الحكام والأنظمة هم من شريحة هؤلاء المبتزين والانتهازيين وتجار الحروب والأزمات، وهم لا ينفعون ولا يصلحون دائما لا للملك ولا للشعب ولا للنظام. ولقد كان هذا الحوار المباشر أيضا، والذي رسخه مؤثلا أثيلا في تاريخ البلاد، ذلك الخطاب الملكي لتاسع مارس، كان استثنائيا ومتفردا ومتميزا عن أداءات باقي الأنظمة العربية الأخرى، التي انزلقت إلى الأساليب البائدة في المواجهة والقمع واحتقار حركية الشعوب، وتجاهل منطق التاريخ، حينما ينذر بالتحولات المفاجئة، فكان هذا الانزلاق الغبي نحو القمع والتجاهل لإرادة وتصميم وبأس الشعوب حينما تتوق للتغيير والتحرر والانعتاق، كان معجلا بانزلاق هذه الأنظمة والدول نحو هاوية الفناء والدمار. في حين كان التميز المغربي الذي تألق به الخطاب الملكي الواعد بالإصلاح، هو الحصن الحصين الذي حصن البلاد والعباد دولة ومجتمعا ونظاما من المآلات الكارثية التى أهلكت أقطارا عربية كان لها هيلها وهيلمانها. التميز المغربي بالتفاعل الإيجابي والسريع، والرؤية الاستباقية لتحولات التاريخ، والمبادرة الذكية بالاحتضان والاحتواء، الذي تجلى في الحوار بين الملك والشعب دون وسطاء، وأفرزه خطاب تاسع مارس، كل ذلك كان هو الذي حصن وحمى البلاد والنظام، وكان ذلك وحده هو الذي ضمن الانتقال إلى هدوء الأوضاع فيما بعد حراك 20 فبراير، واستقرار البلاد بعد إعلان دستور 31 يوليوز 2011، وليست السخافات التي تعشش في خيال بنكيران وأشباهه، وتنتج الطاقة السلبية التي يرميها الواقع والتاريخ في مطارحه البئيسة. *رئيس المجلس الوطني لحزب النهضة والفضيلة