هل بفعل الفراغ يستطيع الإنسان أن يفعل أي شيء، حتى الكذب وتلفيق الأخبار وتزييفها؟ وهل الفراغ، في المقابل، يجعل آخرين يتقبلون كل شيء دون أدنى غربلة أو تمحيص ويجدون لذة في إعادة النشر والتوزيع؟ لم يعرف العالم شعبوية أكبر من التي عشناها أثناء ظهور وباء كورونا، وهذه الشعبوية للأسف الشديد انخرط فيها حتى أبناء الميدان فقالو عن أنفسهم بأنهم خبراء خلايا وفيروسات ولهم مختبرات معتبرة. وقد انخرط في هذه اللعبة التي تحقق البوز والمليون الطبيب الانجليزي، ونضيره في الصين وفرنسا وكوريا والأردن والمغرب وباقي بلدان العالم. فوجدوا لهم أبواقا ساهمت في نشر شعبويتهم والدفاع عنها على أنها علم وخبرة تستند على البحث والتجربة. من أخطر أهداف هذه الشعبوية كان تخويف الشعوب من اللقاحات حتى تبقى لقمة سائغة في وجه أي سلالة، فمن قائل بالمؤامرة الدولية بتنسيق مع مختبرات عالمية، ومن قائل بمخطط قتل الشيوخ لعدم قدرتهم على الإنتاج والمساهمة في الاقتصاد، إلى قائل بتورط منظمة الصحة العالمية التي تمنح مبالغ خيالية لأي دولة كثر مصابوها وتعددت الوفيات لديها. وأخطر ما تم الترويج له أن الدول تقتل أباءها عمدا طمعا في هذه التمويلات الخيالية إلى درجة أن العديد من الشعبويين نشروا بأن ثمن التعويضات يصل إلى سبعة ملايين عن كل وفاة بكوفيد19. وأن أسر الضحايا ستحضى بجزء من ذلك لكن بعد القضاء النهائي على الفيروس. وأما على المستوى المغربي فقد كانت الشعبوية حاضرة بكل قوة إذ تم تحميل المسؤولية مرة للحكومة واعتبارها شريكا في جريمة قتل المغاربة، لكونها تستغل الوباء لحجر الناس عمدا في منازلهم حتى يكف البعض منهم عن الاحتجاجات المظاهرات، وثارة يتم جلد ظهر رئيس الحكومة لكونه يحترف النقل واقتفاء أثر ماما فرسا. إلى غير ذلك مما لاكته الألسن ونقلته وسائل التواصل الاجتماعي دون أي تمحيص أو عقل أو تفكير. لقد كانت رياح الشعبوية قوية إلى درجة تماهى معها حتى المثقفون والأطر الذين من المفروض أنهم على علم بالمستوى العلمي والكفاءة التي تتوفر في أعضاء اللجنة العلمية المغربية والتي كانت تتخذ القرارات وفقا لما يصلها من تقارير دولية دقيقة، حيث برهنت على تفوقها على الكثير من لجان الدول الأوربية والعالمية. واتخذت قرارات سجلت بها سبقا واستباقا للأحداث حماية للشعب المغربي وحتى تحد من الإصابات في أدنى حد ممكن. إن من أخطر ما فعلته الشعبوية المغربية ونجحت فيه، مباشرة بعد ظهور الوباء، أنها كذبت وجود الفيروس أصلا، وشككت في مصداقية الكمامات على اعتبار أنها تتسبب في أمراض تنفسية أشد فتكا من الفيروس نفسه، ولذا ظل العديد من المغاربة يتصرفون على سجيتهم، يمشون في الأسواق، ويتجولون عاريي الوجوه، بارزي الأنوف، يتصافحون ويتعانقون، حتى أن بعضهم خرج للشواطئ يستجم دون أدنى مبالاة بالأخبار المحذرة والتوصيات الطبية المنذرة. ولكن لم يتم الاقتناع بوجود هذا الفيروس الفتاك إلا بعدما رأى الناس رأي العين أحبابهم يموتون، وأصدقاءهم يفتقدون، وحينها، لعبثنا ولامبالاتنا قد فقدنا الآلاف يوميا كضريبة لشعبوية مريضة أرادت لنا أن نبكي بكاء الثكلى، وأن نتألم ألم الجريح الذي لم ينتبه لجروحه إلى تعفنت والتهبت. ربما من الأخطاء التي وقعت فيها اللجنة العلمية الخروج المتأخر لبعض خبرائها والذين يجيدون التواصل ويتحدثون بصدق ولهم مصداقية علمية عالمية، كخروج الدكتور عز الدين الإبراهيمي رئيس مختبر البيوتكنولوجيا الطبية بالرباط، والذي كان مقنعا جدا ويتحدث بمصداقية علمية عالية، ولكنه لم يظهر إلا في يناير سنة 2021 في الوقت الذي كنا نود أن نراه ونسمعه في فبراير 2020 وما تلاه من شهور عجاف جعلت الشعبوية تجد فراغا للتعشيش والتفريخ.