الآن وقد هدأت حمأة المواجهات الكروية ومعها الاصطفافات الشعبية وتعبئة الجماهير، الآن وقد توارت الهجمات المسعورة التي كانت تترقب أي سقطة لمونديال العرب بقطر، كي تشفي غليل الحقد الدفين الذي كان يعتمل في صدور كثير من جهات الغرب تجاه أي نجاح للشرق العربي الإسلامي، ولو كان ذلك في ميدان اللعب! الآن وقد انتهى المونديال في طبعته العربية الشرقية ذات الأبعاد الثقافية والتراثية والجغرافية المغايرة لما اعتاده العالم من ذي قبل، الآن وقد تبين أنه كان نسخة استثنائية وناجحة بكل المقاييس بشهادة أصحاب الشأن من الفيفا والمتخصصين في صناعة كرة القدم، الآن وقد قُطعت شكوك فشل التنظيم بيقين براعة التنظيم، وقد تبخرت مخاوف حدوث مشاكل بالجملة وحل الاطمئنان بعد أيام رائعة خالدة استشعرها كل من زار قطر من جماهير مختلف الفرق المشاركة وحتى الجماهير والزوار الذين جاؤوا ليستمتعوا بأجواء كأس العالم في قطر، ويشاهدوا كرة القدم والجانب المشرق والمشوق من الرياضة بعيدا عن المكدرات وما أكثرها، فوجدوا في قطر كأس العالم فوق ما كانوا يتوقعون. سال الكثير من المداد حول مونديال قطر 2022 قبل انطلاقه بسنوات، وصاحب مدة انعقاده زخم كبير وتوال لأحداث ووقائع جعلت نسخة قطر من كأس العالم فريدة بحق، ولعل من أبرز ما تميز به مونديال قطر خاصة بالنسبة للمغرب والعرب والأفارقة هو المشاركة المتميزة والناجحة بامتياز للمنتخب المغربي الذي تبوء المركز الرابع في المنافسة العالمية بعد أن وصل بجدارة للمربع الذهبي، لكن هذا الارتقاء العظيم في ميدان كرة القدم ، لم يكن مجرد إنجاز كروي بالمعنى الضيق، بل كان ذا رمزية عميقة وصاحبه ارتقاء وتميز في عدة مقومات ومستويات ومكاسب أخرى على صُعُد أوسع وأرحب من المستطيل الأخضر والكرة الجلدية، وهنا تأتي الدروس والعبر التي أتحفنا بها مونديال قطر غير المسبوق. فوصول المنتخب المغربي إلى أدوار جد متقدمة في النهائيات كان معناه تعميق الزخم الثقافي والقيمي، بخصوص الامومة والأسرة والعائلة إلى كل بيت في العالم، وكذلك القضية الفلسطينية والرابطة المعنوية المشتركة بين شعوب المنطقة ضد اليات التقسيم والهيمنة. فيما يتعلق بالأمومة والأسرة يذكر الانسان بالفطرة، وللتجمع العالمي الرياضي سحر وأثر بالغ في إيصال الرسائل. أما العلم الفلسطيني فهو تذكير للعالم بإحدى أكثر القضايا عدالة مع وجود أقدم ظاهرة استعمارية وتسليط الضوء على ما يفعله الاحتلال في الإنسان والأرض والعمران. وبخصوص الرابطة المعنوية المشتركة بين شعوب المنطقة فقد هدمت أسوارا وضعت منذ عقود، وذكرت القوى الكبرى بماضيها الاستعماري، الذي عمق الانقسام والنزاعات الحدودية والتوترات الإقليمية، بعد أن أتى بمستبدين في غالب الدول العربية ممن يكبحون تقدم الشعوب، لكنه لم يستطع تجريد هذه الشعوب من كينونتها، أو شعورها الوحدوي. وكما قرأت لأحد الكتاب قوله: في كل مجال توجد حروب وصراعات. هناك ما يظهر بشكل خشن، وهناك الناعم، ومجال الكرة خاضع لهذا النمط الثاني، وهو أخطر، ذلك ليس حديثا في المؤامرة، وإنما هو نسق يحكم الفرجة والثقافة والسياسة والمال، نسق مهيمن يعمل، قد يسمح لك بمساحات معينة للحركة والفعل، لكنه يتدخل ولو بشكل خشن للحفاظ على النموذج القائم وعلائقه، وكي تعبر بشكل أكبر عن ذاتك، وتحصن انتصاراتك، ينبغي أن يكون لك حساب في ميزان القوة الصلبة، أي التقدم العلمي والتقني والاقتصاد والسياسة..ليست هذه مجرد تخيلات، لكن سلطة المال والثقافة وإرادة الهيمنة لا تنفصل عن الكرة والرياضة. ثم إن قطر قد وظفت مناسبة كأس العالم لكرة القدم لتقديم الإسلام بصورة ملائمة محببة وجاذبة ميسرة، فاستعانت لأجل ذلك بشتى الوسائل الحديثة منها والأصيلة، فرأينا منشورات جميلة الشكل وسهلة الفهم بمئات اللغات وبأسلوب حديث يستغل ثورة المعلوميات، رأينا تنظيم زيارات لمختلف الجنسيات لأحد أعظم المساجد في قطر والذي يعد فضاء واسعا وثريا لتقديم الإسلام لغير المسلمين بشكل جذاب وجميل، رأينا أحاديث نبوية تتحدث عن مكارم الأخلاق في كل الفضاءات مترجمة ومكتوبة بخطوط رائعة، كما رأينا افتتاحا استثنائيا بكل المقاييس شمل لوحة بديعة لشيخ حافظ رفقة مجموعة من طلبة القرآن اليافعين وهي صورة ربما لم يرها الغرب قبل هذا بمثل هذا الجمال والابداع والرقي والرمزية العظيمة، ثم في لوحة أخرى تلاوة الشاب الملهم من ذوي الاحتياجات الخاصة غانم المفتاح حين قرأ قوله تعالى وهو بمعية أحد الممثلين المعروفين جدا قوله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ. ]سورة الحجرات: [13 وهي آية ذات دلالة عظيمة وبالغة خاصة في مثل هذه المناسبة التي تجمعه سائر شعوب وقبائل وثقافات العالم. وقد جرى الإعلان رسميّاً عن الإحصائيّة الخاصة بعدد المُسلمين الجُدد ضمن حملة "دعاة كأس العالم". ووصل الرّقم وفق الإعلان إلى 3125، وهو رقم يعتبره الدّعويّون رقماً لافتاً، فيما يطرح مُنتقدو الفكرة، تساؤلات عديدة حول ظروف إسلام المُشجّعين، وإذا ما كانوا سيعودون لبلادهم وقد باتوا يُؤمنون بمحمد نبيّاً، أم كان مجرد تأثّر لحظي ينتهي بنهاية المونديال الكروي العالمي. في كل الأحوال فإن الأهم هو أن الناس قد تأثروا بشكل إيجابي وأبدوا انفتاحا واستعدادا للتعرف على ثقافة ودين المسلمين وهذا مكسب في حد ذاته. الرياضة اليوم وبالأخص كرة القدم باتت صناعة كبيرة ووسيلة ضخمة للتأثير ولقد فرضها الغرب كأداة للقوة الناعمة، لا شك أنها تدخل في حيز اللعب، ولكنها اليوم صارت أكثر من ذلك، فهي اليوم ثقافة وتقليد للكثير من الشعوب حول العالم، وهي لم تكن إلى عهد قريب ذات شأن في أمريكا الشمالية مثلا لتوفرهم على رياضات أكثر شعبية، ولكن كلا فريقي أمريكا الشمالية الدولتين العظميين قد شاركتا باهتمام كبير في كأس العالم الأخير، ذلك أن هذه الرياضة صارت وسيلة فعالة للتعريف بأهمية الدول ومدى تأثيرها، التعريف بثقافة الشعوب وقيمها ومؤهلاتها المختلفة، بل كما شهدنا ذلك بشكل ملفت في كأس العالم الأخير، قد صارت كرة القدم أداة فعالة للتأثير على الرأي العام حول العالم وتوجيه دفته وعنايته نحو قيم ومبادى بعينها، فصار الغرب يستخدمها بجدية أكبر في إيصال ثقافته وقيمه المستحدثة إلى العالم بأسره وفرضها عليه بشكل مباشر وغير مباشر. ولا شك رأينا جميعا المحاولات الجادة والنية المُبيتة لعدد من منتخبات الدول الغربية ذات النزعة الحداثية المتحررة لإيصال بل وترسيخ قيم ومبادى صادمة للفطرة الإنسانية والدفاع بشراسة على حقوق فئات تعتبر شاذة كادعائهم حقوق المثليين، وقد رأى العالم كيف عبر الفريق الألماني مثلا عن دعمه الكبير لهذه الفئة الجانحة عن الطبيعة والفطرة البشرية، وكانت هناك دعوات حتى قبل افتتاح كأس العالم لمقاطعة الدورة التي تنظمها قطر بمسوغ انتهاكات لحقوق الانسان والعمال من جانبها، ثم رأينا احتجاجات على منع استهلاك الكحول في الملاعب، وامتعاضا من الالتزام بحد أدنى من اللباس المحتشم. كلها محاولات حثيثة من الغرب لفرض قيمه ومبادئه وقوانينه وأهوائه على العرب في عُقر دارهم، بل على بقية الشعوب والثقافات، لكن قطر والحق يقال عرفت كيف تواجه الغرب بنفس سلاحه وبطريقة ذكية ومرنة، وهذه رسالة هذا المقال، فالشاهد عندنا هو كيف يمكن استخدام نفس وسائل الغرب واللغة التي يفهما جيدا كي نوصل له قيمنا، ثقافتنا، تقاليدنا ومبادئنا وديننا الذي يعتبر مصدر كل ذلك، وطبعا يمكن فعل ذلك بطرق ذكية ومسالمة دون عنف أو إكراه والنتيجة تكون مبهرة وعظيمة وفيها خير عميم للإسلام والعرب والمسلمين والعالمين كافة. وهذا ما حصل في كأس العالم الأخير، ففضلا عن إسلام عدد معتبر من الناس، راجين من الله أن يتم عليهم نعمة الإسلام، فلقد تغيرت بشكل هام وإيجابي نظرة العالم بمختلف شعوبه بل والكثير من الأشخاص والجهات في الغرب نفسه كانت بالأمس تحارب بضراوة قيم الشعوب الإسلامية ومبادئها النابعة بالأساس من الإسلام، واليوم هناك الكثير من الشهادات الجد إيجابية، وقد صرحت العديد من المنابر تشيد بالتنظيم الفعال والمحكم لكأس العالم في دولة عربية مسلمة، وأعرب الكثيرون من مختلف الثقافات والدول عن إعجابهم بالأخلاق العربية الإسلامية والتقاليد والمبادئ العربية وقال كثيرون أنهم قد صححوا نظرتهم للإسلام والعرب والمسلمين والتي كانت خاطئة وبعيدة عن الحقيقة بفعل تأثير الاعلام الغربي الذي طالما دجن العقول وتحكم في الآراء وشكل الأفكار. وقد تم ترسيخ كثير من المبادئ والقيم الإسلامية السامية في عقول وقلوب العديد من الأشخاص في الغرب وباقي العالم وذلك عن طريق ممارسات رمزية ولكنها ذات دلالات عميقة، كما حصل كما أشرنا مع الفريق المغربي الذي ذهب بعيدا في نهائيات كأس العالم مما سمح له في كل مرة أن يتمثل المزيد من القيم والأخلاق العربية الإسلامية سواء في الفوز أو حتى في حال الخسارة، فاكتشف العديد من الغربيين ربما لأول مرة معاني البر بالوالدين وإرجاع الفضل في النجاح للأم قبل كل شيء، ومدى أهمية، قيمة الأسرة في تحقيق النجاح والتميز. وهكذا كُشف اللثام عن مجموعة من القيم الاساسية في تحقيق الانتصار وحيازة الفرحة ولو بشكل رمزي وهي في الحقيقة نفس القيم والعوامل التي يمكن التسلح بها في الانتصار في ميادين الجد والانجاز الحقيقي. أول قيمة برزت في هذا المونديال هي: قيمة الأسرة وأهمية الدفء العائلي ومركزية الأم فيها، بعدما أظهر الكثير من اللاعبين العرب وخاصة المغاربة صورا جميلة ومعبرة بعد إحرازهم الأهداف وذلك بمسارعتهم لاحتضان أمهاتهم اعترافا بالفضل والجميل القيمة الثانية: التضحية واستفراغ الجهد في تأهيل الأبناء لاحتلال الصدارة، وهو ما يدفع نحو الإيمان بنفس القيم والوسائل لتحقيق الانتصار والريادة في الميادين الأكثر أهمية وذلك بالاستثمار في الفرص المتاحة بكل ما تحمله من تحديات والإيمان بالقدرات والامكانات، بكل الاصرار والعزيمة والاستماتة من أجل الرسالة ثالثا: أصالة الانتماء: الانتماء لهوية الوطن والأمة والإخلاص لقضاياها العادلة كقضية فلسطين وهو ما جعل العالم بأسره يزيد تضامنا والتفافا حول القضية الفلسطينية العادلة بينما أصبحت دعاوى التطبيع مع الكيان غير ذات جدوى بعدما أظهرت الشعوب وجحافل الجماهير توحدها في سبيل القضايا العادلة، فكانت أعلام فلسطين لا تفارق الجماهير في كل المباريات مما جرد جهود التطبيع وادعاءات الكيان بتماهي الشعوب مع سياسات الدول من كل شرعية وأساس. رسالة قوية أخرى تتمثل في الإيمان بالذات والهوية والرأسمال البشري الذي يتميز بقدرات إبداعية خارقة وهو ما يشكل وسيلة ناجعة لمواجهة كل أشكال الفساد التي تضع العقبات أمام الطاقات وتسرق من الشعوب وأهلها فرحات كثيرة وفرصا هائلة للتقدم والنهضة والرخاء. وقد كانت أعظم رسالة هي أنه في كل أزمة خانقة أو سعي نحو الانتصار تحتل الأسرة الصدارة في مواجهتها ومحفز هذه المواجهة هي الأم، هذه القيم عشناها بقوة ومعها عشنا عصارة ألم عائلات وأسر ومواجهتها للتحديات بريادة نسائية أصيلة تتميز بالأصالة والتضحية والإصرار في إطار قيم فطرية لا تعقيد فيها ولا أدلجة ولاتفلسف، وهو رضى الله ورضى الوالدين وحب الأمة والإخلاص لقضاياها، وهذه رسالة قوية تهدم أسس الدعوات للشذوذ وتشويه بنية الأسرة بدعوى الحرية. -رسالة أخرى ذات دلالة خاصة بالنسبة للغرب الذي لا يتصور أن يكتمل انتصار أو تحلو فُرجة دون استهلاك الكحول والمسكرات، وهي أن الاستمتاع والفرحة جائزة بل مرغوبة في ديننا وثقافتنا، ولكن يمكن تحقيقها، بشكل أمثل بدون خمر أو كحول أو مسكرات، بل إن منع استهلاك الكحول مكن من الاستمتاع بالمباريات دون أي شغب أو عنف أو تحرش، وهو ما أقرت به العديد من المشجعات الأجنبيات واعترف به الكثير من الغربيين الذين أدمنوا الكحول معتقدين أن الفرحة لا تتم إلا به، ولكن اكتشفوا أن هناك حياة أفضل ومتعة أجمل بدون كحول. وتجدني متفقا ومتماهيا تماما مع أحد الكتاب حين قال: كم سيكون جميلا أن يتوج الشعور الجماعي الذي خلقه المنتخب الوطني المغربي، بمصالحة الدولة مع المجتمع من أجل المستقبل، فاللحظة الراهنة تقتضي مصالحة متعددة الأبعاد من خلال: إطلاق سراح الصحفيين المعتقلين، وفي مقدمتهم سليمان الريسوني، توفيق بوعشرين وغيرهم من الأسماء. لقد كان دافعهم في الكتابة والنقد حب الوطن والأمل في رؤية بعض بشائر المواطنة الحقة والديمقراطية والتقدم رأي العين، وليس مجرد خطاب بينما تحتفظ الممارسة بالنزعة السلطوية. بقاؤهم في السجن إساءة للمغرب وللصورة الجميلة التي ظهر بها إلى العالم على أيدي أبناء الهامش، نعم أبناء الهامش. وهم أبناء الهامش حقا، الذين دفعت آباءهم الرغبة في تحسين مستوى عيشهم وتوفير مستقبل واعد لأبنائهم فارتموا في أحضان الهجرة والغربة، ورغم تفريط الوطن إلا أنهم لم يفرطوا هم ولم ينسوا الدماء المغربية التي تجري في عروقهم فأبوا إلا أن يمثلوا بلدهم الأصلي أحسن تمثيل، وها نحن جميعا نحاول ذلك، وإنما نكتب هذه السطور رغبة في الإسهام في خط مسارات النهضة المرجوة وأسسها لمغربنا ولسائر شعوبنا العربية، والتي تتمحور حول استثمار الروح القتالية بالارتكاز على قيمنا وقدراتنا، وعزمنا وتعاوننا وإخلاصنا لتحقيق النهضة والبناء والنجاح في كل الميادين، ولتكن البداية من ساحة اللعب لابأس، فتعطينا دافعا نحو الفوز في ساح الجد. * جمال أحمد الهاشمي، كاتب مقيم بكندا