في عام 1504 ميلادية هدَّد "كريستوفر كولومبوس" الهنود الحٌمْر بأن يأخذ منهم القمر إذا لم يعطوه ما كان يحتاج إليه من المٌؤَنِ، وقد كان على علم بموعد خسوف القمر. ولما وقع الخسوف، سارعوا إلى إعطائه ما كان عندهم حتى يعود القمر إليهم. تٌشير هذه الحكاية القصيرة إلى الفرق الشاسع بين المعرفة والجهل، حيث تبرز المسافة الكبيرة الفاصلة بينهما، لأنه كلما اتسعت المسافة بينهما، سادت الخرافات ودخل الإنسان في ظلام الأوهام... وكلما ضاقت بينهما، ضعٌفت فرص سيادة الخرافات وتقلَّص مفعولها على الإنسان... فالمعرفة، بهذا المعنى، هي عدو الموروثات الخرافية المعيقة للمعرفة والنمو. ولا يمكن التخلص منها إلا بالتنوير والمعرفة، إذ لا إنتاج علمي ولا إبداع ولا تنمية ولا تطور... بدون تنوير يفضي إلى قطيعة معرفية وسياسية مع الذهنية القبَلِية والطائفية التي تحول دون استعمال مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لعقلها وانخراطها في روح العصر. في عام 1784 طرحت إحدى صحف برلين على المثقفين الألمان سؤال: ما التنوير؟ أو ما الأنوار؟. وكان جواب الفيلسوف "إ. كانط": "إنها خروج الإنسان من قصوره الذي هو نفسه مسؤول عنه، قصور يعني عجزه عن استعمال عقله دون إشراف الغير، قصور لا يكمن سببه في عيب في العقل، بل في الافتقار إلى القرار والشجاعة في استعماله دون إشراف الغير. تجرأ على استعمال عقلك أنت، ذلك هو شعار الأنوار". يحتاج الإنسان إلى اجتراح أفق فكري للخروج من قصوره عبر ممارسة قطيعة مع موروثاته التي تحول دون تطوُّره. والتنوير هو هذا الأفق الفكري للخروج من قصور عقولنا وأرواحنا وأجسادنا، ذلك القصور الناجم عن سيطرة ظلام أوهام ثقافة القببلة والطائفة والمذاهب المنغلقة والإيديولوجية الدينية... التنوير خروج من عمى الوهم الذي يحول دون إدراك الإنسان لقدرته على أن يرى ويفكر ويتخيَّل ويقرِّر... وكلما فقد الإنسان هذه القدرة، فقد قدرته على الإنتاج والإبداع... ما يؤدي إلا انطفاء نوره الخاص، حيث لا يعود قادرا على أن يتجاوز قصوره الذي هو مسؤول عنه. لذلك فالتنوير امتلاك الإنسان لنوره الخاص الذي يضيء به حقائق الإنسان والتاريخ والوجود... كما أنه حركة شجاعة لخروج الإنسان من آلة إشراف الغير عليه إلى بزوغ نوره وإشراق ذاته، أي خروج الإنسان عن أن يكون آلة، أو خروج الإنسان عن أن يكون في آلة القبيلة، أو الطائفة، أًو المذهب، أو المرجعيات الإيديولوجية الدينية... وهذا ما يتطلب أن تكون ذاته له، لا ذاتا في آلة غيره... تتجاوز أزمتنا اليوم أزمة عصر التنوير؛ فنحن لسنا في عصر مستنير، ولا في عصر في طريقه إلى الاستنارة، كما كان عليه الحال في عصر كانط E. Kant وقت كتابته جوابه على سؤال: ما الأنوار؟. نحن في لحظة نحتاج فيها إلى أن نبتكر رؤية وأفقا يفضيان بِنَا إلى طريق الاستنارة؛ الطريق الذي يُخرج الإنسان من قصوره الذاتي، ويمكِّنٌه من أن يكون ذاتا تمتلك قدرات تمكِّنها من أن تفكر وتعيش إشراقاتها الذاتية الطبيعية، بدل أن تٌفرَض عليها إشراقات من خارجها بذريعة قصورها الفكري الناجم عن خفوت أنوارها الذاتية، ما تسبّٓب في عجزها وحال دون وصولها إلى طريق الاستنارة. ليست المجتمعات العربية والإسلامية بطبيعتها عاجزة عن السير في اتجاه الاستنارة، كما أن عجزها هذا ليس قَدَرا لا يمكنها الخلاص منه، بل إن في إمكانها السير إلى المستقبل شريطة استيعابها لما تتوفر عليه من إرث حضاري تركه لها عصر التنوير الأوروبي وعصر الإنسية العربية الإسلامية، وعصر الحضارات كلها التي عملت على ابتكار طريق الحرية. ولإنجاز ذلك، ينبغي أن تعرف مجتمعات الشرق الأوسط وشمال أفريقيا البنيات التقليدية لذهنيتها وكيفية اشتغالها وحضورها في المجتمع، وما تحدثه من مقاومات في وجه تحديثه وبنائه ديمقراطيا حتى تتمكن من أن تُمارس قطيعة معرفية وسياسية مع كل النزعات التقليدية المسيطرة على وعيها ووجدانها، ما يمكن أن يقود إلى بناء ثقافة جديدة تمكِّنها من الإبداع والإنجاز العلمي المفضي إلى النمو وامتلاك القدرة على الاستمرار في الوجود... لكن ذلك لا يمكن أن يحدث بدون دخول فكر التنوير إلى المدرسة، حيث ينبغي تطوير تصورات تدريسية تساعد التلاميذ على ممارسة قطيعة مع تمثُّلاتهم الخرافية المستمدة من الفكر التقليدي للمجتمع والتي تحول دون انفتاحهم وانخراطهم في منطق المعرفة الحديثة واستيعاب مبادئها ومفاهيمها ومناهج إنتاج المعارف في إطارها... وتجدر الإشارة إلى أنه نادرا ما تظهر للمدرسين، بشكل مباشر، تمثلات التلاميذ التي تعوق تنوير عقولهم، لأنها تشتغل في أعماقهم وتحرِّكهم بدون وعي منهم. تبعا لذلك، فإن التمثل العقلي المعيق لتنوير المتعلمين لا يظهر بشكل مباشر من خلال المناقشة معهم... بل إن ما يظهر هو مظهره الخارجي. لذلك، فإن ما يجب النفاذ إليه وتحليله هو النموذج العقلي الثاوي في أعماقهم، حيث إنه يشكل السبب الأساسي في عدم قدرتهم على بناء معارفهم وذواتهم وقِيَّمهم الخاصة... لهذا، لا يجب الانخراط مباشرة في مواجهة ما يظهر لنا، أي ما يقوله التلاميذ وما يكتبونه... وإنما مواجهة تلك التصورات الخفية التي هي أصل هذه المظاهر والتي تشكل عائقا في وجه بناء معرفة جديدة وتحُول دون الانخراط في التنوير... وما دام التلميذ في مدرستنا لا يتعلم التفكير، ولا يتجرأ عليه، فإنه سيكون عاجزا عن الإبداع والابتكار والإنتاج، ما يحول دون أن يكون فردا، وسيظل في آلة كل من القبيلة والطائفة... وبالتالي فلا مستقبل له ولا لمجتمعه.