أخطر شيء على الثورة هم بعض أبنائها وقادتها واستعجال حصاد ثمارها وأكله قبل ينعه. فقد انطلقت حركة 20 فبراير منددة بالاستبداد ودعت إلى إسقاطه ومحاكمة رؤوس الفساد التي نهبت ثروات البلاد وأفقرت الشعب، فلم يمض عليها إلا شهورا قليلة حتى دب الخلاف بين مكوناتها واستعجل بعض أبنائها أمرهم، فتخطفتهم بعض الأحزاب الانتهازية، حليفة النظام، طمعا في إحياء جماهيريتها، لما يمثله شباب الحركة من رمزية نضالية، وجعلهم وقودها لحملاتها الانتخابية، فتجهز بذلك على هذه الثورة السلمية الفريدة، نيابة عن النظام، وتجهضها في مهدها. لقد كنا نعلم أن تركيبة الحركة وتنوعها المرجعي بقدر ما يمثل مظهرا من مظاهر الوعي السياسي الجديد لدى الشعب المغربي ونخبته السياسية الوطنية ويؤسس لسلوك سياسي راق، بقدر ما يشكل تحديا ونقطة ضعف بدأ ينفذ منها النظام وخصوم التغيير لتحريف مسار الصراع ونقله خارج ساحته الحقيقية، من صراع بين حركة تغيير تواجه نظاما مستبدا بالسلطة والمال، إلى صراع داخل الحركة نفسها وبين مكوناتها. في الندوة الأخيرة التي عُقدت حول الحوار بين الحركة الإسلامية والحركة اليسارية، استعمل اليسار الموحد تحديدا نفس الخطاب الذي كان يستعمله النظام في تعامله مع الإسلاميين، وأخذ يشترط عليهم أن يقبلوا بالديمقراطية ليس كآلية فقط لتداول السلطة، بل أيضا كفلسفة محورها ومرجعها الأساس هو الإنسان، أي إقصاء المرجعية الإسلامية، كما بدأ يعد التضحيات التي قدمها والضرائب التي دفعها بسبب دعمه لحزبي البديل الحضاري والأمة. إن الزج ظلما بقيادة حزبي الأمة والبديل الحضاري في ملف "بلعيرج" وتجميد حزب البديل الحضاري ورفض تسليم التصريح لحزب الأمة، كان هو الضريبة الحقيقية التي دفعها الإسلاميون من حريتهم من أجل تحصين الساحة السياسية من مثل هذا الاختراق المخزني الفج، ورفض الاعتراف بحزب النظام، "البام"، وفضح أساليبه غير الشرعية، قامت بذلك حينما كان محمد الساسي يقدم فؤاد عالي الهمة، الوزير المنتدب في الداخلية وصديق الملك، بأنه صاحب مشروع مجتمعي له رؤية سياسية. أريد أن أسأل الساسي هل حينما اجتمع بالهمة اشترط عليه اعتناق الديمقراطية بشقيها الفلسفي والإجرائي، أم وقع ضحية خدعة النظام الذي حاول أن يقيم تحالفا مع اليسار الجديد لضرب اليسار القديم وترويض الإسلاميين؟ كيف قبل الساسي المشاركة في ندوة "مغرب ما بعد انتخابات 7 سبتمبر"، التي نظمتها "المساء" ، إلى جانب "المناضل التقدمي" الهمة، في حين طلب من الإسلاميين في الندوة الأخيرة، وبتعال لا يليق بمناضل ومثقف، كأنه يجري لهم اختبار حسن النوايا، أن يعبروا بصراحة عن موقفهم من الديمقراطية، ثم أضاف بأن مكتب حزبه أصدر بيانا صارما موجها إلى مناضليه يمنعهم من إجراء أي تنسيق سياسي مع العدل والإحسان داخل حركة 20 فبراير، وأن يكتفوا فقط بالتنسيق الميداني معهم داخل الحركة. من المستفيد من هذا الموقف الغريب عن الظرفية السياسية والنضالية التي تخوضها حركة شباب وطنية؟ أترك الجواب للساسي. لا يتردد النظام في التحالف مع الشيطان،كما قال الملك الحسن الثاني ذات مرة، خاصة في هذه الظرفية المصيرية التي يمر بها، بل إنه يقيم علاقات مع جميع الأحزاب على اختلاف مرجعياتها الفكرية والإيديولوجية ومنبتها الاجتماعي وشطحاتها الطرقية، ثم يأتي الساسي ليضع شروطا على قوى إسلامية اجتماعية وسياسية لها عمق تاريخي يمتد لعقود، أظهرت الأحداث اليوم ومن ذي قبل، في المغرب وفي كافة الوطن العربي والإسلامي، أنها تملك قدرة تنظيمية هائلة وقاعدة شعبية لا مثيل لها على الإطلاق. إنه واقع سياسي يعلمه النظام نفسه والغرب اتفقنا أم اختلفنا حول هذه القوى. لا يهم اليوم العناوين في معركة التغيير التي تقودها قوى حركة 20 فبراير لأن الخصم عنيد ومناور، وهو النظام، ولا صوت يجب أن يعلو فوق صوت الثورة السلمية التي تخاض من أجل تحرير وطن من ربقة الاستبداد. لقد أعادنا اليسار خلال هذه الندوة، للأسف، إلى صراعات سبعينيات القرن الماضي الإيديولوجية والتنظيمية غير المجدية والمقيتة التي أسقطتها حركات الثورة العربية وأعادت النضال إلى دائرته الأصلية، الصراع بين فريق الديمقراطية والحرية وفريق الاستبداد والظلم. إن هدف حركات الثورة عبر التاريخ هو إحداث تغيير جذري في العقلية السياسية وبنيتها وتنظيمها وفي الوعي الشعبي، وليس أن تجعل من نفسها صنما بعد أن أسقطت صنم النظام وأصنام أخرى حزبية تدور في فلكه وتشكل مفاصيل حيوية في نسقه، وهذا ما يجب على مكونات حركة 20 فبراير، إسلامية ومستقلة ويسارية، أن تتجنبه وتتوخاه. إن تغيير بنية نظام فاسد أقل كلفة من الرهان الأبدي على إصلاحه، وقد جربت الأحزاب ذلك لعقود ولم تفلح، ففسدت وتحللت بدل أن تُصلحه، وإنه من العبث أن تطالب حركة 20 فبراير من النظام إصلاح ما أفسده على مدى عقود، لأن هذه المطالب الإصلاحية مخالفة لطبيعته وتحد من استبداده وسطوته. يعلم النظام أن اعتزاله الحياة السياسية ونهاية سلطته تتجلى في التطبيق الفعلي والدقيق للملكية البرلمانية وتنازله عن هذه السلطة لصالح رئيس حكومة منتخب من الشعب وبإرادته الحرة. هناك سؤالا لايزال يثير جدلا بين الباحثين والسياسيين حول وجود أجنحة داخل الدائرة الملكية الضيقة تتضارب مصالحها ومواقفها حول الديمقراطية. نقول أولا من مع الإصلاح وتطوير النظام السياسي من ملكية تنفيذية إلى ملكية برلمانية ومن ضده، من يستعصي على التغيير؟ هل الملكية كنظام سياسي أم الملك أم أفراد أسرة الحاكم أم الملأ السياسي المحيط بالملك؟ لقد تأكد، بعد سقوط الأنظمة في تونس ومصر وليبيا، وخلال الصراع الدائر بين الثوار والنظامين البعثي الطائفي في سوريا والعسكري الطائفي في اليمن، أن العائق الوحيد أمام التغيير هو الحاكم، هذا الأخير جعل نظامه منغلقا ومستعصيا على التغيير، أما أسرة الحاكم والملأ السياسي فهما عاملان يشجعان على الاسبتداد ويرفضان التغيير حفاظا على السلطة والمال. لقد أعادت الثورات العربية، ومن بينها حركة شباب 20 فبراير المباركة، الشرعية والدور للشارع في تغيير ميزان القوى بين الشعوب والأنظمة، فأصبح الشارع هو مصدر السلط كلها وصاحب المبادرة. وقد ساهمت جل الأحزاب والنقابات ببلادنا، من اليمين واليسار، في إعدام دور وثقافة الشارع كشكل من أشكال النضال وإحدى ساحاته الحاسمة في تحقيق المطالب، واستبدلوه بالمفاوضات داخل صالات الفنادق ومقر الحكومات المتعاقبة والمجالس المغلقة. إن الشارع هو سلاح الشعب الوحيد في مواجهة النظام واستبداده ونخبته السياسية الفاسدة، وهو القادر على إرغامه على قبول التغيير. على شباب حركة 20 فبراير أن يحصنوا بيتهم من مناورات الأحزاب الانتهازية وخداع النظام المراوغ، وأن يلتفوا حول الشعب بكل شرائحه ويطوروا أداء حركتهم من خلال رؤيتهم للتغيير ويرفعوا من سقف مطالبهم ويخرجوا نهائيا من لعبة النظام اللامتناهية. إن الثورة على الفساد والاستبداد لا يمكن أن تجتمع مع الانخراط في مؤسسات فاسدة تدار بقوانين غير شرعية لا تمثل إرادة الشعب أو مع المشاركة في استفتاء أو انتخابات تقرر خريطتها السياسية في الغرف المغلقة داخل القصر ووزارة الداخلية وأجهزة الأمن والاستخبارات، وتشارك فيها أحزاب الزور مقابل نصيبها من الغنائم والمناصب الحكومية والمقاعدة البرلمانية على حساب مصالح الوطن والمواطنين. على شباب حركة 20 فبراير المتحزبين أن يختاروا بين قرارات الحركة وسلطتها وبرنامجها ومسارها وشرعيتها وبين قرارات أحزابهم وحساباتها وأجندتها وتحالفاتها، عليهم أن يختاروا بين أن يقفوا مع بعضهم موحدين كأبناء حركة تغيير أو يسقطوا متفرقين كأبناء أحزاب، كما عليهم أن يراهنوا على الشعب، صاحب الشرعية الأصلي، وعلى الشارع صاحب السلطة الحقيقية، ربما قد َيغط الشعب أو ُيخدع من قبل سحرة النظام ومبادراته التي تخيل إليه أنها إصلاحية، ولكنه بالتأكيد سيصحو ويكتشف هذا الخداع والزيف وفي قلبه غضب عارم وهو يصرخ في وجه النظام: استقم أو اعتزل. [email protected]