أزمة المصداقية، ازمة الثقة في وسائل الاعلام، غياب الاستقلالية، التضليل الاعلامي … كلها مشاكل وهموم تعترض الصحافة والاعلام، ويتساءل الملاحظ والمتتبع للواقع الاعلامي: هل هذا "المأزق" الاعلامي مرتبط بمأزق المجتمع باعتبار ان الصحافة والاعلام لا يمكنهما ان تستقلا عن المجتمع الذي تخاطبه؟ كما ان توجيه النقد لسلطة الصحافة كيفما كان وزنها ودرجة تأثيرها يستلزم نقد كل اشكال السلطة التي تعبر عن قوتها من خلال مؤسسات المجتمع. ازمة الصحافة والاعلام مرتبطة بإشكالية كبرى، هي طبيعة العلاقة القائمة بين الصحافة والسلطة والمجتمع، وهي علاقة لا يمكن استيعابها بمعزل عن ميلاد الدولة الحديثة في الغرب اولا، ثم في الشرق ثانيا، حيث عانت – الصحافة- في بدايتها من خلل جسيم في ظل غياب مبدا فصل السلط، وفي ظل مجتمع قاهر شرعن للسلطة التنفيذية الزحف تدريجيا على سائر السلطات والمؤسسات، فتآكلت سلطة استقلال القضاء، وضعفت السلطة التشريعية حتى وصل الامر الى درجة دمج الدولة في النظام السياسي فباتت هذه الدولة الحديثة تتحكم في كل شيء: العمل – التجارة – الكتاب- الصحافة والاعلام… ولاحظ الاستاذ غسان امام انه حتى ولو توفرت الحرية في المجتمع، وحتى لو تحررت السلطة من انغلاقها، فستبقى حرية الصحافة والاعلام حرية نسبية، فكل صحافة في العالم تتمتع بحرية محدودة لان الصحافة دائما معبرة او ناطقة باسم المؤسسة القائمة والطبقة الاجتماعية المهيمنة. الصحافة في النظام الاشتراكي هي صحافة الحزب الحاكم، الصحافة في النظام المطلق هي صحافة الحاكم الواحد، الصحافة في النظام الديموقراطي او الرأسمالي هي ملك للشركات الصناعية او المالية الضخمة التي اشترتها من الاسر الارستقراطية. فكيف السبيل للخروج من المأزق " الاعلامي" الراهن؟ وهل هناك امكانية لوجود صحافة ذات مصداقية، متحررة من القوة والنفوذ ومن الأيديولوجيا المسيطرة، ولها القدرة والتأثير على ان تكسب ثقة واقتناع الجمهور بصدق الوسيلة الاعلامية؟ هل هناك امكانية لوجود صحافة تخاطب قناعة الراي العام ولا تتلاعب بالعقول؟ للصحافة دور اساسي في تنوير الراي العام او في التشويش على اذهان الناس، ومعلوم ان عملية التنوير او التشويش لها ابعاد تربوية وفكرية واجتماعية وسياسية، ومن هنا خطورة هذه الوسيلة الاعلامية على حياة المجتمع، فهي متعددة التأثيرات والوظائف، وتمتلك قدرة هائلة على التأطير والتوجيه او الاستقطاب، بل ان الصحافة في الزمن الراهن اقترنت عضويا بالسلطة و بكل اشكال السلطة، الامر الذي جعلها مع التطور تتحول الى سلطة هي بدورها تتحكم في اختيارات الناس وتتدخل في شؤون الحكم بل ويصل بها الامر الى حد القدرة والقوة على اسقاط او تغيير القوانين والانظمة. ومع تسليمنا بهذه الحقيقة سيلاحظ كل متتبع لسير المناظرات والمناقشات والكتابات التي ظهرت على صفحات الصحف ووسائل الاعلام المختلفة تباين التقييمات وتفاوتها وتنوع ردود الافعال بين الايجابي والسلبي ازاء العديد من القضايا المحلية والوطنية والعالمية وعلى سبيل المثال لا الحصر جائحة كوفيد 19 وطريقة معالجة الاخبار التي تحوم حول هذا الوباء المدمر والمحير، ما بين من يقلل ويسخر من خطورته، ومن يفرط من شدة خطورة جرثوميته وتهديده او تدميره للكائن والكون، ما بين من يقلل من كفاءة وسائل الاعلام المحلية في نشر اوصف او نقل صور عن ضحايا هذه الجائحة الوبائية، وبين من يلجا الى الاعلام الاجنبي للبحث عن الحقائق والتفاصيل الجزئية ..وهو ما قد سبب في فقدان "المصداقية" من اجهزة اعلامنا المحلية، حتى كان ذلك مبررا للتحول الى وسائل الاعلام الجديدة كمصدر للخبر في ظل صعوبة الرقابة على محتوى هذه الوسائل، وهي التي جعلت من اي فرد وبأبسط الوسائل التقنية مصدر اخبار محتملة قد تصل للألاف بل الملايين من القراء والمتتبعين، وحسب اخر الاحصائيات فان اكثر من 500 مليون تغريدة تتم مشاركتها يوميا على مواقع التغريدات، وبالتالي يمكن القول ان وسائل اعلامنا التقليدية قد عجزت عن التأثير في تصورات الافراد ومواقفهم وردود افعالهم تجاه هذا الوباء المحير؟؟ اندلعت جائحة كوفيد 19 سنة 2020، وكانت المعلومات المتداولة حول هذا الفيروس الجديد وتحوره محدودة وقليلة، ولم يكن احد يعرف بالتحديد منشأ هذا الفيروس (اهو صيني المولد ام هو انتاج مخبرات لم تستطع السيطرة عليه؟؟) وما ماذا تأثيره على الانسان والكائنات؟؟ لقد كان لغياب او لقلة المعلومات العلمية الصحيحة سببا في انتشار الشعور بالخوف والدعر بين الناس مما خلق بيئة ملائمة لتنامي الاخبار الزائفة. و شهدنا كما هائلا من المعلومات الصحيحة والخاطئة تنتشر بسرعة البرق عبر شبكات التواصل الاجتماعي في وقت مازال العلماء منكبين على دراسة خصائص هذا الفيروس الطارئ والمتحور، بل انهم لم يستطيعوا حتى تقديم اجابات محدودة عن سبب وكيفية تنقله وتحوره وصلة القرابة بين اصله وفروعه في اسيا وامريكا اللاتينية وجنوب افريقيا ..وهوما زاد من تأجيج المخاوف لذى عامة الناس، وكان لنقص المعلومات الدقيقة عن هذا الفيروس القاتل عاملا رئيسيا في تزايد القوة التضليلية لأجهزة الاعلام الجديدة مما دفع العديد من المفكرين والباحثين في الشأن السياسي والاعلامي الى اللجوء الى نظريات المؤامرة والشائعات المتداولة على الانترنيت. واعتقد عددا منهم ان وسائل الاعلام الصحفية الرسمية والمستقلة والمتخصصة لم تضطلع بدورها على نحو افضل في تحليل ومعالجة المعطيات المصاحبة لهذه الافة الوبائية، اوفي مكافحة التضليل الاعلامي، لتكتفي بترديد او اجترار السيول الهائلة من المعلومات الخاطئة او المظللة والتي تقدف بها وسائل الاعلام الجديدة، وفي احسن الاحوال تقوم بترجمة القصاصات الاخبارية التي تصدر عن منظمة الصحة العالمية او المؤسسات الموازية لها، او تعيد قراءة النشرات الاعلانية لبعض المؤسسات وشركات صناعة الادوية التي تعمل في انتاج اللقاحات( موديرنا – فايزر…) وربما ان هذا " المأزق الاعلامي" قد يكون سببه ان اغلبية الصحفيين غير متخصصين في تغطية هذا النوع من الجائحة، اوهم قليلي العدد في الصحافة العلمية المتخصصة في الاوبئة والجوائح. هذا الوضع المختل والمازوم " اعلاميا" ساعد على تفشي "وباء المعلومات" لتتحول تلك الاخبار العاجلة والسريعة الى تضليل معدي اكثر من فيروس "كورونا"، وان تضليل عقول البشر هو على حد قول باولو فريري( اداة للقهر )، لأنه عندما يؤدي التضليل الاعلامي للجماهير دوره بنجاح تنتفي الحاجة الى اتخاد تدابير سياسية واجتماعية وتربوية بديلة. وفي سياق الاهتمام بأهمية البحث عن الحقيقة ومكافحة التضليل، يرد الحديث دائما عن مفهوم المصداقية لمواجهة تزايد القوة التضليلية لأجهزة الاعلام في عصر الرقمنة التي اصبحت فيها الصحافة في حالة من الشد والجذب ما بين الرغبة بمجاراة سرعة الوسائل الحديثة في نقل الحدث دون الحرص على الحفاظ على مصداقية الخبر ونقله بمهنية وتجرد. مفهوم المصداقية من المفاهيم الاساسية التي يروج لها بكثرة في الكتابات والدراسات الاعلامية وتزايد استخدامه بالذات في الحديث عن دور الاعلام في القضايا الاجتماعية والوطنية تأكيدا لتوافر هذه المصداقية او نفيا لها، لكن دون تحديد واضح لماهية المصداقية وابعادها او مدى صلاحية استخدام المفهوم ذاته كمدخل لقياس الكفاءة التأثيرية لأجهزة الاعلام في المجتمع. مصداقية الاعلام هي صدق الوسيلة الاعلامية، اي صدق الرسالة ودقتها وعدم تحيزها واعتقاد جمهور المتلقي في هذا الصدق، اعتمادا على مجموعة من المقاييس، منها: القياس اللغوي اي درجة وضوح لغة هذه الرسالة وعدم غموضها، والمقياس الايديولوجي اي عدم تركيز الرسالة على وجهة نظر واحدة وتجاهل بقية الاطراف ووجهات النظر الاخرى ومقياس المعرفة اي مدى شمول او جزئية معرفة القائم بالاتصال بالموضوع الذي يكتب فيه. نحن امام مصطلح جديد وافد بالغ العمومية والتجريد يراد ترويجه بوعي او بدون وعي حتى يشغلنا ردحا من الزمن بعيدا عن اي محاولة جادة لفهم حقيقة الواقع الإعلامي في مجتمعنا، ولقد انشغلنا مدة طويلة بمفاهيم مشابهة وافدة من مثل – ديموقراطية الاعلام – حرية الاعلام–الحق في الاتصال–الحق في الوصول الى المعلومة-المشاركة في الإعلام وظللنا نناقش هذه المفاهيم ونطالب بها ونعقد لها الندوات والمؤتمرات، تم اكتشفنا بعد ذلك عدم صلاحيتها كأداة او مدخل لتحليل وفهم العملية الاعلامية لدينا، ليس فقط بسبب ان ديموقراطية الاعلام او حريته او الحق في المعلومة جوانب تكتسب ولا تمنح وتتحقق تلقائيا حينما تتهيأ ظروف موضوعية لذلك، ولكن بسبب انه اذا لم تتوفر هذه الظروف الموضوعية والقدرات الذاتية على الاتصال وممارسة هذه الحقوق فكيف نتحدث عن الحق في الاتصال او حرية التعبير؟؟؟ د. عبد الفتاح عبد النبي. تحفظنا على مفهوم المصداقية لا يتحدد فقط نتيجة لما يحيط به من عمومية ومثالية مفرطة ولا نتيجة اقتناع بارتباط ممارسات اجهزة الاعلام بأوضاع القوة والنفوذ في المجتمع وبالأيديولوجيا، ولكن ايضا بمبررات ترتبط باليات العمل الاعلامي ومتطلبات الانتاج الجماهيري السريع من قبيل الوقت والسرعة والمساحة والامكانيات المتوفرة للوسيلة الاعلامية الجديدة، فهي لها دورا لا يقل اهمية من عدم دقة الوسائل الاعلامية او تشويهها وغموضها في كثير من الاحيان وبالتالي عدم اكتمالها او صدقها. التكنولوجيا الاعلامية الجديدة سهلت المتابعة الاعلامية الفورية، وسمحت للنظام الاجتماعي باستخدام الوسائل التقنية للاتصال السريع( الهواتف الذكية- شبكة الانترنيت..) من اجل التشويش على الخبر او تحريفه، كما ساعد هذا الطابع السريع للخبر كثافة وانتشارا على تزايد القوة التضليلية لهذه الاجهزة، وفي ظل سوق ونظام تنافسي يعطي الامتياز( لمن يسبق الاخرين في الحصول على تلك السلعة السريعة التلف – اي الاخبار- وبيعها للمستهلك) شيللر. Schiller فاين المصداقية واين الدقة في نقل الاحداث والاخبار ..عبر هذه الوسائل الاعلامية الجديدة التي جعلت من اي فرد وبأبسط الادوات مصدر انباء محتمل لجمهور قد يتجاوز الملايين، وفي ظل ضعف الرقابة على المحتوى مما قد يسمم العقل الجمعي ويؤدي لنتائج وخيمة ( فتكنولوجيا الاتصال، باستخداماتها الحالية، تروج لتوجهات بلا تاريخ، وبالتالي فهي توجهات بلا مصداقية ومضادة للمعرفة..) شيللر اننا اذا كنا نعتقد ان الخطأ الجوهري في تقييم دور اجهزة الاعلام في معالجة عدد من القضايا الاجتماعية والسياسية او قضايا اخرى يأتي من غموض المفاهيم التي ينطلق منها البعض في مناقشة هذا الدور، مثل مفهوم المصداقية والحياد والتعددية والحق في الاتصال، وعدم صلاحية هذه المفاهيم كأدوات لتحليل وفهم واقع الممارسة الاعلامية في مجتمعنا، الا انه لا يمكن التنازل عن الحق في حرية الاعلام، والقدرة على الاتصال ونعني به (ما يتمتع به او لا يتمتع به كافة الاطراف المشتركة والفاعلة في عملية الاتصال من قدرات وامكانيات تدعم او تعيق اداءها خلال تفاعلها اثناء العملية الاتصالية) د. عبد الفتاح عبد النبي. ان حرية الاعلام، هي جزء من حرية التعبير و تعني في جوهرها (الوصول الى المعلومة محققة وموثوقة) تمكن الجمهور من فهم قضايا واحداث واقعة في مجتمعه ومحيطه حتى يتمكن من مواجهتها. وعدم الوصول الى المعلومة او عدم التحقق من مصداقيتها خطر على حرية التعبير وعلى الديموقراطية ككل، فعندما لا يكون الجمهور مهيأ للتمييز بين المعلومات الصحيحة وتلك الخاطئة، واذا لم تضطلع وسائل الاعلام بدورها كاملا في انتاج مادة صحفية تم التحقق منها، تفقد حرية التعبير معناها وفي تلك الحالة لن تنقل سوى الاخبار الزائفة وهو ما يعني فوز خطاب العاطفة على الخطاب العقلاني وتحظى حرية الصحافة وحرية التعبير بمكانة جوهرية ضمن المسؤوليات المنوطة باليونيسكو حيث يتم الاحتفال بهذه الحريات سنويا في الثالث من شهر ماي كل سنة. ويعد هذا اليوم بمثابة الضمير الذي يذكر الحكومات بضرورة الوفاء بتعهداتها تجاه حرية الصحافة. وتؤكد منظمة اليونيسكو انه (لا يمكن حل اي ازمة بدون معلومات دقيقة تتدفق للجمهور بانسيابية وحرية عبر مختلف وسائل الاعلام ). لذا فالتأكيد على الترابط العضوي بين ازمة الصحافة وازمة المجتمع مشروع على اكثر من صعيد، بل ان مشكلة الصحافة الرسمية والصحافة المعارضة هي مشكلة الحرية والديموقراطية في المجتمع، اذ لا يمكن مطالبة اية صحافة بالانفتاح والمهنية والمصداقية دون المطالبة بإصلاح الاوضاح الاجتماعية والسياسية وتعزيز الحريات.