الأكيد أن لعبة كرة القدم هي نشاط رياضي واسع الجماهيرية انتشارًا في غالبية الكرة الأرضية، وتعتبر من الرياضات الأكثر شعبية في العالم. فهي لم تعد مجرد ممارسة وهواية رياضية، بل في جانب آخر هي ظاهرة اجتماعية تعكس جوانب من سيكولوجية المجتمعات، بل إنها شكلت انعكاسًا واضحًا لطبيعة العلاقات الدولية والعلاقات بين الدول، وأصبحت مكونًا مهمًّا في الدراسات السياسية. ما يحدث الآن من احتفالات في شتى بقاع الوطن العربي بانتصارات المغرب ظاهرة لم ولن تجدها في أي بقعة في العالم، فهو انتصار رياضي سياسي بطعم المعارك. وما إن انطلقت صافرة الحكم معلنة فوز المغرب على البرتغال وتأهله التاريخي، بل تأهل أول منتخب عربي وإفريقي إلى المربع الذهبي منذ انطلاق بطولة كأس العالم بنسختها الأولى، حتى خرجت الجماهير العربية والمغربية إلى الشوارع، محتفلة بفوز المنتخب المغربي، الذي أعاد اللحمة العربية على مستوى العالم، وبعفوية وهذا بحد ذاته انتصار. وقبل الخوض في دراسة هده الظاهرة وجب التنويه والإشادة والفخر بتنظيم قطر لهذا المونديال، الذي أظهر للعالم أن العرب قادرون، وعرّف شعوب العالم على العرب والإسلام بشكل أكبر، وخصوصًا أن الغرب كان دائما يحاول تشويه صورة العرب والإسلام بالتحديد. فلأول مرة يفتتح كأس العالم بالقرآن الكريم وتوجه رسائل تبرز قيم الاحترام والتعارف وتدعو إلى التقارب بين الشعوب، والتغلب على الاختلافات مهما كان نوعها، بل التعلم منها في دعوة لتلاقي الثقافات ونشر المحبة والخير بين الناس. إن دولة قطر تحدت الجميع وأثبتت للعالم أنها قادرة على تنظيم نسخة فريدة ومميزة من كأس العالم تليق بتراثنا وثقافتنا العربية، ولا شك ان هذه القيم التي قدمتها قطر للملايين من عشاق الكرة عبر المعمورة ما كان الغرب ليرضى بها وحارب كثيرا لإفشال المونديال. ولكن قطر بجهودها وتضحياتها كسبت الرهان. فوز المغرب أظهر للجميع أن العرب يد واحدة، ووحدّ كل الأمة العربية والإسلامية، ومنحنا شعورا بالفخر وأن المنتخبات العربية قادرة على منافسة كل المنتخبات، وهذا بحد ذاته فخر واعتزاز، خصوصًا أن المونديال يقام في دولة عربية. أن يطلق الفلسطينيون الألعاب النارية، أن تخرج الجماهير الخليجية ويهلل العراقيون فرحاً ويصيح المصريون على المقاهي بحماس وخروج كل أطياف المجتمع المغربي إلى شوارع المملكة المغربية انتشاء بالإنجاز التاريخي غير المسبوق الذي أظهر معالم الانشراح والبهجة والسرور في كل زقاق وكل شبر من المملكة الشريفة من طنجة إلى الكويرة، فهذا الإنجاز أظهر اللحمة الوطنية والإجماع والتشبث بالقيم المغربية الضاربة في عمق التاريخ، ولعل نزول العاهل المغربي ليشارك مواطنيه الاحتفالات في الشوارع ومرتديًا قميصا رياضيا للمنتخب المغربي ملوحا بيده ورافعا علم المملكة، واحتشاد المواطنين حوله في مشهد يجسد لحمة الشعب والملك. إن هذا التفوق المغربي لم يأت من فراغ ويرتكز على قيم الثقة في الله والإيمان بالقدرات الفردية والعمل الجماعي للمغاربة، ورضا الوالدين، والنية الخالصة في العمل. ان فخر الشعوب العربية وسعادتهم من القلب بانتصار فريق لدولة أخرى تبعد عنهم آلاف الكيلو مترات وقد تكون في قارة أخرى لمجرد أنهم يجمعهم وحدة اللغة والدين والثقافة والتاريخ المشترك شيء يدعو للدهشة والتعجب فهذا لا يحدث بأي شكل في مكان آخر، ولن تجد مواطناً أوروبيا يترقب بصدق فوز منتخب أوروبي آخر أو مواطنا أميركيا يدعو بفوز المنتخب الانجليزي بلد أجداده وأصحاب لغته الأم. لن تجد يابانيا يحتفل بانتصار جارته كوريا الجنوبية التي تشاركه في الشكل والثقافة والجغرافيا. لن تجد مواطناً من الاوروجواي سعيدا بصعود جارته الأرجنتين أو حتى مواطنا أسبانيا سعيدا بانتصار فريق كالأرجنتين الذي يتحدث لغته، وبالمثل لن تجد أي ترابط يجمع البرتغالي مع البرازيلي. فقط القومية العربية والإسلامية هي القومية الأقوى في العالم الآن بلا منازع أو منافس.. قومية فطرية غير مصطنعة.. عفوية من عامة الشعوب قررت الاشتراك فيها بوازع داخلي بدون توجيه أو دعوات لذلك. حالة الفرحة العارمة التي يعيشها العرب والمسلمون في هذه اللحظات.. تاريخية، ليس فقط لانتصار تاريخي أسطوري مغربي لأول مرة في منافسات كأس العالم بل لأنه أقوى برهان على وجود أشياء حسبنا جميعاً أنها قد جرفها الزمن مع ما جرفه من بقايا خير وترابط فينا.