لن أنسى أستاذي لمادة الاجتماعيات سي عبد العزيز آيت بنصالح وأنا طفل لم أبلغ حينها السنة الثانية عشرة بعد، حينما كنت تلميذا في السنة الأولى من التعليم الإعدادي، وهو يمر بين الصفوف مكسرا رتابة الدرس ومضفيا شيئا من التشويق. عندما يلحظ منا فتورا عن الانتباه للمعلومات التاريخية من درس التاريخ أو الجغرافيا أو درس التربية الوطنية، ينبري بمهارة ليسرد علينا حكايات أو قصصا ظنناها حينذاك، ونحن الأطفال، حكايات وقصصا من التاريخ كُتبت ليس بقلم أستاذنا ولا بحبكته الروائية! كيف لا وقد كنا لا نفقه في فن الرواية شيئا، أو فن تأليف القصص، وما كنا نظن حينها أن أستاذنا المراكشي المرِح ذا البشرة السمراء الخفيفة كان يسرد علينا "رواياته" وهي مازالت بعدُ طرية وطازجة ساكنة في مسودّاته تنتظر الإفراج...! ولا أنسى كيف أن "مشهدا" من محكياته أصابني بخجل كبير؛ إذ كان حول عطار طوّاف بين المداشر والقرى النائية يبيع موادا تجميلية وتوابل وأوشحة ودمالج وأقراطا... تستدرجه امرأة لنفسها فتفضي القصةُ إلى "المحذور"...! لن أنسى كذلك إطلاقه عليَّ-وأنا التلميذ الخجول الصامت-لقب "الرجل الطيب"، حينها كنت أتساءل بحيرة: كيف لأستاذنا هذه الطاقة على الكتابة وهذه الجرأة لأن "يحدثنا" عن سلاطين وملوك وشخصيات لا نعرفها بكل دقة واسترسال عن "المدينة الخرافية" التي كنت أجهل عنها عمقها وعبقها وسحرها و"سرها الأكبر"...! تشاء الحياة أن تتوزعنا همومها ومشاغلها واتجاهاتها ولم أعد طفلا كما كنت، وأستاذنا "سي آيت بنصالح" لم يعد ذلك الأستاذ الذي يلقننا أحداثا وجغرافيا بل صرت أنا شغوفا بفن الرواية قراءة وغوصا وافتتانا بهذا الشكل من الكتابة متطلعا لأن أحظى بتخليف رواية أو روايات إن أنا أسعفني الزمن...!؟ وصار سي آيت بنصالح روائيا متميزا إذ أصدر ثلاث روايات جميلة متتالية، وننتظر منه المزيد. لم أخف فرحتي وأنا أتتبع أخباره الأدبية وأتقصَّاها على صفحات الشبكة العنكبوتية وأحصي رواياته التي رأت النور. وكم كنت فخورا وأنا أجيب صديقي صاحب المكتبة بفخر وأنا أبتاعهما منه، أي روايتا "العارفان" و"طيور السعد"، بأنهما لأستاذي الذي درسني وأنا بعدُ طفلا لا أفقه ما الرواية ولا الراوي. التهمتهما قارئا بشغف وتلذذ في ظرف قياسي وجيز. كنت أسترجع معهما "طفولتي " و"الزمن الجميل" الذي كنا قد عشناه بين مقاعد الدراسة إلى جانب أساتذتنا المحترمين، واسترجعت كذلك ذكرياتنا الجميلة وأستاذنا "سي عبد العزيز" يحدثنا بشغف كبير وحماسة متناهية عن معاصر السكر ببلدتي "شيشاوة" التي تغرق بعيدا في أوحال التاريخ، وتستنجد الأمل في الانبعاث من جديد. كان مجد التاريخ غير بعيد عن مسقط رأسي! كانت شيشاوة في عمق التاريخ ونحن كنا لا ندري حينذاك أنها كذلك...! العارفان صدرت هذه الرواية للأستاذ آيت بنصالح سنة 2018 في 311 صفحة من الحجم المتوسط، توزعت إلى عشرة "فصوص" وإهداء. رواية تعبق بالسر وتحكي بسردية نظيفة عن شخصيتين من تاريخ العالم الإسلامي والتاريخي، الشيخ الأكبر ابن عربي وأبو الوليد ابن رشد وصاحب مذهب "الوجود ينفعل بالجود"، أبو العباس السبتي، أحد السبعة الصالحين الذين تحرس هيبتُهم مدينة مراكش الساحرة ذات الأسرار وتحيطها بهالة من القداسة والتراثية والقِدم. كان أستاذي جسورا وشجاعا عندما أقدم ب"جرأة" منقطعة النظير كاتبا رواية عن الشيخ الأكبر وهو -رحمه الله ورضي عنه-الشخصية المثيرة للجدل ماضيا وحاضرا مستعصيا عن التصنيف! لكن مراكش الحمراء استطاعت بسحرها أن تشده إلى العودة إليها بعد الزيارة الأولى التي كانت من أجل نقل جثمان أبي الوليد بن رشد الفقيه الذي وافته المنية فيها. يتكلف ابن عربي الشاب العارف قبل ثلاثة أشهر من وفاة "مُناظره" في مسألة (نعم_ لا) الشهيرة بنقل جثمانه من مراكش، وهو الفقيه صديق سلطان المغرب والأندلس حينذاك في عهدها الزاهر الأزهر، لتستمر الرواية في كشف مسار الرحلة وما رافقه من مساجلات وحقائق كشفت لابن عربي. لا أخفي دهشتي وأنا أكتشف من طرف خفي أن أستاذنا المراكشي قد لبس جلباب الشخصية المحيرة وسكنها وتحدث بلسانها وأبان عن طموحاته من خلالها-كحيلة أدبية رفيعة-فأبرز سحر وسر مراكش وما تخفيه بين مساجدها وجدرانها وأسوارها وحوماتها وأزقتها وأسواقها ومقابرها من أسرار؛ إذ حاول كاتبنا أن يبديها للعيان ويكشف عنها حجاب النسيان في زمن عنّ لمن يملك مفاتيحها الآن أن يحيلها بساطا أحمر لذوي "أبناء الشاشات" و"بنات الشيشات". أقحم أستاذي سي آيت بنصالح "نظرية" موغلة في المغامرة في الرواية مفادها أن "الفتوحات المكية" للشيخ الأكبر قد اختمرت في ذهنه في مراكش ودوِّنت في المشرق في مستقبل أيامه. وهذه لعمري "مغامرة" كبيرة منه يستحق منا نحن قراءه كل التنويه على ذلك! لكن الرواية فن الممكن ووسيلة لقول ما لا يقال! وابن عربي يستحق أن تُكتب حوله الروايات-كما قال أستاذنا-إذ إن الكتابة عن "الكبار" أمثال ابن عربي وابن رشد وأبي العباس السبتي إبحار شيق ولذيذ في بحور زاخرة ولو كانت مدلهمة وصعبة الركوب! تلك مراكش الساحرة "الصوفية" والمشرَّفة برفات أوليائها وصالحيها ازدهت بهم كما ازدهى بهم التاريخ ردحا من الدهر وما زالت بأوليائها وأبنائها الغيورين محفوظة ظاهرة على "ضراتها" وضر الزمان! كانت "العارفان" رواية بحق عرفانا وصرخة من أحد أبنائها البررة لإعادة لباس الوقار لمراكش ذات الأسرار التي أُريد لها أن تنزعه حاضرا، وهيهات لها هيهات أن تنزع لباسا اختارته لها العناية الإلهية على يد رجال الصلاح والعلم والذوق...! اعتمد كاتبنا المراكشي لغة عربية جزلى دقيقة، ومعاجم مختلفة أعطت لرواياته سحرا تراثيا كان منسجما مع عبق التاريخ-وهو الأستاذ المتخصص-وعمقه وأحداثه وشخصياته دون أن ينسى توظيف معجم غني: حيوانات كالأفراس "الكميت" والخيول "البرذون" والنوارس وطيور السعد (طائر اللقلاق)، إذ إن هذا الأسلوب شائع في الروايات التاريخية الموغلة في عمق ذاكرة المحكي والتراثي، وهو ما أحال الرواية طبقا شهيا أُنزل من عمق التاريخ المجيد المزدهر إلى أرض الواقع المتطلع الحالم. يعود سي آيت بنصالح ليطرق بين دروب "العارفان" تيمات تؤرق الحاضر وتعيد للذاكرة مسار الانتصارات والانتكاسات؛ كالهجرة السرية عبر بحر الظلمات مانحة جثامين الشباب وهم في زهرة عمرهم لقمة سائغة للأسماك وقعر المحيطات وأشياء أخرى تجدونها فصوصا جميلة في بستان رواية "العارفان". طيور السعد تقع الرواية في 221 صفحة من الحجم المتوسط في ثلاثة فصول رئيسية: فسيلة، اصطبار، سوء السبيل. صدرت له سنة 2017، سنة قبل إصدار "العارفان"، عن المركز الثقافي العربي بدعم من وزارة الثقافة المغربية. رواية "طيور السعد" وثيقة أدبية تاريخية علمية تؤرخ بِلغة فنية راقية للفترة السعدية الذهبية للمغرب الذي عاش آنذاك أزهى فترات ازدهاره وانتعاشه الاقتصادي على عهد المنصور الذهبي الذي لُقّب بهذا اللقب نسبة للمعدن النفيس لكثرة ما صُكّت الدنانير الذهبية في زمانه ولشيوع صناعته في مدينتي مراكشوفاس حتى غدا المغرب مصدر تصدير للذهب بطرق مشروعة وغير مشروعة إلى أوروبا المتطلعة! من هنا يطرح أستاذنا سي عبد العزيز آيت بنصالح سؤال التقدم والازدهار إبان القرن السادس عشر بحساب النصارى، وكيف لم يستغل المغرب هذه الفرصة الذهبية للنهوض والإقلاع والتقدم جنبا إلى جنب مع كبريات الدول الغربية الناهضة آنذاك-وهو الدولة المهابة حينذاك-في عيون غيرها بعد وقعة "الملوك الثلاثة"، وماذا لو استغلها وغدا الآن من البلدان التي لا يمكن تجاوزها قوة واقتصادا وتسليحا وهيبة ومهابة. أثّث أستاذنا رواية "طيور السعد" بأحداث تاريخية كانت طي النسيان؛ إذ أبرز من خلال ذلك هيبة المغرب وقوته بعد معركة وادي المخازن المجيدة، والإقلاع الاقتصادي الذي قاده المنصور الذهبي بتأسيسه معاصر السكر بتارودانت وشيشاوة واستصلح حقوله استكمالا لما بدأه والده، وأبرزها تأسيس أكبر معمل لصناعة السكر بشيشاوة التي كانت-في نظر أهل فاس من مستشاري السلطان-أرضا لا تصلح لشيء! ونسوا أن نظراءهم من أهل مراكش-على الطرف الآخر-عَدُّوها فرصة عاصمة الموحدين الضائعة! مكننا سي آيت بنصالح من تخيل معمل السكر ومرافقه وآلية اشتغاله بدقة بالغة تنم عن باحث متقصّ مدقق يتقن حرفته العلمية تلك! كانت "طيور السعد" أيضا دفاعا مستميتا عن مدينة الأسرار مراكش العابقة بسحر الانتصارات والازدهار والعلم والشموخ حتى أصبحت "لقالقُ" قصر البديع تمتهن الحكي عنها وتعشقه كما عشقته "الزهراء"، تلك الفتاة الصوفية الناسكة، العابدة سليلة "رحّال الكوش". تشتاق طيور السعد إليها بعد هجرتها إلى البلاد الباردة الموحشة فتعود إليها مسرعة على جناح الألفة كما كان يحدّث نفسه ابن عربي في "العارفان" أن يعود ويمكث ويستمد منها ويعلم ما لم يكن يعلم فيها! وللقضايا ذات الصلة بواقعنا المعاش بصماتٌ في "طيور السعد". يكتب أستاذنا المحترم: "عامة تكدح، وخاصة تجني؛ ذلك ما تحاول هذه التجربة أن تبلِّغه (يعني الرواية) وعامّة تجني، وخاصّة تكدح؛ ذلك ما تتمناه التجربة ذاتها في واقع نحلم بكتابته كإبداع عذب، إن في مراكش أو في غيرها" ص:126. يعيش القارئ المتذوق مع أحداث الروايتين كمن يعيش غاديا رائحا بين دروب مراكش وأسواقها العامرة ازدهارا ورواجا وربحا-كبغداد تماما أو أكثر-حسب الرواية إبان فترة المنصور الذهبي الذي أحال زمانها ومكانها ازدهارا ونجاحا آنذاك. مراكش حيث "غرام" واحد من الذهب يساوي عشرة قوالب من السكر الشيشاوي! "السكر الذي كدحت فيه العامة كدحا وتضحية فأحسنت، والذهب الذي جنته الخاصة جنيا سهلا، فأساءت" ص: 116. ويمكن تلخيص ذلك الشغف والغيرة المتأصلة لدى كاتبنا المراكشي على مدينة طيور السعد ودفاعه المستميت إعلانا وبيانا بقوله: "وتبقى مراكش الوجهة الرئيسية لعودة المنتصرين بعد المعركة". كم سعدت وأنا أقرأ لأستاذي وأكتب عنه، عرفانا كما "العارفان" وسعادة ك"طيور السعد". أخيرا؛ أقول لمعلمي: "أستاذي راك عزيز". لا أخفيكم سرا وأنا أخط هذه الكلمات وأرصّها أحسست بأنني ذلك "الرجل الطيب" الذي كان يناديني بها سي آيت بنصالح وهو يبتسم لي في مرح وخفة مراكشيتين، ما جعلني أسعد وأنا أرد "جميلا" لأستاذي الجميل.