لم يكن تاريخ فرنسا في يوم من الأيام مشرقا بالقدر الذي يبرر شيئا مما ترفعه من شعارات حول الحريات وحقوق الإنسان. والأمر لا يتعلق بفترة حملات الاستعمار التي سجلت فيها فرنسا بطولاتها في حرمان الشعوب الافريقية بالخصوص من حقها في الحرية وفي ثرواتها الوطنية، بل فقط بالسنوات الأخيرة من القرن العشرين. فبعد خروج جيوشها من معظم الدول الإفريقية استمرت فرنسا في حماية وجودها الامبريالي في إفريقيا عن طريق الانقلابات ودعم الأنظمة الموالية لها، ورعاية المجازر التي توقعها تلك الأنظمة ضد شعوبها التي ترفض الاستمرار في التبعية لها. وفي الوقت الذي كانت فيه فرنسا تدين الانتهاكات الحقوقية في الصينوإيران، وتلوح بيدها اليسرى ضد أنظمتها، كانت يدها اليمنى متورطة في أكبر إبادة جماعية شهدها العصر الحديث في رواند. فما هي قصة مذبحة جماعية أهدرت أرواح قرابة 800 ألف مدني، واغتصبت خلالها مئات الآلاف من النساء؟ حسب الجزيرة نت أرسل الجنرال الفرنسي كريستيان كيسنو برقية عاجلة إلى الرئيس فرانسوا ميتران في أوج حملة الإبادة الجماعية التي تعرضت لها أقلية التوتسي في رواند في التسعينيات يقول فيها: "في حال عدم وجود إستراتيجية مباشرة في المنطقة التي قد تبدو صعبة التنفيذ سياسيا، فإن لدينا وسائل ومفاتيح إستراتيجية غير مباشرة يمكن أن تعيد توازنا معينا". وتبين فيما بعد أن الوسائل والمفاتيح المشار إليها في تلك البرقية، حسب الجزيرة نت، هي مجموعات المرتزقة وآليات وإجراءات عسكرية غير تقليدية مكّنت السلطات الحكومية والمليشيات العرقية من قتل 800 ألف مدني في حدود 100 يوم. 1 –باريس و الحرب الأهلية التي تحولت إلى إبادة جماعية ردا على قمع المعارضة الداخلية في رواندا، حسب المصدر السابق، تشكلت في المنفى عام 1988 الجبهة الوطنية الرواندية، وكان معظم منتسبيها من اللاجئين والكوادر المتعلمة في الخارج من أقلية التوتسي. وفي الثامن من يناير/كانون الثاني عام 1990 غصت العاصمة كيغالي ب100 ألف متظاهر، وخرجت حشود كبيرة في مدن أخرى ضد قمع الحكومة للمعارضة. ولم تتأخر الحكومة في الرد، حيث شنت حملة اعتقالات واسعة ضد خصومها، فردت المعارضة على هذا الإجراء بتشكيل جناح عسكري شمال البلاد. وفي أكتوبر/تشرين الأول من ذات العام استعانت قوات الحكومة الرواندية بمظليين فرنسيين ونفذت ضربات ضد المتمردين واعتقلت 10 آلاف شخص من المعارضة معظمهم من التوتسي. وأصبحت رواندا ساحة حرب بين المتمردين التوتسي وبين قوات حكومة الهوتا المدعومة من فرنسا، ولاحقا شكلت الحكومة مليشيات عرقية لضرب التوتسي. وتوضح التقارير أنه لم يكن خافيا أن الحرب في طريقها لأن تتحول إلى إبادة جماعية ضد المدنيين التوتسي، لكن فرنسا تغاضت عن الحقائق وواصلت دعم حلفائها في الميدان. وقد كشفت إحدى وثائق الخارجية الفرنسية أن قائد القوات الفرنسية في رواندا كان مستشارا لكل من الرئيس الرواندي ورئيس أركانه. وعندما أوفدت المنظمات الدولية والإقليمية بعثات إلى رواندا في عام 1993، قالت في تقاريرها إن البلاد تشهد انتهاكات جسمية ومنظمة ضد المدنيين وإن فرق الموت تتحرك في العلن، في حين يتم التحريض على القتل عبر أمواج الإذاعة. وقد وصلت هذه التقارير على الفور للرئيس الفرنسي آنذاك فرانسوا متيران انطلاقا من كونه الوحيد الذي يمكنه وقف هذه الفظائع، لكن الرجل لم يتحرك أبدا. وعلى العكس من ذلك، قدمت فرنسا أسلحة كثيرة لحكومة الهوتو، وقدمت البنوك الفرنسية تسهيلات واعتمادات لصفقات أسلحة أبرمتها رواندا مع الصين ومصر وجنوب أفريقيا، وفق مشروع تابع للأمم المتحدة. كما نشرت فرنسا ما يصل إلى 680 جنديا في رواندا أثناء الحرب، بالإضافة إلى توفير مستشارين عسكريين. وتقول المنظمة إن القوات الفرنسية لعبت دورا مباشرا في الصراع، ووفرت دعما للقوات الرواندية خلال هجوم فبراير/شباط 1993، مما يتجاوز التفويض الذي أعلنته فرنسا لحماية الأرواح وضمان إجلاء المغتربين الفرنسيين وغيرهم من الرعايا الأجانب. في السادس من أبريل/نيسان 1994 وصلت الحرب الأهلية لنقطة اللا عودة عندما أسقط هجوم صاروخي طائرة كانت تقل رئيسي رواندا وبوروندي العائدين لكيغالي من مؤتمر في تنزانيا كان يبحث سبل حل الأزمة العرقية في رواندا. وكانت الإبادة الجماعية انطلقت بالفعل ولكن اشتد جحيمها ابتداء من هذا التاريخ، فشن الجيش ومليشيات الهوتو حملات وقتل واغتصاب ضد التوتسي والمعتدلين من الهوتو. وتشير الأرقام الأممية إلى أن ما لا يقل عن 800 ألف شخص قتلوا خلال 3 أشهر وأن ما بين 150 و250 ألف امرأة اغتصبن خلال هذه الفترة. وفي كتاب بعنوان "ما لا يصرح به"، يقول باتريك دو سانت أكزيبيري إن باريس أرسلت شحنات سلاح لجيش رواندا في أعوام 1991، 1992، 1993. و"في أوج الإبادة الجماعية بين 19 أبريل/نيسان و18 يوليو/تموز 1994 تم إيصال 6 شحنات من الأسلحة بقيمة 5 ملايين و454 ألف و395 دولارا". ويروي جان بول غوتو في كتاب "الليلة الرواندية أن المساعدات العسكرية الفرنسية أدت لزيادة القوات المسلحة الرواندية من نحو 5 آلاف عنصر إلى قرابة 50 ألف تكفلت باريس بتدريبهم وتسليحهم. 2- وثائق وأدلة تؤكد ضلوع فرنسا في الإبادة الجماعية في مقال نشرته صحيفة "ليبراسيون" (Liberation) في مارس/آذار الماضي تقول مذكرة مؤرخة في 17 يونيو/حزيران 1994 إن المخابرات الفرنسية ربطت بشكل علني بين مشاريع دينارد ومشاريع باريل، الذي كان يستعد في الوقت نفسه "لتوفير نحو 50 طنا من الذخيرة والأسلحة للقوات الحكومية التي كانت في الوقت ذاته، تطار أقلية التوتسي لإبادتهم". وتضيف كاتبة المقال ماريا مالاغاردي "في طريقهم إلى رواندا في مايو/أيار 1994، توقف باريل ورجاله في مطار إيسترس (العسكري شمال غرب مرسيليا الفرنسية)، علما بأنه لا يجوز لأحد أن يهبط في مطار عسكري. ويعني ذلك بشكل قاطع دعم فرنسا لنشاط باريل في الإبادة الجماعية برواندا. "ويؤكد تقرير المديرية العامة للأمن الخارجي الفرنسي أن أجهزة المخابرات الفرنسية حاولت عام 1994 تنبيه الدولة إلى وجود مرتزقة فرنسيين في رواندا في أثناء ارتكاب الإبادة الجماعية، في حين يشير تقرير صادر عن منظمة "البقاء على قيد الحياة" إلى أن هؤلاء المرتزقة كانوا في الواقع يتصرفون بدعم من باريس". وفي السادس من مايو/أيار عام 1994 كتب الجنرال كريستيان كيسنو -رئيس الأركان الخاص للرئيس فرانسوا ميتران- مذكرة أكد فيها "أنه في حال عدم وجود إستراتيجية مباشرة في المنطقة التي قد تبدو صعبة التنفيذ سياسيا، فإن لدينا وسائل ومفاتيح إستراتيجية غير مباشرة يمكن أن تعيد توازنا معينا". وتقول الوثائق التي اطلعت عليها مالاغاردي إن أغاثا هابياريمانا زوجة الرئيس وابنها جان بيير، كانا يقومان بدور قوي في الصراع العرقي وعلى اتصال بالمرتزقين الفرنسيين باريل ودينارد من أجل "توفير الذخيرة والأسلحة للقوات الحكومية" أو "تجاوز الحظر الذي تفرضه الأممالمتحدة على صادرات الأسلحة إلى رواندا. ولم يخجل فرانسوا ميتران من استقبال مجرمي الإبادة الجماعية في مكتبه بل خاطب أحد مستشاريه قائلا "لقد استقبلت في مكتبي 400 مجرم وألفي تاجر مخدرات، لا يمكن إلا أن نلطخ أيدينا في العمل مع أفريقيا.. في بلدان كهذه، الإبادة الجماعية ليست مسألة مهمة جدا". وجاء ذلك في حديث نقلته صحيفة "لوفيغارو" (Le Figaro) في عدد 1998/12/1 عن برونو ديلاي مستشار الشؤون الأفريقية في قصر الإليزيه. وفي أبريل/نيسان عام 2021، نشر مكتب محاماة أميركا نتائج تؤكد ضلوع فرنسا في جرائم الإبادة الجماعية في رواندا. وجاء في التقرير المؤلف من 600 صفحة أن باريس كانت على علم باستعداد الهوتو لتنفيذ حملة الإبادة الجماعية "لكنها استمرت في تقديم "الدعم الراسخ" لنظام الرئيس جوفينال هابياريمانا". وفي مايو/أيار عام 2021 اعترف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، خلال زيارة تاريخية لرواندا، بدور بلاده في مقتل 800 ألف معظمهم من الروانديين التوتسي، وقال إن الناجين فقط هم من يمكنهم منح "هبة الغفران". وذهب ماكرون أبعد من أسلافه في الاعتراف بأن باريس دعمت نظام الإبادة الجماعية وتجاهلت التحذيرات من وقوع مذابح، على الرغم من أنه شدد على أن بلاده "لم تكن متواطئة"، متجنبا تقديم اعتذار. 3- شخصيات فرنسية تورطت في الإبادة الجماعية لقد قامت باريس بهذه الأدوار المحورية عبر شخصيات مهمة مقربة من قصر الإليزيه ورئاسة الأركان الفرنسية حينها، ومن أبرزها: بوب دينارد هو عسكري من مواليد 1929، اسمه الحقيقي جيلبير بورجيو خدم في القوات المسلحة الفرنسية بالهند الصينية. وبعد انتهاء خدمته، تحول إلى مرتزق لصالح باريس وارتبط اسمه بالكثير من الانقلابات في أفريقيا. وكان يلقب بقرصان الجمهورية. أدين لتورطه في انقلاب فاشل 1995 في جزر القمر التي عاش فيها سنوات وأعلن فيها اعتناقه للإسلام. وفي تقارير الإبادة الجماعية برواندا يتردد اسم دينارد كقائد لقوات مرتزقة تعمل إلى جانب الجيش ومليشيات الهوتو. ووفق مقال نشرته لبيراسيون الفرنسية في مارس/آذار الماضي، عمل دينارد على توفير الذخيرة والأسلحة للقوات الحكومية وساعد في تجاوز الحظر الذي تفرضه الأممالمتحدة على صادرات الأسلحة في رواندا. وإلى جانب أفريقيا، عمل المرتزق دينارد مع شاه إيران في السبعينيات، ومع القوات الموالية ل"نظام الإمام" في اليمن الذي سقط في عام 1962. وتوفي بوب دينارد في أكتوبر/تشرين الأول عام 2007، ولم تذكر عائلته سبب وفاته لكنه عانى في أعوامه الأخيرة من مرض ألزهايمر. بوب باريل هو ضابط شرطة من مواليد 1946، سبق أن شغل منصب نائب مجموعة التدخل السريع في جهاز الشرطة الفرنسية. وكان على علاقة وثيقة بقصر الإليزيه عندما أسس خلية لمكافحة الإرهاب. وبعد تقاعده، حمل صفة خبير أمني وعمل لصالح باريس والحكومات الأفريقية. برز اسم الرجل ضمن الفرنسيين المتورطين في تجنيد المرتزقة في الإبادة الجماعية في رواندا. من خلال شركاته الأمنية الخاصة، لعب باريل دورا كبيرا في الحرب الأهلية الرواندية، إذ قام بعقد صفقات سلاح وتوريد مجموعات مرتزقة، ولم تتم محاكمته بخصوصها. وتؤكد الوثائق تنقله مع رجاله عبر مطار عسكري فرنسي في فترة الإبادة الجماعية برواندا. وإلى جانب رواندا، تقول التقارير إن باريل تزعم مرتزقة في الكونغو وساحل العاج، وتجاوز دوره أفريقيا فعمل مع دول خليجية ومصر لقلب نظام الحكم في قطر في التسعينيات. كما وصل نفوذه إلى أميركا اللاتينية. كريستيان كيسنو جنرال فرنسي من مواليد 1938. كان يتولى منصب قائد الأركان الخاصة للرئيس فرانسوا ميتران في الفترة من 1991 وحتى 1995. وقد لعب هذا الجنرال دورا محوريا في الصراع العرقي في رواندا. وتكشف رسائله للرئيس أنه كان مؤيدا قويا لحكومة رواندا ومتحمسا لسحق التوتسي. وخلال فترة الصراع زار كيغالي والتقى بكبار المسؤولين في الحكومة الرواندية، التي عبّرت له حينها عن تقديرها للدعم الكبير للدعم العسكري والسياسي والمالي والدبلوماسي الذي تتلقاه من الرئيس فرانسوا ميتران. كذلك حضر كريستيان كيسنو لقاءات الوفد الحكومي الرواندي الذي زار باريس في أبريل/نيسان 1994. وخلال الإبادة الجماعية كان هذا الجنرال الفرنسي على اتصال مباشر مع الرئيس الرواندي المؤقت تيودور سينديكوبوابو. وكثيرا ما حث الإليزيه على تقديم المزيد من الدعم العسكري والسياسي لرواندا. 4- قصة رجل الإذاعة والسكاكين وعلاقته بفرنسا فيليسيان كابوغا، رجل أعمال رواندي هوتي انخرط بقوة في الصراع العرقي ما بين 1990 و1994. وكان كابوغا يرتبط بعلاقة مصاهرة مع الرئيس الرواندي جوفينال هابياريمانا. وعندما اندلعت الإبادة الجماعية كان كابوغا يتولى رئاسة صندوق الدفاع الوطني لجمع الأموال لتمويل مليشيات الهوتو، وأيضا هو المالك لإذاعة "ميل كولين" التي لعبت الدور الأبرز في التحريض على التوتسي والدعوة لتصفيتهم. ودعمت المحطة نشاط القتلة من خلال توفير المعلومات حول مكان إقامة حواجز الطرق وأين يتم البحث عن ممثلي شعب التوتسي. وخلال الإبادة الجماعية استوردت رواندا أكثر من 500 طن من السكاكين والخناجر والمناجل لذبح التوتسي، وفق تقارير الأممالمتحدة والمحكمة الجنائية الدولية. وتوضح التقارير أن كابوغا استورد 90 طنا من السكاكين والخناجر والمناجل ووزعها مجانا على المليشيات الموالية للحكومة لتواصل قتل شعب التوتسي. وتقول الجنائية الدولية إن كابوغا أحضر مئات الآلاف من السكاكين والأسلحة الأخرى من الصين إلى رواندا. وبعد سيطرة المتمردين على كيغالي وانهيار حكومة الهوتو لجأ كابوغا إلى سويسرا ولكنها طردته، ليتنقل لاحقا من بين كينياوالكونغو. ونجا الرجل من عمليتي اعتقال في 1997 و2003 في كينيا، ثم انقطعت أخباره إلى أن أُعلن اعتقاله في ضواحي باريس وأحيل لاحقا للجنائية الدولية. ويومها قيل إن الرجل ظل يعيش في باريس لسنوات طويلة بهوية مزورة، لكن تقارير حقوقية رجحت أن تكون المخابرات الفرنسية مكنته من الاختفاء طيلة هذه الفترة. ووفق ناشطين فإن باريس تحمي بعض مجرمي الإبادة الجماعية ولا تريد لهم المثول أمام العدالة الدولية وكشف تفاصيل تود بقاءها في أدراج النسيان. ومن بين هؤلاء أغاث هابياريمانا، زوجة الرئيس الراوندي السابق والتي تقيم في باريس وتخوض معارك قانونية لنفي تورطها في جرائم الإبادة ضد شعب التوتسي. يشار إلى أن بلجيكا التي احتلت رواندا في الفترة من 1922 إلى 1959 متهمة بالتورط في أحداث الإبادة الجماعية في عام 1994. وفي 2019، اعترفت الحكومة البلجيكية بأنها تتحمل جزءا من المسؤولية عن تلك الفظائع.