فجأة هتف بحار في أسطول كريستوفر كولومبس، بأعلى صوته: اليابسة! اليابسة! ومنذ تلك اللحظة تغيرت في عالمنا أشياء كثيرة وجرت أحداث عديدة. من أهم هذه الأحداث أن تلك اليابسة أصبحت «العالم الجديد»، ولم يعد الأطلسي «بحر الظلمات»، بل قام من حوله عالم مليء بالحياة والحركة والتجارة. ثم تبع كريستوفر كولومبس مغامرون وملاحون ليبحروا هم أيضا وليبنوا على سواحله دولاً جديدة. تذكرت كل هذا وأنا أقف إلى جانب عميد كلية الآداب والعلوم الانسانية ابن زهر بأكادير الدكتور أحمد بلقاضي وأنا أتأمل ابتسامة رضى تعلو محياه وهو يشاهد أسطوله الإداري يرسو بعالم جديد أطلق عليه اسم "كلية تيفي". كان الأمر في البداية، أشبه بمغامرة في بحر ظلمات لا يعرف أحد حدوده وأخطاره. فقد غرق الكثيرون وهم يحاولون الوصول الى ارساء انتقال سلس من عصر "غوتنبرغ" مخترع الطباعة إلى عصر "زوكربيرغ" مخترع الفايسبوك. كانت فكرة إرساء أول قناة جامعية بالمغرب مثل وجود اليابسة خلف بحر الظلمات.كان الأمر يحتاج الى بعد نظر والأهم هو وجود شجاعة "إدارية" تؤمن بالفكرة وتوفر الأسطول والاشرعة وزاد السفر. تمنيت أن أدخل الى رأس العميد في تلك اللحظة لأسمع ما يدور في خلده وهو يرى الفكرة تتجسد عبر استوديو جميل يتحرك داخله فريق شاب من طلبته يؤطرهم زميله وصديقه الدكتور عمر عبدوه. تمنيت أن أقاسمه ذلك الفرح الطفولي وهو يرى ضيوفه وعلى رأسهم الرئيس الجديد لجامعة ابن زهر،يشاهدون أول لحظات البث المباشر لهذه القناة الاستثنائية في هذه الظرفية الاستثنائية. صحيح أنه في السنوات الاخيرة كانت عمادة كلية الاداب والعلوم الانسانية تراقب عن كثب مشاهد غياب القلم والورق، وتحول الكتاب الرصين بكل ثقله إلى مجرد لوحة ضوئية على هاتف صغير. كان بعض القلق يتسرب عبر شقوق فضاءاتها وهي تسمع عن مكتبات عريقة أغلقت أبوابها لتحل محلها محلات البقالة. فسارعت الى احتضان التعليم الإلكتروني عبر انشاء موقع الكتروني ثم منصة رقمية، إلا أن هذا الفيروس الصغير الذي باغث الجميع كان له الفضل في البحث عن بدائل أكثر شساعة ودقة ومردودية. ولأننا لا نذهب إلى المصادفات بل هي من تأتي الينا، فإن مصادفة «كورونا» جعلت المؤسسات الجامعية عبر العالم تتجه سريعاً نحو التعليم عن بعد، حتى في الطب والجراحة كانت البدائل عن بُعد. وعندما أُجبرت الكلية على إغلاق أبوابها لأول مرة منذ حوالي أربعين سنة، وقفت عمادة الكلية بكل طواقمها تشاهد الأمر الذي استغرق سنوات عديدة للقيام به، يحدث في غضون أسابيع قليلة، مئات الالاف من الطلبة استخدموا الانترنت للدراسة. لقد رسخ في الأذهان أن التكنولوجيا رائعة، والتعليم عن بعد أمر مذهل؛ إلا أنه لا يمكن أن يحلّ مكانَ التواصل البشري. صحيح أن التعليم عن بعد له فوائد عديدة إلا أن له سيئة واحدة: لن يكون في حياتك مدرّس مثل عابد الجابري أو العروي أو المختار السوسي. وحتى في رحاب كلية ابن زهر لن يكون بجانبك الأستاذ الناجي كي يرشدك والأستاذ الزفزاف كي يلهمك. فالأستاذ العظيم يلعب دوراً عظيماً في حياة طلبته، بينما يظل الحاسوب مجرد جدار أصم. كان التحدي الذي نجحت فيه كلية الآداب والعلوم الانسانية ابن زهر هي ان تمازج بين البعد والحضور في التعليم عبر بديل يقدم للطالب الدرس والخبر والحدث ويقترب منه يحاوره ويسأله ويلبي حاجته في المعرفة والبحث ويكسبه الثقة في مؤسسته. والأهم أن يمنحه قيمة الانتماء الى هذا الصرح الجامعي الكبير. هناك مثلٌ صيني قديمٌ يقول إن الصينيين لا يمكنهم أن يفعلوا أي شيء إلا بامتياز. وقد نجحت كلية الآداب والعلوم الانسانية في إرساء أول قناة جامعية في المغرب بامتياز. جميل الفرح والنجاح والعمل والإنجاز والمهنية والتطوّر ومحبة الناس والتهيئة للمستقبل بخبرة الآباء وحماس الأبناء.جميل أن ترفع كلية الآداب والعلوم الانسانية شعارا رائعا: "الكلية تتواصل .. الكل يتواصل". ولكن الأجمل أن هذه المبادرة المتميزة والخلاقة جعلتنا ندرك حقيقة مطلقة وهي أننا كُلّنا تعلّمنا المشي، لكنّ القليل عرف الطّريق.