مع بداية تسعينيات القرن الماضي، ولجت عامي الثاني في مدرسة سيدي محمد ابن عبد الله الإعدادية بمدينة جرادة.. عام كنت قد اعتدت فيه على المدرسة الإعدادية، بعدما هجرت مدرستي الابتدائية "ابن سينا للبنين" التي عشت فيها طفولتي الأولى ولم أستطع تقبل فراقها والانتقال إلى مرحلة "الكبار"، وعانيت كثيرا خلال العام الأول مع الظروف الجديدة.. عام ستتنوع فيه مواد الدراسة، وسنتعرف فيه إلى أساتذة كرام جدد.. بينهم سي سامر يحيى.. لن أنسى ذلك اليوم الذي دخلت فيه إلى تلك الحصة.. وجدت رجلا عملاقا، بملابس صيفية، ولا يتحدث إلا العربية ! كل كلامه فصحى في فصحى.. خفته في البداية، فأنا طفل صغير لم أبلغ 14 بعد، وقد بدا لي عملاقا مهيبا.. لكن مع مرور الأسابيع والشهور، سيصبح من أحب الأساتذة إلى قلبي، وبفضل جديته وذكائه وثقافته الواسعة، وقدرته على إيصال الدروس بسلاسة وجمال، أصبحت من أنشط التلاميذ لديه.. وبخاصة في حصة المحفوظات، وما أدراك ما المحفوظات.. قصائد شعر كنا نجبر على حفظها حفظا، وإدخالها بعنف إلى ذاكرتنا الصغيرة، لكن مع سي سامر يحيى، أصبحت متعة حقيقية.. لأول مرة في حياتي أستطيع تذوق الشعر، والأدب، وأنسى كلمة "محفوظات" ! ذات مرة غاب أستاذنا الفاضل لداء ألم به، ولم نره لأكثر من أسبوع، فجاءتنا الإدارة بأستاذة لتعويضه.. أذكر أنها درستنا في مادة "المحفوظات" قصيدة لأبي القاسم الشابي رحمه الله، ومما قالته لنا أنه كان شخصا يائسا من الحياة ! كنت أنشط في المشاركة كعادتي في تلك المادة، وأحبتني الأستاذة وكانت تمدحني، لكن شيئا كان يحول بيني -أنا الطفل التلميذ- وهي الأستاذة.. لم تستطع ملء الفراغ الذي تركه غياب الأستاذ الفاضل سي سامر.. بعد فترة الغياب، عاد الأسد إلى عرينه، وكان أن بدأ يطلع في دفاترنا على دروس الأستاذة، فبدا على وجهه غضب عندما وصل إلى قصيدة الشابي، ثم ما لبث أن طلب منا بصوته الجهوري، تقطيع الصفحة وأعاد معنا درس الشابي، فرأينا شاعرا آخر، مليئا بالحب والأمل والرغبة في التغيير ! لم يكن أبدا ذلك الرجل اليائس وهو الذي أشهر قصائده "نشيد الحياة" ! كان سي سامر يستغل أي واقعة ليشرح لنا تفاصيل الحياة التي سنستقبلها، ويعيننا بالمعطيات التربوية الضرورية التي ستساعدنا على ذلك.. منها قصة طريفة وقعت ذلك العام، وهي أن أحد الزملاء كتب كلاما غراميا في ورقة وأعطاه لزميلة معنا في القسم، ويبدو أنها لم تقبل بخطوة العاشق الغبي فثار خلاف، وانكشفت القصة، فاستغل أستاذنا المناسبة وحدثنا عن العاطفة والعلاقات العاطفية وضوابطها.. لم يكن يحدث تلاميذه المراهقين فحسب، بل كان يتحدث إلى أبنائه.. لم يترك القصة تمر ويقول: ما لي ولهؤلاء، ليس من مهامي الاهتمام بمشاكل المراهقين، ودوري تلقين الدروس المقررة.. بل كان يهتم لأمرنا.. وتكررت وقائعنا، وتكرر اهتمام أستاذنا بنا.. وبرغم مهابته الكبيرة، كنا نحبه ونطمئن لحديثه ونصدقه.. كان شخصا متفانيا في عمله، وذات مرة أخبرنا عن أن الناس تعتقد أن المهن اليدوية هي الأصعب وهي التي تجعلها صاحبها دوما متعبا .. وشرح لنا بطريقة لن أنساها أن تعب الدماغ هو الأصعب، وإذا كان الإنسان يستطيع أن يستريح بعد يوم متعب في أعمال يدوية، فإن الدماغ إذا تعب، من الصعب أن يستريح.. وعندما كبرت، فهمت ما كان يقصده أستاذي الفاضل.. جعلني سي سامر من عشاق الشعر والأدب، وبدأت أقرأ مادة المحفوظات بشكل مختلف، وكنت ألتهم كل ما يصل إلى يدي من كتب الأدب من خزانة الإعدادية، ولا أنسى يوم حملت بين يدي مجمع الأمثال للميداني إلى البيت، وهو أثقل مني ! لم تعد مادة "المحفوظات" تلك المادة الثقيلة التي أتعب في إدخالها إلى ذاكرتي غير المرحبة بها، بل صارت مادة حية، لشاعر حي، قالها في سياق ما، وشعور ما، وظروف ما.. وكم كنت سعيدا وأنا أرى أستاذي الفاضل سي سامر في أول حصة للعربية في عامي الرابع بالإعدادية.. أن يكون مدرسي لنفس المادة لعامين في المرحلة الإعدادية هدية إلهية عظيمة.. علمنا الأستاذ الفاضل حب الكتب، فكان يوزع علينا كتبا يجلبها هو من مكتبته، مع كتب جلبنا ما لدينا منها، فيعطي كتابي لذاك، ويعطي كتاب ذاك لي، ويوزع ما توفر من الكتب على جل التلاميذ.. ويطلب منا إنجاز ملخصات لها، ويسهر الليالي في تصحيحها، وإرجاعها لنا، مع ملاحظاته، ويؤكد لنا أنه يحتسب النقاط لكل واحد يجتهد.. لم تكن الكتب مادة مقررة من الوزارة، لكن أستاذنا كان يعرف أهمية القراءة والكتب، فكان يجتهد في أن يغرس فينا حبها لنستفيد ونفيد.. أذكر أن أول كتاب لخصته كان "عبقرية الصديق" للعقاد.. ولحد الآن، كلما أعدت قراءة هذا الكتاب الرائع، أتذكر أستاذي الفاضل سي سامر يحيى.. مما غرسه فينا أيضا، تعلم أدبيات النقاش وتبادل الآراء ومحاولة فهم ومواضيع ذلك العصر.. فكنا نناقش مواضيع كثيرة وتعلو أصواتنا كل محاولا الدفاع عن رأيه وموقفه، وهو يستمع ويشارك وقت الضرورة للتوجيه، ثم ينهي النقاش بحكمة الأستاذ.. من الأشياء الرائعة التي كان يعملها الأستاذ الفاضل، أنه كان يطلب منا أن نحرر حكمة ما في السبورة، بحيث تكون أول حديثنا عندما يدخل إلى القسم.. وبهذه الطريقة استمتعنا بكثير من النقاشات، وتعلمنا الشيء الكثير من بعضنا البعض، ومن توجيهات أستاذنا.. مما تحتفظ به الذاكرة من تلك الأمثال المثل التالي: "عندما ينقذ الراعي النعجة من براثن الذئب، تعده النعجة بطلا، بينما يعتبره الذئب ديكتاتورا" ! وأحد الزملاء الأعزاء حرر ذات يوم الحكمة التالية "كلما دخنت سيجارة، كلما دققت مسمارا في نعشك" !.. ضحك سي سامر عندما قرأ الحكمة المقصودة، وعرف أنه كان المقصود بها.. فوقتها كان شخصا مدخنا، ولم أره البتة يدخن داخل القسم، أو حتى يدخن بشراهة كما كان حال أحد الأساتذة في حصة الفيزياء وقد كان يشعل سيجارة بأخرى ! كان راقيا حتى في تدخينه.. ! وحدثنا عن أن سلوك التدخين سلوك سيء، وشرح لنا مضاره، وأنه لا بد من التخلص منه، وأظنه انقطع عن التدخين لاحقا.. في العام الرابع من الإعدادي، كنت أستغل بعض اطلاعي على كتب الأدب ودواوين الشعر فأشاغب في نقاشات معه في مواضيع الشعراء والأدب، ولم يحدث يوما أن نهرني أو احتقرني، أو لعب دور البطل في الحديث إلى تلميذ.. هو من غرس فيّ حب الشعر والأدب والكتب منذ الثانية إعدادي، وهو من يناقش معي الآن في عام الرابع.. وهو من كان يؤكد لي في كل مناسبة أنه يحب النقاش ويشجعني بنقاط إضافية تحسب لي في نتيجة المادة.. كنت متفوقا جدا في العربية والفرنسية وغيرهما، لكن المواد العلمية كانت تذبحني من الوريد إلى الوريد.. نظام تعليمي فاشل يدرس كل شيء لكل تلميذ، بغض النظر عن استعداداته وإمكانياته.. وفي العام الرابع، قرر زملاء القسم الدخول في إضراب احتجاجا على نتائج امتحانات الدورة الأولى، بدعوى أن عملية التصحيح شابها ما شابها من خروقات.. كنت من الرافضين للإضراب، وحتى لا يتم التخوين، شاركت فيه، وكنت أخرج من الحصص كغيري.. ذات مرة حضر إلينا الحارس العام للإعدادية، سي بوكرابيلة موسى، وناقش معنا الموضوع، فتحدث الجميع ووجدت الفرصة مناسبة لأكرر موقفي وأصدع برأيي الذي كنت أحدث به الزملاء.. وهو أن الإدارة ملزمة بأن تظهر لنا نتائج تصحيح موادنا وربما تعاد العملية برمتها مرة أخرى، لكن إن حدث وتأكد أن عملية التصحيح كانت سليمة، وأن الخطأ من عند التلاميذ، فعلينا وقتها أن نتحمل مسؤوليتنا ونقبل بأي عقوبة تقررها الإدارة.. أعجب سي بوكرابيلة بموقفي، وأشاد بكونه موقفا متوازنا، ما زاد من حقد بعض المضربين الكسالى علي.. حتى وهم يعلمون أنني كنت من المشاركين في الإضراب برغم أنني لم أشكك في عملية التصحيح بل وكانت علاماتي عموما جيدة .. مرت أيام واشتدت الأزمة، وبدأ الزملاء التلاميذ يبحثون عن سبيل للتراجع وتفادي غضب الإدارة وقد عدنا إلى القسم، فسألني بعضهم النصيحة، فما كان مني إلا أن وجهتهم نحو أستاذ مادة العربية، سي سامر، فهو الرجل الذي تعلمنا منه إبداء الرأي بشأن أي موضوع، ومناقشته كأب وليس كأستاذ.. وكذلك كان.. خلال كل تلك الفترة لم أسمعه يتحدث بغير العربية الفصحى، والمرة الوحيدة التي شكلت استثناء غريبا كانت عندما جاءنا أحد الأساتذة غريبي الأطوار يدق على نافذة قسمنا سائلا أستاذنا أن يمده ب "بريكة" ليشعل سيجارته !.. كان رد أستاذنا عليه بالدارجة نغمة غريبة تخرج من فيه، وهو الذي لم نسمعه يتحدث إلا بالفصحى.. قبل أيام، وخلال شهر رمضان الفضيل، بلغني نبأ وفاة أستاذي الفاضل سي سامر يحيى.. مر شريط طويل من معرفتي بالرجل أمام عيني، وكان أثر النعي عميقا في قلبي.. ذاك أستاذ أحببته، واحترمته، وقدرت فيه رغبته في أن يصنع منا شيئا بما توفر لديه من وسائل.. رحمك الله أستاذي الفاضل سي سامر يحيى، وجعلك في عليين، مع النبيئين والشهداء والصديقين، وجزاك الله خير الجزاء عن كل ما قدمته لتلاميذك.. لن ننساك أبدا ما حيينا..