يسهل على ا لإنسان تذكر الأزمنة و الأمكنة إذا ارتبطت بأحداث استثنائية و غير مسبوقة. زمنيّاً، سترتبط سنة 2022 بقصة الطفل ريان أورام، ابن الوالدين السيد خالد أورام، والسيدة وسيمة خرشيش، و هي قصة تشكلت- ولا زالت تتشكل- بشكلِ مُرَكز على مدى خمسة أيام كانت بمثابة أيام تربط بين عالميْ الأحياء و الأموات، أو بين عالم الدنيا و عالم الآخرة. لقد اكتسبت الواقعة زخما كبيراً لأنها كانت بمثابة النافذة التي ظل الناس من مختلف زوايا القرات الخمس، يطلون عبرها على عالم حياة القبر و يتقمصون ضيقها و ظلمتها و وحدانيتها..، و هي تجربة اقتضت إرادة الله أن يعيشها كلُ من عاش تجربة الحياة قبلها. دأب الناس على أن يدفنوا موتاهم، بعد أن تنتقل أرواحهم إلى الملكوت الأعلى، ثم يعودون أدراجهم و قد سلَّموا بقدر الله تسليماً كاملا و مطْلقاً. غير أن الأمر بالنسبة للغالي ريان، فلقد كان الأمر مختلفاً في كل أبعاده، و على رأسها أنه سقط حيّاً، وفي غفلة منه، في قبر ضيق و سحيق، عشية الثلاثاء 28 جمادى الثانية 1443 /// 01 فبراير 2022. لقد أربكنا جميعا صراع الموت و الحياة في قضية ريان. و لأن الإنسان جبل على حب الحياة رغم إدراكه العميق و المكتمل لحقيقتها، فإن ريان استمع لقول ربه " "وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى"، ثم لبى النداء بدون خوف و بلا تردد، و كأنه كان يعرف أن الزمن زمن اللايقين، و التشييء، و القساوة، و النفاق، و الابتذال، و التملق، و الغدر، و عدم الثقة، و الانزياح عن قيم الفضيلة… و أنه لا بد من أن يموت شهيدا في سبيل دعوة الناس إلى تبني قيم الخير و المبادئ النبيلة من خلال دَقِّ الناقوس، و هو الناقوس الذي اخْتُزِلَ دقُّهُ في الدق التجاري من خلال "تفعيل الجرس ليصلك كل (تافه) جديد"، و القصة تعرفونها… و بالفعل، بمجرد أن انتشر خبر شهادة ريان، حتى بدأنا نلحظ انبعاث الناس من قبورهم و قوقعاتهم و غرفهم المُغَلَّقَةِ بالغفلة و الأنانية، و المعاصي و العمى، و هي أسباب كافية من أن تجعل سكان قرية حية ليس فقط من عداد الموتى، بل و حتى من صناع الموت. لقد نبهَنا ريان إلى أن الأوطان لا يهدد بقاءها سوى موت الضمائر و جفاء القلوب، و التنكر للأخلاق. و أنه إذا أرادت أن تحيى عليها أن تضع قيمة الحياة – و الحرية طبعاً- فوق الأنام و أن تعتبرها قيمة مقدسة مادامت هي قَبَسٌ من روح الله، و تجليٌّ مباشر لعظمته و إعجازه في الخلق. لكن ما يصدمني كغيري من الناس هو أننا شعبٌ ينسى و يتنكر بسرعة فائقة، و ينطبق قوله تعالى " فَإِذَا رَكِبُواْ فِى 0لْفُلْكِ دَعَوُاْ 0للَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ 0لدِّينَ فَلَمَّا نَجَّىٰهُمْ إِلَى 0لْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ"، على معظمنا. لقد وقفت عند تدوينات تقول بأننا سنكون عما قريب "في مغرب ما بعد ريان"، بحكم أن الواقعة أحيت فينا شيمنا و إنسانيتنا و مجدنا، و وجهت لنا دعوة إلى أن نبنيَّ مستقبلنا المجتمعي على أصالة مغربنا العريق. غير أنني أنا هنا للتذكير بأن نفس الأحاسيس و المشاعر و الآمال عشناها قبل أقل من سنتين مع تجربة "الإغلاق الشامل" و " الحجر الصحي"، الذي جعل الناس يصعدون قمم الأسطح مُحْرِمين و مكبرين و مهللين، و هم يرَوْن الموت رأي العين.. فانتبهوا حينها أن الموت مسألةَ وقت و توقيتُ صُدفة، فتبرؤوا من ذنوبهم و جنابة غفلتهم و عاهدوا الله أن يُطعِموا الفقير و يَعطِفوا على اليتيم، و أن يقدسوا قيمة حياة غيرهم، بل و أن يسعوا إلى إحيائها، بدل أن يؤذوها أو يقتلوها… لكن بمجرد ما غادر الناس سجونهم "الإرادية"، حتى لاحظنا ارتفاعا مهولا في فساد الأخلاق و القيمِ، سرقةً، و غشاً، و اغتصاباً، و قتلا، و نقضاً للعهود… و لا أملك هنا إلا أن أتمنى أن تستمر معنا كمغاربة، قبل أي مجتمع آخر، البركات التي قدم ريان نفسه قربانا لها إنقاذاً لنا من وحل قيم فاسدة أحرقت البلاد و العباد، و أفرغت القرى و المدن، و أفزعت الأنفس، و تركت المؤشرات(أو المنحنيات) الإيجابية في تنازل و المؤشرات السلبية في ارتفاع متواصل. الإثنين 05 رجب 1443 /// 07 فبراير 2022.